ديفيد ليوبين
عبدالله بن محمد المحروقي
صدر كتاب "رقص التريليونات: الدول النامية والتمويل العالمي" في عام 2018م. يتحدث الكتاب عن تدفق رؤوس الأموال من الدول المتقدمة إلى الاقتصادات الصاعدة (الدول النامية) والعكس. السؤال الرئيس الذي يناقشه الكتاب هو: ما الذي يجعل رؤوس الأموال تتدفق من الدول المتطورة والغنية إلى الدول النامية وما الذي يجعلها تغادر الدول النامية مرة أخرى. مؤلف الكتاب هو ديفيد ليوبين، وهو زميل مساعد بمعهد تشاثام هاوس Chatham House، المعهد الملكي للشؤون الدولية بلندن، ومدير عام قسم الأسواق الناشئة في بنك سيتي الأمريكي. وقد قسَّم ليوبين كتابه إلى مقدمة وخمسة فصول، وأخذ اسم الكتاب من أغنية "رقص الملايين"، وهي أغنية مشهورة أُنتجت وصفا للانتعاش الاقتصادي الذي تمتعت به دولة كوبا في أعقاب الحرب العالمية الأولى.
استهل الكاتب المقدمة بذكر قصة تدفق رؤوس الأموال إلى كوبا بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى نتيجة ارتفاع أسعار السكر وخفض الاحتياطي الفدرالي الأمريكي لسعر الفائدة؛ مما دفع البنوك الأمريكية والمستثمرين الأمريكان للبحث عن بدائل استثمارية أخرى لتحقيق عائد أكبر. تدمير مزارع السكر في أوروبا في الحرب العالمية الأولى كان له دور أيضا في انخفاض العرض العالمي للسكر وبالتالي ارتفعت أسعار السكر في كوبا وازدهر الاقتصاد الكوبي. وما إن رفع الاحتياطي الفيدرالي سعر الفائدة الاسمي للسيطرة على التضخم، حتى شرعت ملايين الدولارات في العودة إلى الولايات المتحدة على الرغم من أن أسعار الفائدة الحقيقية لا زالت أقل من 0%. ونتيجةً لذلك عانت كوبا أزمة اقتصادية بسبب التدفقات المالية الكبيرة التي هاجرت منها عائدة إلى الولايات المتحدة الأمريكية وكذلك نتيجة تعافي إنتاج السكر في أوروبا بعد استصلاح مزارع السكر عقب الحرب العالمية الأولى. وبعد مضي قرن من هذه الحادثة لا زال الاقتصاديون يتساءلون: كيف يمكن للدول النامية أن تتفاعل مع سوق رأس المال العالمي بطريقة تبعث على النمو والاستقرار بدلا من جعلها عرضة للتقلبات والأزمات كما حدث لكوبا؟ يتتبع الكاتب كيف تغيرت الإجابة عن هذا السؤال خلال الخمسين عاما الماضية، وكيف يمكن أن تتطور الإجابة عن هذا السؤال في المستقبل. ثم تحدث الكاتب عن العولمة، وقد عرفها بأنها ازدهار حركة انتقال السلع والخدمات والبشر والأموال بين دول العالم. وكيف استفادت الدول النامية من العولمة؛ حيث أنه ذكر أن مصطلح الأسواق الناشئة ما كان ليظهر لولا تكامل أسواق السلع والخدمات والأصول بين دول العالم. ثم تطورت العولمة من كونها ظاهرة اقتصادية لتصبح فلسفة (From Globalization to Globalism). والعولمة كفلسفة هي النظرة التي ترى أن التكامل الدولي بين أسواق رأس المال، والسلع، والخدمات، والأيدي العاملة هو بلا شك أمر جيد.
ما الذي يجعل رؤوس الأموال تتدفق إلى الدول النامية؟
في الفصل الأول من الكتاب (Enter Finance) ، ذكر ليوبين كيف تمتعت الدول المصدرة للنفط الخام بفوائض مالية ضخمة نتجية تدفق إيرادات تصدير النفط إلى الدول الصناعية في سبعينات القرن الماضي بعد ارتفاع أسعار النفط عام 1973. وقد ساهم ذلك في إعادة توزيع الثروة بين دول العالم. وقد أدَّى هذا التحول العالمي إلى ثلاث صدمات مكَّنت الدول النامية من الدخول إلى سوق رأس المال العالمي لأول مرة منذ الثلاثينات، وهذه الصدمات هي:
- تدهور كبير في الميزان التجاري للدول المستوردة للنفط (ارتفاع كبير في قيمة الواردات مقابل الصادرات بسبب ارتفاع سعر النفط عام 1973).
- ارتفاع معدلات التضخم.
- انهيار فكرة الطاقة منخفضة التكلفة المنتَجة باستخدام النفط، وقد كانت هذه الفكرة أحد ركائز الاقتصاد العالمي.
منطقيا كان الحل الأبسط للفوائض المالية الناتجة عن تصدير النفط هو إنفاق هذه الفوائض في شراء سلع من الدول المستوردة للنفط. ولكن هذا لم يحصل؛ لأن حجم هذه الفوائض وعنصر المفاجأة فيها جعل ذلك غير ممكن، فاقتصادات الدول المصدرة للنفط لم تكن لتوستوعب إنفاقا بهذ الحجم في شراء سلع وخدمات من بقية دول العالم. إذن، فالحل هو شراء أصول أجنبية وإقراض الدول التي تعاني من العجز في الميزان التجاري والناتج عن ارتفاع أسعار النفط.
وإذا كان هذا هو الحل، فكيف يمكن تحقيقه؟ ما الطريقة التي يجب أن تتم من خلالها عملية تدفق الفوائض من الدول المصدرة للنفط إلى الدول المستوردة للنفط والتي تعاني من العجز الناتج عن ارتفاع أسعار النفط؟ بعبارة أخرى: كيف يمكن إعادة تدوير البترودولارات (عائدات بيع النفط التي يتم إيداعها في البنوك الغربية)؟ عملية إعادة تدوير البترودولارات يمكن أن تتم عبر طريقتين:
- الأولى: أن تتم عملية إقراض الدول المستوردة للنفط بإدارة القطاع العام (الحكومات أو صندوق النقد الدولي).
- الثانية: أن تتم عملية إقراض الدول المستوردة للنفط بإدارة السوق (القطاع الخاص)؛ بحيث تستقبل البنوك التجارية فوائض الدول النفطية كودائع، ثم تقرضها للدول التي تعاني من العجز الناتج عن ارتفاع أسعار النفط لسد عجز الميزانية.
ومع بعض الدعم من حكومة الولايات المتحدة الأمريكية انتصر الاتجاه الذي يرى أن تتم عملية الإقراض بإدارة السوق (القطاع الخاص)، وقد كتب دينس هيلي الذي أصبح وزيرا للخزينة في بريطانيا فيما بعد والمناصر للاتجاه الذي يرى أن تتم عملية إقراض الدول المستوردة للنفط بإدارة القطاع العام: "عارض الأمريكيون ذلك؛ لأن ذلك يعني التدخل في حرية أسواق المال، وكذلك حرية البنوك التجارية الأمريكية في كسب أرباح هائلة من إقراض دول العالم الثالث". الجدير بالذكر أن الاتجاه الذي يرى أن عملية إعادة تدوير البترودولارات يجب أن تتم بإدرة الحكومات أو بإدارة صندوق النقد الدولي كان منسجما مع روح اتفاقية "Bretton Woods"، وهي اتفاقية دولية تمت بعد الحرب العالمية الثانية 1945م وقد وضعت الاتفاقية قرارات تدفق رؤوس المال بين الدول بيد الحكومات وليس الأسواق ولا تجار العملات.
من قصة كوبا وقصة ارتفاع أسعار النفط في سبيعينات القرن الماضي، يتضح أن ارتفاع أسعار السلع الأولية يجلب الكثير من الأموال للدول النامية. وكذلك تلعب الحالة النقدية (سعر الفائدة والتضخم) في الولايات المتحدة الأمريكية دورا هاما في تحديد وجهة رأس المال. وكلما انخفض سعر الفائدة في الولايات المتحدة الأمريكية، لجأت البنوك الأمريكية إلى البحث عن بدائل استثمارية أخرى ومن أهمها إقراض الدول النامية. وكذلك كلما ارتفع معدل التضخم في أمريكا، انخفض سعر الفائدة الحقيقي، الأمر الذي يجعل إيداع الأموال في البنوك الأمريكية خيارا عديم الجدوى (في حال كان سعر الفائدة الحقيقي رقما سالبا) أو في أحسن الأحوال قليل العائد.
إجماع واشنطن
إجماع واشنطن هو مصطلح استحدثه الكاتب جون ويليامسون في الكتاب الذي حرره عام 1990م والذي هو بعنوان “Latin American Adjustment”. باختصار يشير هذا المصطلح إلى 10 توصيات قدمها ويليامسون لصناع القرار في الدول النامية عن كيفية إدارة الموارد الاقتصادية وكيفية اشراك اقتصاداتها مع بقية العالم. وجاءت تسمية هذه التوصيات بهذا الاسم لكون هذه التوصيات متسقة مع المبادئ التي تؤمن بها المؤسسات الاقتصادية التي تقع في واشنطن كوزارة الخزانة الأمريكية وصندوق النقد الدولي. وتوصيات ويليامسون كانت كالتالي:
- تحرير قطاع التجارة.
- تشجيع واستقطاب الاستثمار الأجنبي المباشر.
- تقليص عجز الموازنة.
- إنفاق المال العام بحكمة.
- تقليص دور الحكومة في إدارة الموارد الاقتصادية.
- دعم حقوق الملكية.
- الحفاظ على مستوى منخفض من الضرائب.
- السماح للسوق بتحديد سعر الفائدة.
- الحفاظ على سعر صرف تنافسي.
- تحرير وإلغاء اللوائح والقوانين التي تعوق دخول الأسواق أو تقيد المنافسة.
يُعتبر إجماع واشنطن صورة مختزلة للّبرالية الجديدة "Neo-Liberalism"، وهي -أي اللبرالية الجديدة- الاتجاه الذي يرى أن السوق يجب أن يعطى مسؤولية إدارة الموارد الاقتصادية. يقرر الكاتب أن الكثير يخلط بين إجماع واشنطن وأصولية الحساب الجاري. إن "أصولية الحساب الجاري" "Current Account Fundamentalism" مصطلحٌ استحدثه الكاتب لوصف حالة سماح الدول لجميع أنواع التدفقات بدخول الدولة دون أي قيود. وتشير لفظة أصولية “Fundamentalism” إلى التطرف في تطبيق مبادئ السوق بحيث تكون علاقة الدول النامية بأسواق المال العالمية علاقة غير مقننة، وإنما متروكة بشكل كلي للسوق. وهذا الأمر حسب رأي الكاتب يجعل الدول النامية عرضة للأزمات والتقلبات في السوق العالمية ويجعل حساسيتها كبيرة جدا لما يحدث في الأسواق الخارجية، كما حدث لكوبا في عشرينيات القرن الماضي، وقد تمت الإشارة إلى ذلك.
على الدول النامية أن تفتح أبوابها فقط لتدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر حسب رأي ويليامسون. ولكن ما الفرق بين تدفقات الاستثمار المباشر والتدفقات المالية الأخرى؟ الفرق بين تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر وبين التدفقات الأخرى كالتدفقات الناتجة عن بيع السندات هو السيولة ومعناها سرعة خروج هذه التدفقات من الدولة. فتدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر تعتبر أطول أمدا ولا يمكن أن تتدفق إلى خارج الدولة بسهولة استجابة لتغيرات الأسواق الخارجية.
نحو إجماع بكين
يذكر الكاتب أن الولايات المتحدة الأمريكية حولت هيمنتها الاقتصادية إلى هيمنة فكرية، وأثرت في الفكر الاقتصادي العالمي؛ بل شكلت الولايات المتحدة الأمريكية العولمة لتتناسب مع قيمها ولتخدم مصالحها. ولكن مع التقدم الاقتصادي للصين، بدأت الدول النامية بالتأثر بالطريقة الصينية في الإدارة الاقتصادية. ويرى الكاتب أن النظام المالي العالمي يتحول من إجماع واشنطن إلى إجماع بكين. ولكن كيف سيكون شكل النظام المالي العالمي بعد هيمنة القيم الاقتصادية الصينية؟ على الأقل ستتغير موازين القوة بين الحكومة والسوق، فالنظام النقدي الدولي الذي تسيطر عليه الأسواق الحرة حيث أسعار الصرف العائمة وحسابات رأس المال المفتوحة لا يتناسب مع الذوق الصيني. وقد عبَّر تشو شياو تشوان محافظ البنك المركزي الصيني عن الرؤية الاقتصادية الصينية بما سماه “Managed Convertibility” قابلية التحول المدارة أو التحول المدار، حيث تفرق الصين بين تدويل رأس المال وتحرير رأس المال. فالصين لا تقبل دخول جميع أشكال تدفقات رؤوس المال دون تمييز، وتفرق بين الاسثمار الأجنبي المباشر والاستثمارات التي يكون الغرض منها المضاربة والاستفادة من تقلبات الأسعار. من وجهة نظر الصينيين أن الكلمة الأخيرة في تحديد التدفقات المالية المرغوبة من غيرها هي لصناع القرار وليست للسوق.
ما الذي يجب أن تفعله الدول النامية؟
السماح للدول النامية بدخول سوق المال العالمي ليس أمرا سيئا، لأن ذلك يسمح لها بتمويل مشروعاتها وبالتالي تحقيق النمو الاقتصادي. ولكن عليها أن تعد اقتصاداتها للتعامل مع التقلبات في الأسواق العالمية وتحسن من جاهزيتها لاستقبال الصدمات. وفي هذا الصدد يقدم الكاتب درسين للدول النامية:
- الدرس الأول: على الدول النامية أن تجمع كميات كبيرة من احتياطيات العملة الأجنبية، وذلك لبيعها في حال الأزمات، عندما تتدفق رؤوس الأموال إلى الخارج. وبالتالي تحقيق الاستقرار لاقتصاداتها.
- الدرس الثاني: على الدول النامية أن تتجنب سياسات أسعار الصرف الثابتة؛ لأن ذلك يخلق وهما بأنه لا توجد مخاطر على العملة.
ستيجلتز وإجماع واشنطن
يرى الخبير الاقتصادي المخضرم جوزيف ستيجلتز (حاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد) أن إجماع واشنطن ليس شرطا للنمو وأن ثمة دولا (مثل بوليفيا) اتبعت توصيات إجماع واشنطن وانتظرت لتقطف ثمارها، ولا زالت تنتظر. وفي المقابل لم تتبع الصين توصيات إجماع واشنطن ومع ذلك شهدت نموا مطردا.
الكتاب والهيمنة الأمريكية
اتسم الكتاب بوضوحه وسهولة أسلوبه. وبالرغم من أنه لا يحوي أي رسم بياني أو جداول كعادة الكتب الاقتصادية، إلا أنه نجح في إيصال فكرته وشرحها بوضوح تام.
تروي بعض أدبيات نظرية المؤامرة مقولة للملياردير اليهودي جاكوب روتشيلد: "سنجعلهم يسرقون أموال شعوبهم ليودعوها في بنوكنا ثم نعيد إقراض شعوبهم من أموالهم"، تشبه هذه المقولة إلى حد كبير عملية تدوير البترودولارات، لكن لا نستطيع أن نجزم بأن ثمة علاقة بين الأمرين نظرا للغموض الذي يكتنف البنوك والاحتياطي الفدرالي من حيث ملكيتها.
يدرك الجميع أن الولايات المتحدة الأمريكية متحكمة بشكل كبير بالاقتصاد العالمي، وليس أدل على ذلك من كون الدولار العملة الأولى عالميا والعملة المستخدمة في مؤشرات أسعار السلع العالمية كالنفط والذهب، ولكن القليل من يعرف كيف يتم ذلك عمليا. في الواقع، يوفر الكتاب قاعدة نظرية لإثبات مقولات الهيمنة وكتابات نظرية المؤامرة.
الكتاب: Dance of the Trillions
المؤلف: David Lubin
الناشر: The Brookings Institution Press
سنة النشر: 2018
عدد الصفحات: 147
