أمجد سعيد
يتناول الباحث الأكاديمي المصري ياسر قنصوه في مقاله البحثي تحت عنوان: "الشرعية والديمقراطية في العالم الحديث: مرجعيات واعدة، تطبيقات مراوغة"، والمنشور بمجلة "التسامح"، العلاقة الوطيدة ما بَيْن الشرعية بمفوهمها الغامض بالطبع والديمقراطية التي تلهث خلفها أغلب شعوب العالم الآن، ويبدأ الباحث أولاً بالتعمُّق في المعنى الغامض للشرعية والذي بدوره يتداخل مع الارتباط الشرعي بالديمقراطية، وهذا التداخل بدوره يرتبط بعدة مسائل قد تزيل الغبار عن معنى الشرعية، ولكنها تربطه بعدة مفاهيم أخرى، قد تعني للفرد المعنى المجرد الأوحد للشرعية برمتها؛ منها: أ- ارتباط الحكومة بسلطات تخول الشرعية. ب- قبول الناس لشرعية الحكم السياسي. ج- الحيثية القانونية لشرعية السلطة. د- ضرورة إضفاء الشرعية في أوضاع سياسية معينة. وما إن تسلم بهذه المسائل يتبادر إلى ذهنك السؤال التالي: هل يجب أن تكون كل النظم التي تدعي الشرعية ديمقراطية؟
قد يكون مفهوم الشرعية شائكا ويكتنفه بعض الغموض، ولكن هنالك بعض الصور التي يجب التمييز بينها فيما يخص صور الشرعية: الصورة الوضعية للشرعية، والصورة المعيارية للشرعية. أمَّا الصورة الوضعية فهي تختص بقبول الأفراد الخضوع للسلطة، والصورة المعيارية تشمل نطاق الفلسفة السياسية، أي أنه الوجه الأخلاقي للممارسة السلطة بحق. غير أن المفهوم الديمقراطي يزيد الأمر غموضاً، فالديمقراطية بحد ذاتها مثار تساؤل في تطبيقها أو إضفاء الشرعية عليها، والديمقراطية من جانب الفلاسفة والمنظِّرين هي الحريات المدنية كحرية التعبير والنقد...وغيرها من الحريات التي تندرج تحت سياق المدنية، أما ما يعبر عن الغموض الذي يشمل هذه المفاهيم هو اتحاد الثالوث المتلازم: الشرعية، والديمقراطية والسلطة. فالسلطة تمنحك الحرية من خلال الديمقراطية، ولكنها تسلبها منك من خلال الشرعية، كالتصويت الانتخابي مثلا، يكون في ظاهر الأمر معنى تامًّا للحرية، ولكن قد تضمن لك الحرية في التصويت والتعبير، وقد تصوت لاستعبادك.
الطرح النموذجي الديمقراطي الذي توصَّل إليه جان جاك روسو من خلال استفادته من صورة المدينة في جنيف وأثينا ليتوصل إلى النموذج المباشر للديمقراطية من خلال مفهوم الإرادة العامة، والإرادة العامة هي الصورة المكفولة لحقوق الناس والتي تضمن للفرد الواحد حقه كإنسان، وهي المحددة للصالح العام، وفي سياق الإرادة العامة تتحقق الحرية الفردية بشكل تام في المجتمعات، ولكن في حضور الإرادة العامة تبدأ الديمقراطية الليبرالية بالغياب؛ إذ إنَّ الشعوب هي التي تصادق على كل القوانين والأنظمة التي بدورها تدير دفة الحكم. وإذا لم يتفق الشعب على أحد هذه القوانين فإبطال القانون لا يعني شيئاً بالنسبة لعدم اعتباره قانوناً منذ البداية. عندما أتى جون لوك وجلب معه الديمقراطية الليبرالية والذي جعل تحليله العقلاني مرتبطاً بالعقلاء، وهم من يُسميهم لوك أصحاب المناصب والمُلاك في إنجلترا، ومنذ القرن الثامن عشر استطاعتْ الديمقراطية الليبرالية أنْ "تؤكد على نمطية الشرعية المستمدة من ليبرالية أصيلة". وبذلك تمتاز الشعوب الليبرالة بثلاث سمات رئيسية؛ هي:
أ- حكومة ديمقراطية دستورية عادلة إلى حد معقول.
ب- مواطنون يوجد بينهم مشاعر مشتركة.
ج- طبيعة أخلاقية.
أمَّا بخصوص الشعبية التي نالتها الديمقراطية الليبرالية منذ نهايات القرن العشرين، فكانت شعبية قوية ومتينة إلى حد أنها وقفت ندًّا للرأسمالية الأقتصادية، وأفشلت كل محاولة بديلة كالشيوعية والاشتراكية. فمن وجهة نظر فرانسيس فوكوياما، أنه وعلى الرغم من يسارية أو يمينية النظم المتسلطة إلا أنها لم تنجح في تطوير شريعتها لعدم امتلاكها الإرادة الخيرة ولنقص في مرونة الأنظمة والتشريعات بداخلها، وبسبب المرونة في أنظمة الديمقراطية الليبرالية ضمن لها حق الاستمرار والشعبية الواسعة. الديمقراطية الليبرالية تكفل حق الفرد في التحرر من قيود سياسية كثيرة، وانفتاحا تاما للمجتمعات، ولكنها لا توفر ظروفاً جديدة لمعرفة بشرية جديدة.
الديمقراطية الجديدة هي البيئة الوحيدة التي ستقدم للأفراد ما لم تقدمه لهم الديمقراطية القديمة، بمعنى آخر أنها سوف تفضي إلى تطبيق جديد بعيد عن التطبيق التقليدي للديمقراطية التقليدية أو السائدة، ليكون نظاما ديمقراطيا جديدا ودقيقا إلى حد يتجاوز فيه حدود الدولة أو الأمة ويصرح ببقاء التعددية الثقافية على النطاق العالمي. لذلك؛ فلابد من تأسيس روابط متينة في الديمقراطية الجديدة تجمع بين "الاستقلال الذاتي" و"التضامن الاجتماعي" من أجل إيجاد شرعية مؤكدة قادرة على التماهي في ظل الديمقراطية الجديدة، ومنها يأتي مصطلح "ديمقراطية الحوار" والتي تساعد على حسم النزاعات والوصول لأفضليات سياسية ضمن شرعية مؤكدة. هناك ركنان أساسيان في ديمقراطية الحوار؛ أولهما: الديمقراطية، والثاني: الحوار. أمَّا الحوار، فيأخذ الصيغة العقلانية لإعطاء الفرص وصنع القرار. ومن ناحية الديمقراطية، فهدفها هو إشراك الجميع في الفعل الحواري بأسلوب جماعي يضمن انتماء الفرد إلى المنظومة الكاملة؛ وبالتالي إعطاؤه الحق ضمن ديمقراطية حوارية جديدة "إن قيمة ديمقراطية الحوار ماثلة في معارضتها لكل النزاعات الأصولية، مع الوعي بأن جميع النزاعات أو الصراعات أو الانقسامات لا يمكن التخلص منها عن طريق الحوار المتصل، لكنها في النهاية تمثل إمكانية إيجاد ثقة حيوية ومتجددة بين الأفراد في ظل علاقة اجتماعية تربط بعضهم بعضاً".
ينبغي على أسس الديمقراطية أن تكون أسسًا مرنة وتحمل الخاصية التي من شأنها إحداث التغيير المستمر؛ لأنَّ الموافقة بين الديمقراطية والشرعية تتطلب تغييرا مستمرا مع ما يلائم مُتطلبات الخروج من حدود الدولة؛ لذلك فإنَّ الشرعية تحمل في طياتها أزمات عديدة منها أزمة التغيير التي من شأنها تتناقض مع الديمقراطية الجديدة، والإشكال الكبير يكمن ما بين النظرية والتطبيق في الشرعية الديمقراطية والديمقراطية الشرعية.
