لأنطوني روبرت بوث
محمد الشيخ
لعل "رقدة" أهل الفلسفة بالعالم العربي طيلة القرون المديدة التي سبقت النهضة الحديثة كانت أشبه شيء يكون برقدة أهل الكهف. وإذ استفاقوا من رقدتهم ـ بفعل بلاء العديد من المستشرقين في تحقيق ونشر التراث الفلسفي العربي وتدريسه بالجامعات العربية كما حدث في مصر منذ العشرينيات من القرن الماضي ـ فقد وجدوا أنفسهم في وضع أشبه ما يكون بوضع الواحد من أهل الكهف الذي أراد أن يقتني ما يسدوا به رمقهم بعملة ما عادت متداولة منذ أمد. فكان لا بد من أن "يجددوا" هذه الفلسفة حتى تصير مقروءة في زمن بينما رقدت فيه الفلسفة الإسلامية رقدتها المعلومة استيقظت فيه الفلسفة الغربية يقظتها المعروفة. على أنهم جددوا في مناهج دراسة هذه الفلسفة (تأويلية حسن حنفي، مادية وجدلية حسين مروة والطيب تيزيني، بنيوية الجابري التكوينية..)، وما جددوا ـ اللهم إلا في ما ندر ـ في "موضوعات" هذه الفلسفة. فظلوا على الأغلب يجترون الموضوعات ذاتها التي استُهلكت: العقل والنقل، الحكمة والشريعة، نظرية الفيض، المدينة الفاضلة، نظرية النفس.. بينما مواضيع أخرى ظلت "مهمشة" في هذه الفلسفة: الصداقة، السعادة، الفرح، الحزن، العشق، اللذة، الموت، الانتحار..
وبينما كان أصحاب المشاريع في قراءة الفلسفة الإسلامية يدندنون حول المواضيع عينها، كانت الفلسفة الغربية قد طلعت على الدنيا بمباحث فلسفية جديدة: الأنطلوجيا الاجتماعية، فلسفة المعرفة، أخلاقيات الاعتقاد، إبستمولوجيا الوحي، إبستمولوجيا الخلاف، إبستمولوجيا الشهادة.. رافقتها مواضيع جديدة: الاعتقاد، الاعتراف، التذاوت، التشاور، التوافق.. ومناهج مستحدثة: التحليل، الهدم والتفكيك، الجنيالوجيا..
وهذا الكتاب يدخل في صميم حركة تجديد النظر في "مواضيع" الفلسفة العربية الإسلامية الكلاسيكية. ذلك أنه يعالج أحد المواضيع التي استجدت على النظر الفلسفي الغربي منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين إلى اليوم. يتعلق الأمر بما صار يعرف في الأدبيات الغربية المعاصرة باسم "أخلاقيات الاعتقاد" أو "إبستمولوجيا الاعتقاد". وهو مبحث يروم النظر في مسألة "الاعتقاد" ـ أي اعتقاد كان ـ هل يتأسس على أساس "بينة بدية ـ البَيِّنيُّون أو الحُجِّيون ـ أم على غير أساس وإنما على إيمان يلقى في قلب المعتقد أو لطف يناله ـ اللَّابَيِّنِيّون.
ولست ترى الباحث إلا موافقا على ما ذهبت إليه الباحثة الغربية تمارا ألبرتيني من أن ترجمة الفلاسفة العرب إلى اللغات الغربية واقع تحت ما سمته "فقر الترجمة"، بحيث "أُفقروا" هم من الكثير من محتويات فلسفتهم، إلا أن هذا لا يمنع الباحث من التأكيد على أن الانطلاق من الفلسفة الغربية المعاصرة في النظر إلى مواضيع الفلسفة العربية الإسلامية ما كان من شأنه أن "يُفقر" هذه بقدر ما من أمره أن "يُغْني" تلك الفلسفة، بل إن الباحث يجد في فلسفة الفارابي في الاعتقاد "إثراء" للنقاشات الفلسفية الغربية المعاصرة في مجال أخلاقيات الاعتقاد.
وصاحب البحث ـ أنطوني روبرت بوث، وهو باحث في مجال الإبستمولوجيا والأخلاقيات التطبيقية يعمل حاليا بجامعة سيسكس ببريطانياـ ينطلق من اعتقاد يخص مسألة الاعتقاد هذه: وهو أن المسألة الأساسية في الفلسفة الإسلامية هي مسألة أخلاقيات الاعتقاد: ما الذي ينبغي على المرء اعتقاده؟ ما شروط خروج المرء عما يعتقده؟ كيف يمكن التحقق من دعاوى النبوة؟ وأطروحته في هذا المجال التي يبسطها كتابه غاية البسط هي أن من يعتبرهم "قلب الفلسفة الإسلامية" (الفارابي وابن سينا وابن رشد) يتبنون على هذا المستوى ما يسميه "النزعة البَيِّنِية [مشتقة من البَيِّنة بمعنى الحجة] المعتدلة"، ومفادها أنهم يرون أن على الإنسان أن يعتقد الاعتقاد (ب) في حالة ما إذا كانت ثمة بيِّنة جيدة على ما يذهب إليه من الاعتقاد (ب).
وبغاية بسط أطروحته هذه، يقسم كتابه إلى ثلاثة فصول: الفلسفة باعتبارها أخلاقيات اعتقاد، اليقين والنبوة، النبوة والسياسة.
الفلسفة باعتبارها أخلاقيات اعتقاد
هذا كتاب كالخطبة البتراء كُتب بلا مقدمة. نفتح الكتاب مباشرة على الفصل الأول ـ بعد الفهرست وكلمة الشكر. وملخص الفصل اهتداء الباحث إلى اعتبار الفلاسفة المسلمين الكبار في العصور الوسطى على ضوء الباحثين الغربيين المعاصرين في شأن أخلاقيات الاعتقاد. وفي هذا الإطار، يميز في الفكر الإسلامي وموقفه من مسألة أساس الاعتقاد بين ثلاثة مواقف: ما يسميه "النزعة البَيِّنِيَّة" أو "النزعة الحُجِّيَّة"، وهي التي تتشدد في مسألة أن لا اعتقاد إلا وينبغي أن يقوم على "بيِّنة" أو "حجة"، وما يسميه "النزعة المضادة للنزعة البينية" التي ترى أن الاعتقاد ليس يقوم ولا ينبغي أن يقوم على بينة، وإنما هو إلهام أو هداية أو عناية أو لطف من الله. وهو يحاجج على أن الفلاسفة المسلمين ما كانوا لا أصحاب هذه، ولا أصحاب تلك، وإنما تبنوا ما يسميه "النزعة البينية المعتدلة"، وأن هذه النظرة تحتاج إلى الاعتبار والتقدير في النقاش الحديث الدائر على أخلاقيات الاعتقاد. وهو يقابل بين هذه النظرة والنظرة التي يعتبرها المنافس الأوحد، في السياق الإسلامي، الذي هو النزعة المعتدلة المعادية للنزعة البينية (الغزالي).
ويعود ليذكرنا بسياق كلامه عن أخلاقيات الاعتقاد، وهو السياق الفلسفي الغربي، إذ يطلق مفهوم "أخلاقيات الاعتقاد" ـ في الفلسفة الغربية ـ على النقاش الذي دار بين فئتين من الفلاسفة في ما يتعلق بمسألة "تسويغ" أو "تعليل" أو "تبرير" الاعتقاد. الأوائل هم "البَيِّنِيُّون" أو "الحُجِّيون" الذين لا يعتقون إلا في ما قام على بينة أو علة معرفية، والثواني هم "اللاَّ- بَيِّنُون" أو "اللا-حجيون" الذين ينكرون ضرورة الحجة. فلا يعني أن تكون للمرء حجة على ما اعتقده أن تلك الحجة تسوغ له ما اعتقد. ينسب الموقف الأول إلى عالم الرياضيات والفيلسوف البريطاني وليام كليفورد (1845-1879) القائل بمبدأ: "من الغلط دوما ومهما يكن من أمر أن يعتقد شخص اعتقادا ما استنادا إلى حجة غير كافية" (1877). أما الموقف الثاني فينسب إلى النزعتين التقوية الإيمانية (الفيلسوف الدانماركي سورن كيركجارد (1813-1855)) والبرجماتية العملية (الفيلسوف الأمريكي وليام جيمس (1842-1910)) ، وهما تشتركان في القول بأن الاعتقاد الديني لا ينبغي أن يُتعقل بعوامل معرفية إبستيمية، لأنه ما كان مسألة معرفة وإنما هو مسألة إيمان، أي مسألة عملية، بل هو عند كيركجارد "قفزة" إيمانية ليست للتعقل.
يستكشف الباحث ما إذا كان هذا التقسيم قد سرى أيضا على مفكري الإسلام في أمر الاعتقاد الديني. وهكذا يميز بين ما يسميه:
-
"النزعة البينية الإسلامية". وهو يرى أن أول فلاسفة العرب ـ الكندي ـ كان معنيا بمسألة الإيمان والعقل، ومن ثمة بمسألة ما الذي يُسَوِّغ الإيمان. وهذه المسألة هي بطبيعة الحال المسألة الهادية لأخلاقيات الاعتقاد. ويورد مقتطفا من كتاب الكندي إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى: "ينبغي لنا ألا نستحي من استحسان الحق، واقتناء الحق من أين أتى، وإن أتى من الأجناس القاصية عنا، والأمم المباينة، فإنه لا شيء أولى بطالب الحق من الحق". ليستنتج منه أنه عند الكندي لا بد لنا من مسوغ معرفي لتبني اعتقادات دينية، وأن الاعتقاد الإسلامي بما أنه حق، فإنه لا يتناقض مع الاعتقادات الحقة الأخرى لدى الأمم المباينة، لا سيما اعتقادات الفلاسفة. لكن الباحث سرعان ما يلاحظ أن هذا الموقف الحجي سرعان ما يثير مشاكل عويصة، ومنها أنه يهمل طرح مسألة النبوة.
2- "النزعة البينية المعتدلة":
يرى الباحث أن وجهات نظر الفارابي وابن سينا وابن رشد في مسألة الاعتقاد تتماثل على الرغم من تباين مواقفهم. ومفتاح فهم موقفهم تصور الفارابي لمفهوم "اليقين" المبني على مفهوم "البرهان" الأرسطي. حيث يرى الفارابي أن اليقين الأول إنما هو يقين الأنبياء الذين وُهبوا مَلَكَة تخيل مختلفة عن ملكة بقية البشر، وهي الملكة التي تتيح لهم إدراك المبادئ الأولى؛ أي تُقدرهم على حدس الحقائق المجردة حدسا. ولها وظيفتان: أ ـ تهب النبي مهارة خطابية تمكنه من درك الصلة بين القضايا المعقدة والقضايا البسيطة وتفسر الأوائل بالثواني. ب ـ تهب النبي مهارة عملية بإقداره على تحقيق بعض المبادئ في الواقع، وتُصَيِّرُ منه القائد السياسي الأمثل. ومن ثمة جمع النبي في ذاته بين الكمالين النظري والعملي. على هذا الأساس تشكلت ما يسميه المؤلف "النزعة البينية المعتدلة" في أخلاقيات الاعتقاد. ذلك أنه عند الفارابي البشر بوصفهم كائنات ناقصة منذورون إلى فقد الرَّوِية، ووحده النبي بقواه السامية القادر حقا على أن تكون له روية لا تضعف؛ وذلك لأنه، من جهة، يملك اليقين حول طبيعة البشر، ومن جهة أخرى لأن له وحده المعرفة المطلوبة لتدبير شؤون الأمة. وقد سمى المؤلف هذه النزعة بأنه "بينية معتدلة": "بينية" لأن دور الأنبياء ـ الذين بمكنتهم درك اليقين ـ هو الاعتقاد بأن (ب) حق لأنها بالفعل حق، بما يعني أن الأنبياء لا يمكنهم أن يصدقوا قضية ما على أنها حق ما لم تكن كذلك. ومن ثمة، لا اعتقادات باطلة عند الأنبياء. غير أن هذا الموقف غير بيني من جهة أنه قد يأتي على البشر العاديين غير الأنبياء أن يصدقوا بأشياء من غير بينة. ومن هنا الحاجة إلى هداية الأنبياء البشر. ومن ثمة كانت "البيِّنية" معتدلة.
ويقارن الباحث موقف الفارابي بموقف كل من ابن سينا وابن رشد، وهما معا ينتهيان شأنهما في ذلك شأن سلفهما إلى القول ببينية معتدلة. لكن الفارق بين الفارابي وابن سينا في أمر النبوة أن هذا يذهب إلى أن النبي يمكنه أن يحصل معرفة جديدة، بينما الأول لا يرى غير أن النبوة لا تعمل إلا على تسيير فهم موضوعات الاعتقاد والمسوغ الذي يُعطاها أصلا. وقد أنكر ابن رشد بشدة هذا القول الجديد الذي قال به ابن سينا. والحال أن فلسفة ابن رشد تُؤولت بتأويلات شتى، ومنها تأويل ليو-شتراوس ورالف ليرنر وهربرت ديفيدسن التي ذهب إلى أن الرجل كان يذهب مذهبا دنيويا ـ دهريا ـ متقدما، بينما ذهب إرفن روزنتال إلى أن الكلمة الفيصل عند ابن رشد تبقى للشرع على العقل، هذا في حين ذهب أوليفييه ليمان إلى النظر نظرة كِندية إلى ابن رشد: العقل والإيمان طريقان فعالان نحو الحقيقة عينها. ويميل المؤلف إلى الرأي الأول، فيرى أن الروية عند ابن رشد أشبه شيء تكون إلى علم الطب وتطبيقه في الواقع إذ يتطلب الأمر مهارة فائقة. والنبوة تشبه المعرفة العملية (الروية)، لكنها إذا ما هي اعتُبرت لوحدها ما كانت روية بما أنها ليست مؤسسة على معرفة نظرية (على خلاف علم الطب النظري). ومن هناك، لا يمكن أن تؤدي إلى السعادة في ذاتها، وإنما الحاجة إلى العلم النظري تقف جنبا إلى جنب مع الحاجة إلى الوحي. في الختم، ينتهي ابن رشد إلى بيِّنية معتدلة حتى وإن كانت تخالف من بعض الوجوه بيِّنية الفارابي. والفارق الجوهري بين الرجلين أنه بالنسبة إلى ابن رشد يمكن للبشر العاديين (غير الأنبياء) أن يبلغوا أية درجة من المعرفة بالتعويل على دراسة الفلسفة، بينما بالنسبة إلى الفارابي وحدهم الأنبياء بإمكانهم بلوغ اليقين.
3- "النزعة المضادة للبيِّنية المعتدلة": وهي الموقف المنسوب إلى الأشعرية، بحكم أنها لا تعتقد أن الاعتقاد أمر مرهون بالبيِّنة وإنما هو أمر موكول إلى إرادة الله، فمن أراد الله أن يحمله على اعتقاد اعتقد فيه ولو أعوزت المعتقد البيِّنة. على أن المؤلف يرى أن مضادة البيِّنية أخذت منحى معتدلا مع الغزالي الذي يرى أنه حتى لو أن الله طلب منا ألا نعتقد شيئا إلا عن بيِّنة، فإن علينا اعتقاد ما هو في نهاية المطاف موكول إلى إرادة الله. على أن الغزالي يعتقد أن ثمة مسألة معرفية واحدة يمكن كسبها باستقلال عن الوحي هي الاعتقاد بأن النبي نبي حقا، لكن ما أن يعتقد فيها الإنسان حتى تصير معايير كل الاعتقادات الأخرى محددة في النهاية بإرادة الله. ولهذا يسمي المؤلف هذا الموقف "النزعة البيِّنية المعتدلة" التي تؤكد على أن كل القضايا ـ ما عدا واحدة ـ ينبغي أن يُعتقد فيها بإرادة من الله وليس ببيِّنة.
اليقين والنبوة
يعود المؤلف في الفصل الثاني من كتابه لكي يعمق الرؤية السابقة. وأجَدُّ ما يطرحه هنا مسألة علاقة الاعتقاد بما يسميه "الخاصة" من الناس. وقد سبق أن أكد على أن الفلاسفة المسلمين يتبنون ما دعاه "النزعة البينية المعتدلة" التي مفادها عنده: بالنسبة إلى "الخاصة" (أهل المعرفة أو الدراية)، فإن على الإنسان أن يعتقد أن (ب) حق إذا كانت ثمة بينة جيدة على صحة الاعتقاد بها. لكن الأمر لا ينطبق على "العامة" التي تأتي عليها أوقات تعتقد فيها لا عن بيِّنة وإنما عن أسباب عملية، مثل أن يكون الاعتقاد حاملا لها على تحقيق سعادتها، أو على السير على هدى ما رسمها له الله. وقد أهل هذا الأمر الفلاسفة إلى إدراك الدور الذي يؤديه النبي ولا يمكن للفيلسوف أن يؤديه: الهداية العملية للعامة. لكن في مسيرهم إلى هذه الفكرة اختلف الفلاسفة. ويعيد المؤلف طرح اختلافاتهم على النحو الذي كان قد طرحه في الفصل الأول ـ بما أن الكتاب تجميع لمقالات فقد اعتوره التكرار أحيانا. إذ بينما يذهب الفارابي إلى أن الأنبياء وحدهم يشكلون الخاصة، يذهب ابن رشد إلى القول إنما الفلاسفة هم الخاصة، وينحل النقاش حين يرى الفارابي أن الأنبياء هم بالضرورة فلاسفة. هذا بينما يذهب ابن سينا إلى أن الخاصة هم الفلاسفة، لكن يرى أن ثمة معرفة غير المعرفة الفلسفية، هي المعرفة الإشراقية التي للأنبياء نصيب فيها. ويقارن المؤلف بين الفارابي والغزالي، فيرى أن الخلاف بين الرجلين كامن في أمرين: أ ـ على خلاف الفارابي يعتقد الغزالي أن اليقين شيء متأتٍ للبشر، ومن ثمة فهو أقرب إلى ابن سينا وابن رشد منه إلى الفارابي في مسألة "الخاصة". ب ـ لكن هنا يتوقف الغزالي عن أن يعطي للعقل المكانة العليا، ومن ثمة يهاجم الفلاسفة في تفضيلهم العقل على الوحي. ويستعرض الكاتب شرائط اليقين المطلق عند الفارابي، ويقف بالخصوص على الشرط السادس الذي يذهب فيه الفارابي إلى أن الحقائق المطلقة قد تحددت من لدن الله، ومن ثمة كانت ضرورية، حتى وإن كان النبي بشرا فانيا. وتكمن أهمية الفارابي وفائدته لإبستمولوجيا الشهادة اليوم في أنه وضع معيارا للتمييز بين النبي والمتنبي من غير أن يكون المُمَيز بالضرورة خبيرا في هذا الأمر أو نبيا، وإنما بالاستدلال فقط من خلال مهارات النبي الخطابية والعملية ودعوته. وعنده أن تصور الفارابي أشد إثمارا من تصور ابن رشد لأنّ تصور الفارابي يأخذ بعين النظر هشاشة الإنسان وضعفه. ومن ثمة يتوافق مع الطرح المعاصر.
النبوة والسياسة
يفحص المؤلف هنا ما يلزم سياسيا عن النظرة الفلسفية الإسلامية التي تجمع بين القول بضعف بني البشر والتصديق بالنبوة والاعتقاد في النزعة البينية المعتدلة. وكان قد انتهى في الفصل السابق إلى أن نظرة الفارابي نظرة غائية تراعي مسألة الكمال البشري: ما هو حق نظرا وعملا ينبغي أن يتوافق مع الكمال البشري الذي هو الغاية المأمولة، تماما كما عند أرسطو، والذي به تتحقق السعادة. وإذ سبق أن ذكر أن قوة الخيال تقوى عند النبي وتضعف عند الإنسان العادي، وأنها هي ما يسمح للأول لا فقط بتحقيق أفضل يقين ممكن، وإنما أيضا بوهبه أفضل معرفة عملية ممكنة، فإنه يستنتج أن النبي أعلم من غيره بكيف يحول المثال إلى واقع متحقق. وذاك هو المدخل إلى سياسة العامة. ويذكر المؤلف هنا أن الفارابي امتاز على أقرانه بتخصيص كتابات مهمة للفلسفة السياسية اجتهادا لا فقط تقليدا. والذي يراه الفارابي أن النبي وحده من يتحقق فيه الشرط السادس من شروط اليقين المطلق: الجمع بين ملكة خيال سامية ومعرفة بالمبادئ العقلية الأولى. مما يكسبه مهارات تفسير الأفكار المعقدة للجمهور، والمعرفة بكيفية تنزيل الأفكار المجردة على الواقع، والعلم بكيفية تحقيق المثال في الدنيا. فالأنبياء هم الجامعون في الكمال البشري بين الكمال النظري والكمال العملي. ومن ثمة كان النبي هو الزعيم السياسي المثالي.
على أن النبي لا يمكنه أن يحيى بدوام حياة، لا ولا يمكنه أن يحكم كل مدينة. ذلك هو التحدي الذي حاول الفارابي الجواب عليه. وهو تحد يجد بعض مقارباته في موقف الفارابي من الديمقراطية، حيث يعتبرها ـ من بعض المناحي الأقرب إلى المدينة الفاضلة في المدن المضادة لها، وذلك لأنها تحتفظ ببعض "بؤر" و"نوابت" الفضيلة فيها، بما تجعلها أقرب إلى "الليبرالية" اليوم بل وحتى إلى "النزعة الفوضوية"!
ختاما، لست أرى الباحث إلا مجددا في حقل دراسات الفلسفة العربية الإسلامية مبرزا لما تحمله من إمكانات المساهمة الجادة في المواضيع التي أمست الفلسفة الغربية المعاصرة تناقشها. غير أني أرى أن لهذا التجديد حدودا. لقد جدد الرجل على مستوى الموضوع المطروح ـ أخلاقيات الاعتقاد ـ لكني أرى أنه أخفق في التجديد على مستوى الأسماء الفلسفية الإسلامية التي تناولها. إذ بقي شديد الكلاسيكية لمَّا عرض لفلاسفة الإسلام (الكندي، الفارابي، ابن سينا، ابن رشد) بينما أهمل أسماء أخرى أجد أنها أقدر من هذه على إثراء مباحث "إبستمولوجيا الاعتقاد" و"إبستمولوجيا الشهادة" و"إبستمولوجيا الوحي" و"إبستمولوجيا الخلاف" أذكر من بينها أسماء حنين بن إسحاق وأبي الحسن العامري ويحيى بن عدي وأبي سليمان السجستاني المنطقي وأبي حيان التوحيدي وأبي البركات البغدادي وابن كمونة والملا صدرا الشيرازي والشيخ الداماد والشيخ المفيد.. فلكل هؤلاء إسهامات جليلة في أخلاقيات الاعتقاد وفي أخلاقيات الخلاف كما حدثت من جهة بين فلاسفة النصارى واليهود والمسلمين، ومن جهة أخرى بين سنية الفلاسفة وشيعتهم..
-----------------------------------------------------
الكتاب: الفلسفة الإسلامية وأخلاقيات الاعتقاد
المؤلف: أنطوني روبرت بوث
دار النشر: بالغريف بيفوت Palgrave Pivot
سنة ومكان الصدور: 2016 المملكة المتحدة
عدد الصفحات: 100
