الدعوة المحمديَّة من الجانب السياسي

أحمد المكتومي

طِيْلة تاريخهم المديد، لم يتوقَّف المسلمون عن تنزيل المسائل السياسية والدولة والسلطان السياسي منزلة الموضوع الأهم في جُملة مواضيع الجماعة والأمة والمجتمع الإسلامي التي شغلتهم منذ بواكير الدعوة المحمدية.. عبدالإله بلقزيز تحدَّث في مقاله الصاخب بمجلة "التسامح" "ما قبل نظرية الدولة: المسألة السياسية في إسلام الصدر الأول" عن إشكاليات عدم تنزيل السياسة والسلطة ضمن القضايا التي يجب على المسلمين الاهتمام بتفاصليها، وعدم جعلها جزأين مستقلين من جُملة الطقوس الدينية.

المسلمون كعادتهم مختلفون عن أهل الملل الأخرى من المسيحيين والهندوس...وغيرهم ممن أوجدت نصوصهم وتجاربهم التاريخية توازنا مقبولا بين العقيدة والحياة؛ فلو أتينا من الجانب السياسي فإنَّ أسس إقامة هذه الدول هو الفكر العلماني الذي هو بدوره مرفوض من قبل جماعة المسلمين الذين يرون أنَّ الدين والسياسة والاقتصاد هي كتلة واحدة تنصبُّ فوق رأس المجتمع المدني. وعليه؛ يكون الجانب الروحي شاملا لجميع جوانب الحياة. ومن هذا المنطلق، يأتي الجدل العميق في كيفية توازن الحقبة المحمدية من الجانب السياسي توازنا أشبه أن يكون مثاليا، وحتى بعد وفاته -صلى الله عليه وسلم- وذلك في حقبة أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضوان الله عليهم.

ولكن: هل اشتملت رسالة الإسلام على رسالة دينية ومشروع سياسي في آن واحد؟ إنَّ الصدام السياسي الكبير بين أوروبا الاستعمارية وبين الدولة العثمانية أعاد الصلة بين الدين والثقافة وبين السياسة في أعين المستشرقين، وهذا كان مصحوبا بصحوة إسلامية عظيمة في أعظم الدول العربية وهي مصر، ثم تلتها الهند، ومن بعدها باكستان التي لعبت دورا كبيرا في غرس الفكرة الدينية في عمق التخبط السياسي. وهذا كله كان في معظم كتابات المستشرقين والكتاب، مناشدين بالوعي الإسلامي؛ وكان من بينهم: رشيد رضا، وحسن البنا، وسيد قطب، وأبو الحسن الندوي. حيث ردَّد الكتاب تعريف الإسلام بأنه دين ودولة، وكانت هذه شرارة أمل من أجل صحوة إسلامية لم تشهدها القرون الماضية.

لقد أنتجتْ الدعوة المحمدية جماعة وهي "جماعة المسلمين"، والتي تسمَّت باسم رسالة نبيهم، حيث إنه لم يكن من السهل تشكيل مثل هذه الجماعة خاصة في بداية الدعوة التي لا تتعدى الحيز القريشي والقبلي، وهذا عائد الى ضيق المجال المكاني أو بسبب قوة الممانعة التي أبداها المجتمع المكي ضد دعوة تقترح تدمير المنهج الوثني وعائداته الاقتصادية والتجارية، أو تفرض نظاما جديدا قوامه المساواة في الدين. وهذا الأمر كان لقريش عظيما؛ حيث امتازت قريش بأفضلية مطلقة على الصعيد المادي والقبلي، فكيف ترضى بأنْ تتساوى مع جملة العبيد والذين يشكلون السواد الأعظم. فمع كل هذا استجاب عدد لا يزيد على عشرة -كما أحصته كتب السير- إلى الدعوة المحمدية مع أنها كانت سرية، ثم بمقتضى أمر الوحي "وأنذر عشيرتك الأقربين" أن يبدأ النبي الدعوة من محيطه الهاشمي، إلا أنَّ حصيلته كانت ضيقة جدًّا للأسباب التي ألمحنا إليها. فقد كانت هذه المحنة النبوية في التبليغ وكسب الأنصار والتقدم في بناء جماعة اعتقادية قوية ومتماسكة من جملة الأسباب التي حملت على الهجرة الاضطرارية من مكة إلى يثرب ومعها البحث عن جمهور جديد خارج النطاق المكاني (مكة المكرمة). ومن هذه النقطة، انتقلتْ الدعوة النبوية من الجانب الديني إلى الجانب السياسي لا يفارقها الدين. فيمكن القول بأنَّ جماعة المسلمين في مكة تحولت لجماعة سياسية بعد الهجرة إلى يثرب. لم يقتصر الأمر على التوسع في الدعوة بل امتد الأمر إلى المؤاخاة بين الأوس والخزرج (الأنصار) والمهاجرين، حتى شملت المخالفين في الملة من القبائل اليهودية التي أبرم النبي معها عقدا سياسيا أو دستورا سياسيا يُؤسِّس مبكرا لعلاقة المواطنة وهي الاشتراك في الموطن لا في الدين؛ ففي الحقيقة أنَّ دولة المدينة هي دولة إسلامية بحتة. وقد أمكنها أن تتحول إلى دولة إسلامية وهو نقض الميثاق النبوي بين يهود قريظة وبني القينقاع وبني النظير بسبب غدرهم، وقد وصل ذروته في الاصطدام المسلح والتصفية المادية الشاملة الذي عبرت عنه معركة خيبر.

ومع تزايد جمهور المؤمنين برسالة الإسلام واتساع نطاق الدعوة؛ بحيث فاضت عن المجال الحجازي لتشمل سائر الجزيرة العربية في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا أنَّه لن يكون عصيا إدراك حقيقة أنَّ ذلك التزايد في جمهور المسلمين والتوسع الجغرافي لم يكن حكما ولم يعن أن رسالة الإسلام تغلغلت عميقا في وجدان المخاطبين، والدليل على هذا الأمر -كمَّا فسره عبدالإله بلقيز- عائد إلى واقعتين: الأولى أنَّ بعضا من معتنقي الإسلام ما جهروا بإسلامهم طوعا وإيمانا، بل اضطروا للخوض فيه واللحاق بحركته الظافرة بعد أن لحقتهم الهزيمة في المواجهة الشرسة مع الإسلام، وتبين لهم أنَّ حفظ البقية الباقية من مصالحهم ومراتبهم إنما هو وقف على السباحة في تياره لا ضده. والثانية هي حركة الردة التي سرعان ما اندلعت في أرجاء مختلفة من أراضي المسلمين ما إن عمَّ خبر وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي الواقع يُمكن وصف الردة بكونها تمردا سياسيا لأطراف ضد الدولة، وما صاحب هذا التمرد من ممانعة من دفع الزكاة وغيرها.

إذن؛ خلاصة القول أنَّ العرب كانت تحتاج لكامل الفترة النبوية حتى تتكون جماعة إسلامية، وأنها يمكنها الاستغناء كجماعة اعتقادية عن سلطان سياسي يرعى اجتماعها الديني ويعيد إنتاجه.

لقد كان خبر وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- فاجعة لم تكن في الحسبان، ولكن عندما وقع الحدث جاء التحدي الكبير أمام المسلمين، وهو من سيخلف النبي في إمامة المسلمين؟ هذا التساؤل ما كان ليأخذ وجها دينيا إطلاقا، وذلك لعلم المسلمين سلفا بأنَّ الرسول محمد هو آخر الأنبياء والمرسلين؛ بحيث أنَّ القيادة الدينية اختتمت به. بل كان السؤال سؤالا سياسيا، وكان هدفه من سيخلف النبي في الإدارة السياسية لشؤون المسلمين. قد يُعترض على القول بأنَّ خلافة النبي كانت مزدوجة الطبيعة "سياسية ودينية في آن واحد"، وأنَّ خليفة رسول الله ليس فقط قائدا سياسيا يقود المعارك والفتوحات ويدير بيت المال، بل قبل كل شيء هو من يؤمهم لصلاة الجماعة ويملك حق الفتيا في أمور حياتهم، هذا صحيح بلا شك، إذ يجب على الخليفة أن يكون سياسيا ودينيا من شأنه إمساك زمام الإمامة في الإسلام، ولكن الأمر الذي لا يقبل الجدل أن خليفتهم لن يكون مثل النبي إطلاقا فلا هو مرسل يحمل وحيا وكتابا ولا هو معصوم من الخطأ، بل هو من عامة الشعب، ويتم تنصيبه أميرا للمؤمنين إذا أجمع عليه جماعة المسلمين، ولكن لن يكون إجماعا كإجماع المسلمين على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.

يقول عبدالإله بلقيز: إنَّ خلافة المسلمين كانت مثالية نوعا ما في الفترة التي تمت فيها مبايعة أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب، وهي التي استخدم فيها المسلمون نظاما سياسيا قرآنيا هو نظام الشورى. ولكن ازدهر مصطلح الشورى في الفكر الإسلامي الحديث بتأثير سلطة الأفكار الليبرالية الداعية إلى إقامة السلطة على مقتضى الاختيار الديمقراطي؛ إذ يفصح عن أن الحكم يتقرَّر بالاختيار لا بالتعيين أو التوريث أو ما شابه. ثم يعود ويقول إنَّ من أسباب الخلاف بين معاوية والإمام علي -رضي الله عنه- أنَّ النص القرآني لم يُقدِّم تشريعا خاصًّا لمسألة السياسة يرسم إطار السياسة والسلطان، والذي نتج عنه تحول في نظام الحكم إلى توريث وليس شورى، ولعل هذا كان أوضح نزاع على السياسة والسلطان في العهد الإسلامي.

أخبار ذات صلة