«موت النقود: إلى أين يقود الماليّون العالم؟»

Picture1.png

لفالنتين كاتاسونوف

*فيكتوريا زاريتوفسكايا (أكاديمية ومستعربة روسية)   

   في كتابه الأخير "موت النقود" يواصل الأكاديمي والباحث الاقتصادي الروسي الشهير فالنتين كاتاسونوف تنقيبه وتحليله لأحدث ظواهر واتجاهات الرأسمالية العالمية، وهو عمل بدأه بمؤلفات سابقة يذكر منها: "أمريكا في مواجهة روسيا"، "ديكتاتورية البنكقراطية أو الجريمة المنظمة في العالم المالي"، "أزمة الحضارة النقدية"، "الهرم المالي العالمي"... وغيرها من الأعمال. وباقتطاع ملاحظات من مقدمة الكتاب، يمكننا الاستدلال إلى الغاية التي نشدها الباحث من مؤلفه الجديد. نلاحظه يقول: "لقد غدت سرعة الزمن قياسية وصعبة الإدراك قياسًا بنهاية القرن الماضي. ثمة كثافة لمجرى الأحداث وتدفق ضخم للمعلومات التي ترشح عن التغيرات في الاقتصاد والسياسة والثقافة وفي الميادين الروحية (...) وتبذل الأوغارشية العالمية (وهي تحالف السلطة مع المال) جهدًا محموماً وتجند وسائلها الإعلامية حتى لا يستوعب الملايين بل المليارات من البشر ما يجري، وألا يكتسبوا المقدرة على القراءة المنطقية لمجرى الأحداث والمآلات التي تتجه نحوها. ومن أجل تحقيق أهدافها تلجأ (الأوغارشية العالمية) إلى طرق مختلفة من بينها ملء الفضاءات بالمهملات المعلوماتية وبها تثير اهتمام العامّة بسقط المتاع، إلى جانب تشويه وتزييف المعرفة نفسها (...) ويكون من الصعب لمن لا يمتلك الخبرة اللازمة ولا يتحلى بالعقل المنطقي لقراءة الأحداث أن يخترق هذا الستار المعلوماتي ليرى ويعرف من يقف خلفه من آمرين ومنظمين ومنفذين، والأهم منهم المستفيدين من هذه العملية التي يمكن تسميتها بالفوضى الموجّهة (...) ومن أجل إيجاد منطق لهذه الفوضى وجب الخروج من بؤرتها والنظر إلى الأحداث من مسافة بعيدة (...) ومثل الأعمال السابقة، ينطلق هذا الكتاب من المنظور ذاته ألا وهو استيعاب منطق الفوضى في عالم الاقتصاد والمال" (ص 7-8).

   في هذا الكتاب ينبه البروفيسور كاتاسونوف إلى ضرورة مقاومة الشركات العابرة، مقاومة وطنية وبشكل فوري وضاغط، ودون ذلك سجن سيطوق البشرية، يحرسه المعسكر البنكي الإلكتروني، وهو معسكر عتيد، يحرم المرء من الانعتاق الاقتصادي والسياسي بل ومن حرية الإرادة نفسها. ويؤكد الباحث أن التوقف عن التعامل بالنقود - الذي بدأت بوادره تلوح في الأفق - إنما هو إجراء من أجل تهيئة المجتمعات لمصير العبودية المالية. ويعطي خبراء الأوراق النقدية والعملة المعدنية مدة زمنية لا تتجاوز العشر سنوات حتى تجد البشرية نفسها وقد أسلمت زمامها لرجالات البنوك وحيتان المال.

   يحاول المؤلف أن يجيب على أسئلة عديدة تحيط بهذه المسألة: هل يمكن الإفلات من هذا السيناريو المخيف وكيف؟ ما هي العملات البديلة؟ لماذا أعلنت أمريكا حربًا على الـ "أوف شور" ( وتعني لغويًا:  خارج الشاطئ، واقتصاديا: الملاذات الضريبية الآمنة)؟ هل بإمكان الصين إنقاذ العالم؟ ماذا على روسيا فعله في هذا الشأن؟ ومن بؤرة الغبار المعلوماتي الكثيف يستل الكاتب حلوله ويبني فرضياته وينشئ قراءته التحليلية لأهم الأحداث الاقتصادية التي عبرت عالمنا في السنة الفارطة والتي ستلقي بظلالها على مستقبلنا المنظور.          

  في الفصل الأول ويحمل عنوان: "أوهام الرفاهية أو تطفل الديون" يرسم الكاتب بانوراما للاقتصاد العالمي من جهة توزيع الثروات وفروقات حجم الإنتاج الإجمالي بين دول العالم. فمن عادتنا تقسيم العالم إلى شطرين: البلدان المتطورة اقتصاديًا (الغرب والشمال الغني) والبلدان النامية وهي بعيدة عن مركز الرأسمالية العالمية (الجنوب الفقير). ويضع المؤلف مصطلح "البلدان المتطورة" ضمن آليات وأسلحة البرمجة النفسية اللغوية، أو بعبارة أخرى، غسيل أدمغة يستهدف أولئك الذين لا يمتلكون الخبرة ولا يتحلون بالبصيرة التي تبرهن الحقيقة الطفيلية للغرب. أما فحوى هذه الطفيلية فيوجزها المؤلف في عمليات الاستدانة متدنية الفائدة وطويلة الأمد، التي يُعتبر الغرب بؤرة كبيرة لها. وفي هذا الصدد لا يخفي الكاتب دهشته من الإحصائيات التي تُظهر الغرب في مرتبة متقدمة من الثراء في حين أنَّها تنوء تحت ثقل الديون، ولكنها لعبة الإعلام وصناعة البروبوغاندا.   

   لا يقف كاتاسونوف موقف الناقد الراديكالي لرأسمالية الغرب بمفرده، فثمة العديد ممن يشاطرونه رؤيته ويقاسمونه الأفكار، وربما يأتي في طليعتهم الخبير الفنلندي جون هيليفينج الذي يتبنى أفكارًا على النقيض من الرواية الرأسمالية الغربية، ويدبّج حولها مقالاته التحليلية. يقول هيليفينج في إحدى مقالاته: "يريدون منِّا الاعتقاد أننا في الغرب، وبفضل النموذج الاقتصادي المثالي والمحفز للابتكار والتحديث، إننا نعمل ونعيش بشكل مثالي أيضًا. إلا أنَّ الصورة الواقعية في كل أرجاء الغرب ومعها الولايات المتحدة وكندا وأستراليا واليابان، صورة كئيبة، تفاصيلها انخفاض مستوى التصنيع، وتقلص الصادرات، والتدني الكبير في الميزانيات، والنمو المُرعب للبطالة المزمنة، وشبح الفقر الذي تحاول الحكومات إخفاءه بغطاء الإحصائيات الرسمية (...) أما الابتكار الحقيقي الوحيد الذي أنجزته أوروبا خلال العقد الأخير فيكمن في ابتكار تحسس المُتعة من قبض الديون، وهي متعة – وللأسف – لا حظ لها من الاستمرار والديمومة".

   الفصل الثاني من الكتاب جاء تحت عنوان: "رأسمالية الديون: تحول منافسة السوق إلى حروب تجارية"، يناقش فيه الباحث مجموعة من المسائل المرتبطة بتأجج وطيس المنافسة في السوق العالمية للبضائع والخدمات. ويربط الكاتب أسباب هذه المنافسة المستعرة بنهاية عملية العولمة الاقتصادية التقليدية والتي بقيت مستمرة منذ بداية القرن الماضي. يكتب في هذا السياق: "ها نحن نشهد تراجع القوة الأمريكية، السياسية والعسكرية والاقتصادية في العالم. وتحاول واشنطن تعويض ذلك عبر شراكات مختلفة فيما وراء المحيطين. يذكرنا هذا ببداية القرن العشرين وتنافس الامبرياليات من أجل رسم خريطة مختلفة للعالم. فمن المعروف أنَّ هذا التنافس قد تسبب في إشعال الحرب العالمية الأولى. ولسوء الطالع ها نحن نتلمس التشابه الماكر بين أحداث تلك الحقبة بأحداث بداية القرن الواحد والعشرين" (ص 11). وبحسب رأي المؤلف فإنّ منافسة أشد ضراوة سوف تنشب عما قريب في سوق الخدمات جراء المشروع الأمريكي الجديد المتعلق بالاتفاقية الدولية لتجارة الخدمات، وهو مشروع يسعى إلى إناطة وظائف الدولة في المجالات الخدمية (المواصلات، والاتصالات، والساحة وغيرها من المرافق) بشركات خاصة، ما سيضع المواطن بمواجهة عمالقة البزنس.       

   الجزء الثالث من الكتاب: "الاحتياطي الفدرالي وأمريكا على عتبة صدام عظيم" مكرس للهزات التي يشهدها النظام الاحتياطي الفدرالي في الولايات المتحدة. نعلم أن هذا النظام، ومنذ إنشائه عام 1913 تحمس ليصبح أرفع مركز لإدارة العمليات المالية والسياسية في الولايات المتحدة وبالتالي في كل أرجاء المعمورة. يرى الكاتب أن بوادر التمرد على تلك المؤسسة بدأت تظهر في غير مكان من العالم، وبات الدولار منذورًا  بمواجهات ومنازلات كثيرة، من بينها نزوع بلدان كبيرة كالصين والهند وروسيا إلى الاستقلالية والتضامن فيما بينها في مواجهة العملة الخضراء.

   يحتوي الفصل الرابع من كتاب "موت النقود" على تحليل لما يدور في بلد أوربي صغير: سويسرا. نحن فيها بحسب كلمات فالنتين كاتاسونوف داخل "بلد يستدعي الاهتمام والفضول إلى جانب تصورات بالغة المأساوية" (ص 13). فتحت ضغطٍ من الحكومة الأمريكية اضطرت واحة البنوك هذه والسلة الآمنة للمدخرات إلى التنازل عن سرية حسابات العملاء... وفقدان بريقها الذهبي. في الوقت ذاته لا يخفى على أيّ مراقب سياسة الاستفتاءات المنتظمة في سويسرا حول مختلف المسائل وفي مقدمتها المسألة المالية. ويرى المؤلف في ظاهرة الاستفتاءات في هذا البلد الألبي مضمارا للاختبارات والتجارب. يكتب عن فكرته هذه: "تشير استطلاعات الرأي إلى أن جزءا من السويسريين يرفضون نظام الدخل الأساسي المكفول (مبلغ شهري يحق لكل مواطن بدون أية شروط) (...) وفي هذا العام تجاوز عدد الرافضين لهذا النظام أعداد مؤيديه (...) فكيف لا يكون ثمة إجماع على نظام مغرٍ كهذا؟. لا لشيء إلا لأنّه متعلق بخطة النخبة العالمية لإفساد الخُلق الإنساني. إخضاع الفرد لغواية الاستهلاك الدائم وإلزامه بعبادة التسيب والبطالة (...) لنتذكر روما القديمة حين كانت الأرستقراطية تقدم الطعام والتسالي للجمهور، وعندما كفوا عنهم ذلك، بداية التسلية ومن ثم الخبز، كفت مدن الإمبراطورية عن الوجود. وبعد كل هذا هل يمكننا القول إن نظام الدخل الأساسي المضمون، نظامٌ غير مشروط؟ فيما يبدو أنه مشروط للغاية بإرادة وقرارات أصحاب الأموال". (ص 134-136).        

   في فصل الكتاب الخامس الذي يدرس الوضع الصيني والمعنون بـ"الصين على مفترق طرق" يسوق الكاتب فرضياته حول التنين الآسيوي ويضعه في طريق يفتقر إلى إستراتيجية اقتصادية واضحة وطويلة الأمد، كما يُنذره بأزمة عميقة قد توقظ موجة جديدة من القضايا المالية العالمية.

   يناقش فصل الكتاب السادس المسمى: "تشنجات صندوق النقد الدولي قبيل الممات" تبعية هذه الهيئة الدولية للولايات المتحدة الأمريكية وارتباطها بسياسات واشنطن. بيد أن المؤلف يستنبط الخلافات والتناقضات التي تضع الولايات المتحدة في مواجهةٍ مع بقية الدول الأعضاء في الصندوق، وهي خلافات على قدر من الحدية ما يعرض الصندوق الدولي للزوال.

   ينطوي الفصل السابع: "الأزمة المالية العالمية: في انتظار الموجة الثانية" على شرح لحالة عدم الاستقرار في الأسواق العالمية. ويتطرق الباحث في هذا الفصل إلى الوضع النقدي للبلدان المصدرة للنفط (دول الخليج العربي، وروسيا، وأذربيجان) والتي هي، وفق تنبؤاته، تقع في مناطق الاضطراب. كما يوجه اللوم لوكالات التصنيف العالمية ودورها "الخبيث" الذي تعمد فيه إلى أرجحة الأسواق. وفي مقام ثان يطالب الكاتب بتطبيق ضريبة "روبين هود" (تيمنا بالبطل الإنجليزي الأسطوري الذي يأخذ غصبا من أموال الأثرياء ليهبها الفقراء) والتي ظهرت فكرتها قبل أربعين عامًا بغية اقتطاع قسم من أموال المضاربات العالمية والعابرة للحدود، ولكن المصارف وقوة نفوذها في السياسات التشريعية للدول حالت دون تحقيق ذلك.      

   ويهتم الكاتب في الفصل التالي بالنخبة الثرية التي يزعم أنها تفضل العمل السري على الظهور للعيان ومناطق الضوء.    

   في الفصل التاسع المعنون بـ "جنة بلا نقود" يصف لنا الكاتب التحولات التي تمور في أغوار الرأسمالية العالمية، ويلحظ ما يطفح من تلك التحولات على السطح ومنها تخفيض البنوك لفوائد تعاملالتها وصولا إلى إلغائها التام. يسمي الباحث هذا الإجراء "سريالية الأرباح" ويرى فيه بوادر لموت النقود المتداولة إلى جانب أنها مظاهر لاقتراب نهاية تاريخ الرأسمالية التقليدية.      

   في الفصل العاشر والأخير يستعرض الخبير الروسي أوجه المعارضة التي تبديها بعض الدول للأوغارشية العالمية ويستقرئ خططها في مراقبة العمل البشري بمجمله وبحثها عن بديل للعملات المتداولة والتي تعد أداة فاعلة في وجه الطغمة المالية المتحكمة وكبح شهوتها الاستحواذية.  

   في الختام يشاطرنا الكاتب أفكاره حول بلده روسيا ومكانها في نظام الرأسمالية العالمية، ويستدل إلى طرق خروجها من أزمتها المالية الراهنة والتخلص من اختناقها النقدي الذي ما برح يستفحل في الآونة الأخيرة.

   أخيرًا وجب التنويه إلى مجموعة من السمات التي ميزت هذا الكتاب ومنها: وضوحه لغير المختصين في علم الاقتصاد، احتواؤه على عدد وافر من الروابط الإلكترونية التي تؤكد على مصداقية البيانات الوادرة فيه. أما الصياغة التي وضعها الكاتب لتأليفه وكيفية ربطه للأفكار في عالم المال المضطرب، فقد جاءت على شاكلة فسيفساء: مختلفة الأجزاء ولكنها مجتمعة البنيان. كما جعل نظرته تنساب من العلو الإستراتيجي للجغرافيا السياسية وللتاريخ والآيدولوجيا والأخلاق والدين. وأما الصدى الكلي والضمني لكتاب "موت النقود" فنجده في عبارة الزعيم الكوبي فيديل كاسترو التي استهل بها الكاتب مؤلفه: "الرأسمالية مثيرة للاشمئزاز وهي مكمن للحروب والنفاق والتنافس".

-------------------------------------------------------------------------

الكتاب: موت النقود: إلى أين يقود الماليّون العالم؟ تحولات رأسمالية الديون.

المؤلف: فالنتين كاتاسونوف.

الناشر: كنيجني مير (عالم الكتب)، موسكو 2016.

اللغة: الروسية.

عدد الصفحات: 384      

                                 

                           

أخبار ذات صلة