«متفائل» لأوري أفنيري

uriavnery_optimi2_master.jpg

فوزي البدوي (أستاذ الدراسات اليهودية رئيس قسم الأديان المقارنة جامعة تونس كلية الآداب بمنوبة)

 هذا هو الجزء الثاني من السّيرة الذّاتية لأوري أفنيري (بالعبرية:אורי אבנרי) الكاتب اليساري الإسرائيلي الشهير والمناصر للقضية الفلسطينية وصديق عرفات الشخصي. وهو وإن كان صهيونياً في بداية حياته إلاّ أنّه يعتبر نفسه اليوم من أنصار ما يُعرف بالصهيونية الجديدة أو ما بعد الصهيونية وقد انخرط منذ ما يُقارب الثمانين سنة في كل الأحداث المصيرية التي عرفها الكيان الإسرائيلي والمنطقة من موقع الملاحظ أحيانا والشريك أحياناً أخرى وباعتباره صانعا لها أحيانا أخرى.

 وأوري أفنيري هو الاسم اليهودي لهلموت اوسترمان المولود سنة 1923 بمدينة بوخوم الألمانية وقد تربى بعد هجرته من ألمانيا إلى فلسطين في بداية الثلاثينات في أحضان منظمة الإرغون إحدى الأذرع الثلاثة العسكرية للحركة الصهيونية برئاسة دافيد رازئيل، وكان ذلك في سن الرابعة عشرة. ويذكر في سيرته الذاتية أنه سرعان ما غادرها سنة 1941 أي قُبيل نهاية الحرب العالمية الثانية؛ وكما يقول في مذكراته لسياستها المناهضة للعرب وآيديولوجيتها المعادية للقضايا الاجتماعية.

ويذكر في سيرته هذه أنه عاود الانخراط في الهاجاناه نواة الجيش الإسرائلي في حرب 1948 في لواء جغعاتي، وبالتدقيق في وحدة الكوماندوس المعروفة بثعالب شمشون ( שועלי שמשון‎‎) وهو الاسم المستوحى من سفر القضاة من التوراة، وعمل تحت قيادة الجنرال تسفي تسور، وشارك في بعض عملياتها المعروفة.
אורי_אבנרי_-_הפגישה_עם_ערפאת_בביירות_הנצורה,_1982.jpg

 وكانت هذه الحرب كما جاء في مذكراته هي آخر حرب خاضها ضد العرب الفلسطينيين فقد توجّه بعدها مباشرة إلى العمل الصحفي داخل جريدة هارتس وفيها اكتشف حدود الحرية الصحفية ومتاعب المهنة، فقد بدأت بدايات نزوعه إلى مناهضة السياسة الإسرائيلية الرسمية وبن غوريون تحديدا، فاعترض في مقالات عدة على مبدأ مصادرة الأراضي الفلسطينية التي بدأت متسارعة بعد 1948 في سباق مع الزمن لاستثمار النجاحات العسكرية والسياسية. ولهذا غادرها بسبب ما اعتبره حدّا من حريته في الكتابة ليبدأ في الكتابة في أسبوعية جريدة هاعولام هازيه التي تمكن من شرائها من مالكها الأصلي. وفي صفحاتها ستظهر شخصية أوري أفنيري الأساسية كمناضل يساري مناهض للسياسات الرسمية الإسرائيلية إلى حدود سنة 1993 تاريخ توقفها عن الصدور.

وقد وصف في سيرته الذاتية هذه بجزءيها جزءا من الأزمات التي تعرض لها أثناء إدارته لهذه الأسبوعية خصوصًا بعد فضحه للممارسات التي قامت بها الوحدة 101 تحت قيادة "البيلدوزر" أريال شارون سنة 1953 في ما عُرف بمجزرة قبية الأردنية، وهو ما كلفه اعتداء أعضاء هذه الوحدة عليه وعلى رئيس تحرير جريدة هاعولام هازيه صديقه ورفيقه في الكنيست الإسرائيلي شالوم كوهين؛ مما استوجب بقاءه في المستشفى لفترة طويلة.

كما سرد في سيرته هذه ما تعرضت له أيضاً تجربته الصحفية سنة 1955 عندما تمَّ تفجير مقر هاعولام هازيه بقنبلة مزروعة بسبب تعرضه بالنقد لرئيس بلدية حيفا " أبا حوشي" אבא חושי لممارساته المناهضة للعرب الفلسطينيين.

 ويمكن القول إنَّ هذه السيرة كشفت كيف أنَّ تجربته مع مجلة هاعولام هازيه قد عرفت به مناضلاً شرساً في كشف صورة إسرائيل السيئة والقبيحة دون "خوف ولا مواقف مسبقة" كما يقول هو عن نفسه ليس فقط فيما يتعلق بالقضايا الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلى بل وأيضا فيما يتعلق بالمجتمع الإسرائيلي نفسه من خلال فضحه في عدد من المقالات التي كتبها في الخمسينيات عن منزلة اليهود السفارديم أو الشرقيين، وما يتعرضون له من التمييز، كما كشف عن فضيحة لافون الشهيرة التي هزت الأوساط الإسرائيلية الرسمية .

وساهم طيلة بقاء هاعولام هازيه في خلق نوع جديد من الكتابة الصحفية لم يكن معهوداً في الأوساط الإسرائيلية المحافظة آنذاك متميزا بالدقة والحيوية والصوت العالي وغير المتواطئ.

وسرعان ما استهواه العمل السياسي بعد العمل الصحفي فقام على ما يذكره في سيرته الذاتية بالمساهمة سنة 1967 وقبيل حرب الأيام الستة بسنتين في تأسيس حزب هاعولام هازيه الجديد ليخوض به انتخابات الكنيست، وهو الاسم الشائع للحزب اليساري الراديكالي المعروف اختصاراً باسم " ميري " מר"ימחנה רדיקלי ישראלי ومن خلاله تمكن من دخول الكنيست سنة 1965 إلى حدود 1973 تاريخ اندلاع حرب أكتوبر ثم ليعود إلى الكنيست من جديد لثلاث سنوات في ما بين 1979- 1981 وقد خصص أكبر حيز من الجزء الثاني من مذكراته لهذا القسم من حياته، حيث تبسط في وصف مشاركاته وقضيته التي ناضل من أجلها، وهي قضية السلام الإسرائيلية الفلسطينية التي كان في كثير من مواقفه رائداً وسباقًا في عرضها والدفاع عنها. من ذلك أنّه، ومنذ سنة 1949 أي بُعيد قيام إسرائيل، أدرك ضرورة إنهاء الصراع وإيجاد حل مبكر، فكان من أوائل من دعوا إلى حل الدولتين وصعوبة السير في مسار تكوين دولة ثنائية القومية.

فقد فهم منذ ذلك التاريخ أنّ الوقت يضغط من أجل حل للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، كما أنه أدرك منذ حرب 1967 وفي فورة الانتصارات الإسرائيلية وتنامي ظاهرة الصحوة الدينية اليهودية أن ذلك هو الوقت المناسب لتحقيق حل الدولتين قبل فوات الأوان. وهذا الفهم المبكر لطبيعة الصراع ومستقبله هو الذي دفع به مبكرا أيضا إلى الاتصال بشكل سري بمنظمة التحرير الفلسطينية في البداية ثم بشكل علني، وهو الأمر الذي كلّف الكثيرين من الفلسطينيين حياتهم إذ تمت تصفية اثنين من كبار القيادات الفلسطينية من قبل تنظيم صبري البنا أبو نضال الرافض لأي نوع من الاتصال آنذاك، ومن بينهما الدكتور عصام السرطاوي مُمثل منظمة التحرير في لشبونة.

ويكشف أوري أفنيري أنَّ هذه المعارضة لم تكن من جانب الأوساط الفلسطينية فقط بل كانت أشد وطاة داخل المجتمع الإسرائيلي، وعرفت ذروتها في النهاية الأليمة التي عرفها إسحاق رابين علي يد إيغال عمير، عميل جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي. والواقع تحت تأثير اليمين الديني وفتاوى "دين روديف" المنسوبة فقهيا إلى الربي موسى بن ميمون القرطبي، وقد كلفته هذه المواقف غالياً من صنوف العداء والتهميش ومناهضة جزء كبير من الرأي العام الإسرائيلي لهذه المواقف والاتصالات.

 وكانت قمة هذه المواقف وأشدها أثرًا في الرأيين العامين الفلسطيني والإسرائيلي التقاؤه بالزعيم ياسر عرفات في صيف 1982 أثناء حرب لبنان حينما اجتاز الحدود، وكانت تلك هي المرّة الأولى التي يلتقي فيها القيادة الفلسطينية إسرائيلي بشكل علني من أجل النقاش حول سُبل حل النزاع الإسرائيلي الفلسطيني، ثم التقاه بعد ذلك مرّات كثيرة بل ذهب به الأمر إلى حدّ لجوئه إلى المُقاطعة حيث كان الرئيس عرفات محاصرًا مدافعاً عنه من خلال درع بشري حتى لا تنال منه القوات الإسرائيلية المُحاصرة والمتوثبة والمنتظرة لأوامر شارون، وهو عمل لم ينسه له اليمين الإسرائيلي القومي والديني منه على وجه الخصوص مطلقاً.

وكان موقف أوري أفنيري واضحاً من عرفات فقد اعتبره دوماً رجل سلام ومخاطبا جديا لإسرائيل يمكن التعامل معه والوثوق به، وقال في تأبينه في ذكرى وفاته كلاماً بليغاً في جريدة هآرتس الإسرائيلية معتبرا إياه أحد كبار قادة العالم وزعمائه في النصف الثاني من القرن العشرين.

وفي عام 1993 أي بعد حوالي أكثر من عشر سنوات على لقائه عرفات أسس كتلة السلام أو غوش شالوم גוש שלום، التي قامت أدبياتها على ضرورة الدّفاع عن فكرة إقامة دولة فلسطينية إلى جانب الدولة الفلسطينية متبنية بذلك حلّ الدولتين، بعدما تبيّن أنَّه لم يعد هناك إمكانية للدفاع عن فكرة الدولة الثنائية القومية، وهو ما يجعلها في هذه النقطة بالذات في توافق تام مع حركة السلام الآن أو " شالوم عاخشاف " التي أسّسها حوالي ثلاثمائة من ضباط الاحتياط الإسرائليين مطالبين بعودة إسرائيل إلى حدود 1967 وقبول حلّ تقسيم القدس وإنكار أن تكون عاصمة موحدة لإسرائيل .

وتكشف سيرة أوري أفنيري في جزئها الأخير أنّ خيار تكوين الحركة كان قرارا واعيا ومسؤولا؛ فقد خرج من تجربة الحزب الذي أسسه في الستّينيات بقناعة أن الحركات أهم من الأحزاب، معتبرًا منذ سنة 2006 أن تأثير الحركة هو بمثابة "أثر اللولب الصغير" الذي بدورانه يدفع قطعًا صغيرة أخرى إلى الدوران إلى أن يتحرك الوسط أو المركز نفسه "معتبرًا ذلك هو مصير كل الحركات الإسرائيلية المشابهة وقدر القوى الحية في إسرائيل في المستقبل. ولم يخف قط مساندته تبعاً لهذه القناعات لمؤتمر مدريد للسلام ولاتفاقية أوسلو التي يرفضها اليمين الإسرائيلي القومي الراديكالي والديني بالأساس واعتبرها اتفاقية جيدة للسلام ولإسرائيل معتبرًا أن البنود التفصيلية غير مهمة. ومهما كانت الثغرات والهنات فإنّها السبيل الوحيدة للخروج من الوضع المتعفن، وهي وإن كانت كما يقول بمثابة الجبنة السوسرية المليئة بالثقوب إلاّ أنها أفضل الحلول الممكنة متفقًا في ذلك مع ما رُوي عن عرفات وبعض مستشاريه من أنهم قبلوا بهذه الاتفاق باعتباره الاتفاق الأفضل في الظرف الأسوأ. وقد استغل اليمين الديني الإسرائيلي هذاالموقف ليشنع على أفنيري كما يقول في سيرته معتبراً إياه خائنًا بسبب أن غيرته لم تكن على إسرائيل بقدر ما كانت على الفلسطينيين، وأنه عوضاً عن أن يسأل نفسه هل هذا الاتفاق جيّد بالنسبة إلى إسرائيل أم لا كان سؤاله معكوسًا، وهو هل هذا الاتفاق جيد بالنسبة إلى الفلسطينيين أم لا .

إن هذا الكتاب فريد ليس فقط بأسلوبه الحكائي والسردي المشوق ولغته العبرية الرشيقة، فقد كشف خلف شخصية السياسي والمناضل اليساري عن رجل يتقن فن السرد والحكاية؛ فطوال الصفحات الألف للجزءين لا يشعر القارئ بالملل وهو يُتابع سرديته التي تحاول الربط بين الأسلوب المُمتع والقص التاريخ ومناقشة قضايا آيديولوجية وسياسية وقانونية، بل وفلسفية معقدة ولهذا يظل شهادة لا غنى عنها لمن يريد أن يفهم جزءا مهما من تاريخ إسرائيل الحديث ومختلف الأزمات التي مرت بها وجزءا مهما من تاريخ العلاقات الفلسطينية الإسرائيلية والمفاوضات السرية والعلنية التي بدات قبل أوسلو بكثير من خلال مصدر رئيسي ساهم في جزء كبير من صياغتها.

والكتاب مهم أيضًا للمشتغلين بالقضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي من جهة أنه يكشف من خلال السيرة الشخصية لأحد رموز اليسار الإسرائيلي الراديكالي المنتقل من ألمانيا طفلاً إلى انخراطه في المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، بل وفي أشّد منظماتها تلطّخا بالدّم الفلسطيني قبل 1948 ثم توجُهه للعمل الصحفي فالسياسي الحزبي، ثم من خلال الحركات غير الحزبية والمجتمع المدني عن كيفية تفكير جزء من النخبة الإسرائيلية اليسارية التي لم تنكر يوماً ولاءها للحركة الصهيونية ولكنها ليست مستعدة إلى الدفع بإسرائيل إلى أقصى الطروحات الانتحارية لليمين الراديكالي القومي والديني، ومستعدة لرؤية الصراع في جوانبه القانونية والسياسية دون الطروحات الغيبية والدينية والشوفينية، وقد بلغ هذا ذروته في الطريقة التي كان يكتبها أفنيري عن عرفات المليئة بالاحترام في مقابل الاستنقاص الذي عمل به كل الزعماء والسياسيين الإسرائيليين بدءا من بن غوريون إلى بنيامين نتنياهو، وهو أمر تتقاسمه وإياه كل عناصر اليسار الراديكالي الإسرائيلي بدءًا من موشيه سنيه إلى مائير فلنر وشولاميت ألوني ومائير بيليد ويوسي ساريد ويشعياهو ليبوفيتش إلخ ....

ولم ينس أوري أفنيري أن يترك في الكتاب حيزًا لمن قاسمته حياته في حلوها ومرها وما عاشه وإياها من صراعات وخلافات ونقاشات حول الكثير من اختياراته السياسية والمهنية بدءًا من التفريط في مجلة هاعولام هازيه لأحد المستثمرين القريبين من أريال شارون وغير ذلك. ويبدو أن في ما كتبه عنها واللهجة التي كتب بها والوصف العميق للعلاقة العاطفية التي ربطت بينهما إلى حين وفاتها ما يدل على أن الكتاب قد كتب من أجل الإيفاء ببعض دين لها عليه لم يُوفق في أدائه وهي على قيد الحياة.

لقد كلّفت هذه المواقف السياسية أوري أفنيري ثمناً باهظا من معاداة اليمين الديني المتشدد والاستيطاني بلغ حدًا تجرأ فيه زعيم الجبهة القومية اليهودية باورخ مارزيل على الدعوة إلى قتله حينما اعتبر أفنيري أن اغتيال وزير السياحة الإسرائيلي رحبعام زئيفي المنادي بالترانسفير في حكومة أريال شارون من قبل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين انتقاماً لاغتيال أبو علي مصطفى، أمين عام الجبهة في أغسطس 2001 أمرًا يمكن تفهمه .

ولحسن الحظ لم تكن حياة أفنيري تعباً كلها فإلى جانب هذه المواقف المناهضة عرف أفنيري تكريماً من مؤسسات عالمية فتحصل على جائزة رايت ليفيلهوود سنة 2001 وهي المعروفة بجائزة نوبل البديلة "بسبب اعتقاده الراسخ في خضم العنف القائم بأن السلام لا يمكن بلوغه إلا بفضل العدالة والمصالحة " كما جاء في نص الجائزة .

وبالرغم من أنّ الأوساط اليمينية اليهودية والصهيونية اعتبرت هذه السيرة بمثابة سيرة رجل مسكون بجنون العظمة أخفى الكثير من معايبه التي صرفت الكثير من أصدقائه ورفاقائه عنه وانشقاقهم عنه. أما هو فيرى أنَّه بالرغم من بلوغه الثالثة والتسعين إلاّ أنّه ظل كما يقول عن نفسه متفائلا بالمستقبل: مستقبل أطروحاته وخياراته من أجل حل عادل للصراع الإسرائيلي الفلسطيني أولاً والصراع العربي الإسرائيلي لاحقًا. ولذلك ردّد دوما أنه انسلخ عن الصهيونية التقليدية من أجل صهيونية جديدة هي صهيونية ما بعد الصهيونية التي نجد بعض تطبيقاتها النظرية في بعض ما يكتبه المؤرخون الجدد في إسرائيل عن تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي.

----------------------------------------------------

 عنوان الكتاب: متفائل، الجزء الثاني

المؤلف: أوري أفنيري

الناشر: منشورات يديعوت أحرونوت 2016 .

عدد الصفحات: 557 صفحة

اللغة: العبرية

 

أخبار ذات صلة