كاملة العبري
في فترات كثيرة من التاريخ الإسلامي كان يتم إقصاء العقل لصالح النقل وتبع ذلك تهميش للآراء المختلفة ووصفها بالهرطقة وغيرها من الألقاب، لماذا ساد العقل على النقل في الإسلام؟ يناقش هنا علي مبروك في مقاله "من الثيولوجي إلى الأنثروبولوجي: قراءة في الترتيب الذي ساد الإسلام للعلاقة بين العقل والنقل" الأسبابَ التي أدت لهيمنة النقل على العقل وتبعات ذلك وما هو دور الثقافة التي سبقت الإسلام للتمهيد لهذه السيطرة. هذا المقال يناقش بشكل واسع أثر الدين والثقافة في سيادة جانب واحد من التفكير دون سواه.
بداية يرى مبروك أن سبب هيمنة النقل على العقل ليس كونه يمثل "الحقيقة" بل لأنه الطرف الذي يقف بجانبه " الأقوى" فبسبب تجاوبه مع خطاب السلطة أصبح مهيمنا وأصبحت له السيادة، فسبب نجاحه لا ينبع من داخله بل من خارجه، تبعا لذلك أصبح دور العقل هو إثبات التنزيل فقط وليس بناء التأويل مثلما هو المفروض. هيمنة رأي واحد أو طريقة واحدة في التفكير تكرر بعدها كثيرا في التاريخ الإسلامي وذلك أدى إلى غياب التسامح وانتشار ثقافة ترى أنها هي الممثل الوحيد للحقيقة، فانتشار ثقافة غير متسامحة ودور السلطة في نشرها أدى إلى ظهور نزعات غير متسامحة. كان سيكتمل هذا الجزء أكثر لو بَيّن مبروك كيف عملت السلطة على هيمنة النقل على العقل ودافعت عنه.
ولأن العقل يتأثر بالثقافة التي يوجد فيها يوضح بعد ذلك مبروك الفرق بين "الثقافة الإسلامية" و "الثقافة التي سادت الإسلام" حيث يعبر الأول عن مساحة واسعة تتفاعل فيعا أنساق واتجاهات شتى دون قيود ويغلب عليها التسامح والتنوع فإن الثاني مختلف تماما، حيث يعبر عن هيمنة ثقافة واحدة للإسلام بحيث أصبحت هي ذات السيادة والمعبر الوحيد عن الإسلام وهمشت غيرها من الثقافات. وكان من المحال أن يستطيع هذا " العقل " وحده الإحاطة بكل جوانب الإسلام.
كيف أثرت الثقافة التي سبقت الإسلام في تكوين العقل الإسلامي؟
يرى مبروك أن الثقافة التي سادت قبل الإسلام ساهمت في تكوين العقل الإسلامي، فلغويا العقل (مأخوذ من عقال البعير لأنه يمنع ذوي العقول من العدول عن سواء السبيل)، يقول مبروك " فإن ذلك يكشف عن مركزية الدور الذي لعبته البداوة في تحديد العقل منذ البدء؛ وأعني من حيث جعلت البعير - الذي هو مركز محيطها وأساس وجودها كله- هو أساس التحديد اللغوي للعقل وأصله". وإذا كان العقل لغويا يعني التقييد فإنه في القرآن يأتي بمعنى الإدراك أي أنه فعل تحرير لا تقييد. كما يرى مبروك بأن الثقافة العربية التي سبقت الإسلام والتي لم تعرف العمران واعتادت على "الجاهز" من المعاش كان لها أثر في العقل الإسلامي، فتلك الثقافة بنظر مبروك اعتادت على الاستهلاك لا الإنتاج، فهي كانت تعيش على جهد الآخرين ولم تنتج معاشها بنفسها وانعكس ذلك على تعامل العرب مع الدين فعقيدة الكسب الأشعري تقوم على استهلاك فعل الغير، والغير هنا كما يقول مبروك هو الله. وقد يكون كلام مبروك هنا صحيحا فحتى اليوم نرى أن المسلمين يعيشون أزمة أفكار من حيث أننا نقوم باستهلاك أفكار الغير ولا ننتج الجديد؛ فالأمر لا يقتصر على المجال الديني فقط بل في جوانب متعددة، ومن الطبيعي بما أن العرب اعتادوا على الجاهز من الأفكار أن يكتفوا بما قاله العلماء الأوائل والفقهاء السابقون دون أن يضيفوا فيها شيئا بل إنهم أيضا صبغوها بالقداسة وأصبح نقد تلك الأفكار بمثابة الكفر الذي سيؤدي إلى اعتبار صاحبها خارجا عن الملة والدين، وهنا تزداد هيمنة النقل على العقل ليصبح دور العقل هامشيا.
بعد ذلك ناقش مبروك أنه توجد احتمالية لوجود علاقة بين "النقل" وبين "التنقل" أي الانتقال من مكان لآخر وهو الذي اعتاده البدو، فالتنقل أثر حتى في طريقة تفكير البدوي بحيث جعلها غير مترابطة وأثر ذلك بدوره على العقل الإسلامي. وهذه الفكرة لم تقنعني فهذا الكلام يفترض خصيصا أن العرب جميعهم كانوا رُحّلا ينتقلون من مكان لآخر وأن العقل الإسلامي لم يتأثر إلا بالبدو الرحل بينما العرب المستقرون في شكل قرى وتجمعات لم يتأثر بهم مع أن القرآن ذاته نزل بمكة وليس بالبادية، كما أنه يلقي باللوم على الثقافة البدوية. يعرج مبروك بعد ذلك للحديث عن الطبيعة النقلية للعلوم التي كانت موجودة عند العرب قبل الإسلام والتي أثرت بدورها على هيمنة النقل على العقل بعد الإسلام. يقول: "علم العرب الذي كانوا يفتخرون به هو علم لسانهم ونظم الأشعار، وتأليف الخطب وعلم الأخبار ومعرفة السير والأعصار" وبالتالي فإن هذه العلوم لا تحتاج سوى إعادة ما قاله الأسلاف وتكراره، وقد أغفل مبروك هنا أن الكثير من علماء الإسلام من أهالي البلاد المفتوحة من الذين لديهم علوم كثيرة غير نقلية ولديهم من الفنون والفلسفة والعمران مما لم يكن موجودا عند أهالي جزيرة العرب والذين ساهموا بشكل كبير في مختلف العلوم الإسلامية وكان لهم أثر عظيم في علوم الفقه والحديث، أفلم يكن من المفترض أن يؤدي هذا إلى حدوث تغيير فعلي لو كان الأمر فعلا يقتصر على نوع وطبيعة العلوم الموجودة سابقا قبل الإسلام؟
فيما يتعلق بالقبيلة يرى مبروك أن "الأصل الواحد" أو "الجد المشترك" الذي يعود إليه نسب كل قبيلة والتعصب على الأنساب عند العرب تسلل إلى العقل العربي فانتقلت طريقة التفكير من الأصل المشترك في النسب إلى "النص الأصلي" في الإسلام، وهنا انتقل النظام الأبوي إلى الدين، ومثلما يتعصب العرب لأنسابهم ويحافظون عليها تعصبوا أيضا للنصوص وحافظوا عليها.
مقال علي مبروك هذا متشعب وغني بالكثير من التحليل العميق لخلفية هيمنة النقل على العقل وأسبابه المتعددة من الثقافة والسلطة والقبيلة، لكن كما قلت سابقا وددت لو أنه توسع في الحديث عن دور السلطة في هيمنة جانب أحادي في التفكير، لأني أرى بأن له الأثر العظيم في تهميش العقل.
