«مشروعية التمرد في الثقافتين الأوروبية والروسية»

Picture1.png

لألكسندر سكيبيرسكيخ

*أحمد الرحبي (كاتب عماني)

على خلفية الجدل المستمر حول الهوية الروسية والتجاذب بين قطبيها الكبيرين: الأوروبي والآسيوي، وأحقية أيِّ منهما في الاستئثار بالروح الجامعة لهذا البلد الشاسع ولشعبه مُتعدد القوميات، انبثقت الدراسات الثقافية التي تُقارن وتميز بين ظواهر الحياة المتجذرة في الأرض الروسية وبين ظواهر الحياة الأوروبية، وهي دراسات ما برحت تثير اهتماماً حقيقياً لدى المُتابعين والقرّاء. ضمن هذا السياق يأتي كتاب "مشروعية التمرد في الثقافتين الأوروبية والروسية" للمحلل السياسي الروسي والأستاذ في جامعة البحوث الوطنية "المدرسة العليا للاقتصاد" ألكسندر سكيبيرسكيخ، حيث اختار لبحثه موضوعة التمرد: مقلباً في صفاته ومتابعاً تطوراته وراصدًا صور أبطاله ومحلقًا في آفاق حلوله ومستقرءا جمالياته وكاشفًا بواطنه.          

   ينطلق الباحث الروسي من الاعتقاد بأنَّ المقاومة هي الوجه الآخر المقابل للسيطرة، وهي تيار طبيعي يعاكس الاحتواء الجبري، كما أنها الظلُ الذي يتشكل عند ولادة الدولة ويمتد بامتداد سلطتها. ولذلك لا يتقيد التَّمرد بالزمنية ولا تتحدد إقامته في الجغرافية، فنجده موّزَعا بين مُختلف أشكال النظم السياسية منذ نشأتها. ويؤكد المؤلف أنَّ الإنسان، ما إن يقع تحت ظل السُّلطة ويشتبك بعلائقها، حتى ينزع إلى الابتعاد عنها وتجاوز مصيره المعقود بها، ودائماً ما يتم ذلك عبر المقاومة. فبرغم المحاولات التي بذلتها السلطة عبر التاريخ، والتجارب التي أجرتها لتقليص عنفها، ومع الدروس التي ألهمتها التخفف من قوتها ولجم شهوتها للاستيلاء، ومن ثم دفعتها إلى توسيع رقعة التوافق مع جمهورها، وإرساء مبادئ الشراكة في بلورة العملية السياسية وإدارتها، بالرغم من كل ذلك نجد أن التمرد لم يشهد عزوفاً ولم تجف مصادره، بل العكس من ذلك، بات يتخذ أشكالاً جديدة ويسلك دروباً مختلفة. يقول الباحث مبررًا هذه السيرورة للتمرد: "إن تعقد الحياة وتعقيد المؤسسات الكثيرة أدى إلى التشديد على الإجراءات الجبرية تجاه الإنسان والضغط عليه من أجل ضبطه".

   يبحث الكاتب في أسس التمرد ومكوناته في التَّاريخ الأوروبي ليقارن بينها وبين أصول التمرد في الثقافة الروسية. وعبر تتبعه لتطور الحالة السياسية الأوروبية من خلال رهط من الفلاسفة والمصلحين وفقهاء القانون كأرسطو وشيشرون وميكافيلي وهوجو جروتيوس وتوماس هوبز وجان جاك روسو وميشيل فوكو، من خلال قراءته لهؤلاء المؤسسين يخلص المؤلف إلى الخاصية الأوروبية التي أبرمت العقد الاجتماعي وضوابط استخدام السلطة، ويفسر لنا المضامين التي احتواها هذا العقد وأكسبه القوة اللازمة لتسيير السياسة في المجتمع، سيرا توافقيا معقولا أدى إلى اعتراف من في السلطة بتطوعه لاستلام القيادة والمكوث في قمرتها، واعتراف من في ظل السلطة بتطوعه للإقامة خارج القمرة. ويلاحظ سكيبيرسكيخ – كما يلاحظ غيره من المُحللين – أن فكرة العقد الاجتماعي الأوروبي تتحلى بالعقلانية والعدالة والإنسانية، ومع ذلك فإنَّ الناظر إلى التاريخ  الأوروبي يستوقفه حجم الانقلابات فيه وحروبه الطاحنة ويصدمه حطام كوارثه المنتشرة.

   وبشكل مباشر لا تأويل فيه، يربط المؤلف أسباب التمرد الأوروبي بالتقاليد المتحكمة بالوعي، تلك التقاليد القاضية بضرورة الإصلاح المستمر والتنمية المتصاعدة والسعي الحثيث لإتمام ما نقص من النظام العام وتصويب أخطائه. فالتمرد في أوروبا إنما يتخلق لأجل توفير الظروف الأفضل لحياة المجتمع أو لتحسينها؛ وهو (التمرد) بحث دائب عن الأفكار الجديدة وعن الطرق الأجود لمعايشة العصر ولمعيشة الأفراد.

   بالمقابل، وسعياً منه لمُقارنة الصيغة الأوروبية للتمرد بنسخته الروسية، يرّجح الباحث مشاعر الكراهية التي تستحوذ على المتمرد الروسي تجاه مؤسسات الدولة أو ممثليها، وهي مشاعر تتسم بالحدة والتشدد والراديكالية المثالية؛ وهي مشاعر مدمرة إذا ما تحررت وانطلقت، حيث تموت الرحمة تحت حوافرها الجامحة.  

   يتوصل المؤلف إلى استنتاج أكثر تجردًا لمشروعية التمرد، فيرسم له خطاً بيانيا متصاعدا، يكون فيه الخط الأفقي لقوة التمرد نامياً من المناطق الشرقية للعالم (البلدان النامية) ومتفتحاً في المناطق الغربية له (البلدان المتطورة). والحال كذلك في المحور الرأسي لهذا الخط البياني بحيث يصعد من جنوب العالم ليزدهر في شماله. وفضلا عن هذا يشير المؤلف إلى محدودية وبساطة جهاز السلطة في البلدان الغربية في حين نجده ضخما في البلدان الشرقية ويتطلب إجراءات جمة ومجاميع بشرية كبيرة تعمل لرفع أركانه وتثبيته كسلطة مكينة ذات شأن مهيب. ومع ذلك يبدو أن الوجه المهيب لهذه السلطة يستبطن نقيضه؛ فجيش الأفراد المنضوين تحت إمرته لا اعتبار لهم خارج السلطة وربما خضعوا في داخلها لظروف صعبة وبائسة.

   يسلط الكتاب الضوء على شخصية المتمرد، عاقدا الصلات بين سمات الشخصية وخصوصية ثقافتها الأم والمكان الذي نشأت فيه حيث تشكلت تصوراتها للعالم. بعبارة أخرى يرسم لنا البحث بورتريه لشخصية المتمرد باعتباره باعثاً لانهيار السلطة بعد أن كان ضحية لإهمالها.

   ويؤكد الباحث على أنَّ التقليد الأوروبي (الكلاسيكي) لصلة العلاقة بين السيد والخادم تقوم على نظام تعاقدي معروف وقارّ. فمن السهل أن يترك الخادم صاحبه ويرتبط بسيد آخر. إن الخادم في المعادلة الأوروبية يعرف ما عليه من واجبات وما له من حقوق، وبأنه ليس مجبراً على تحمل الإهانات من أحد، ويمتلك مساحة من الحرية ليتحرك ويناور فيها. إن أمام الخادم الأوروبي الفرصة لأن يضجر ويصفق باب سيده وراءه من أجل الحصول على مكان أفضل. والحال كذلك، فهو مواطن حر تحميه أسوار المدينة الحرة. وهو أخيرًا خادم يؤدي خدمته وليس عبدًا.    

   أما صنف الخادم الروسي وصورته الكلاسيكية فهو شخص مهدور الكرامة، لا عقد يحميه ويصون حقوقه. وفي مكان العقد الذي ينظم العلاقة بين الخادم الأوروبي وسيده، فإنّ مصير الخادم الروسي معقود بقطعة أرض محددة. يستنتج الكاتب من ذلك أن الخادم الروسي كان مقيدًا اقتصادياً وبالتالي فهو فاقد للقدرة على التفكير المستقل والواقعي؛ لا مجال عنده للمقارنة وليس بإمكانه تصور حياة أخرى بعيدًا عن إقطاعية سيده. إنه شخص وحيد، منبوذ من قبل النظام الاجتماعي وجهاز السلطة. يكتب ألكسندر سكيبيرجسكيخ في الفصل المعنون بـ "الخادم الماكر والعبد الصامت":  "لدى الفرد في روسيا ميل صميمي إلى التمرد إذا ما قارناه بأفراد مجتمعات وثقافات أخرى حيث يحدث التمرد بصورة خاطفة، ومضيّة لا تخلف الكوارث. في روسيا يتنامى الشعور بعدم الرضا بالتوازي مع مقدرة الشعب على الصبر الطويل؛ الصبر المتولد من جغرافية المكان ومن النموذج الاقتصادي الخاص الذي يخيم على الإنسان ويتسرب إلى كل نواحي حياته اليومية. إن الوقت المديد الذي يقضيه الإنسان صابرا قبل أن يفيض كأسه إنما يدلل على حجم روسيا ومسافاتها الشاسعة. بيد أنّه، وما إن يستشعر الروسي قوته ويبدأ بالحركة فإنّ شيئا لن يقف أمامه لبلوغ هدفه، وستذهب سدى كل المحاولات لإقناعة بالعدول عن عزمه حتى وإن كان هدفه المنشود بعيد المنال أو مستحيلا" (ص 47).           

 

  في فصل من الكتاب جاء تحت عنوان: "الألم كتجربة: الشخصية المتمردة في نصوص دوستويفسكي" يحيلنا المؤلف إلى الطابع المزدوج والشكوكي للتمرد الروسي وذلك استناداً إلى المادة الروائية لواحد من أعظم الكتاب الروس في القرن التَّاسع عشر. وليس مستغرباً من الباحث – وأي باحث يتناول مادة التمرد من جانبها السيكلوجي – أن يستعين بأعمال دوستويفسكي للاستفاضة في بحثه ولتشريح مسألة التمرد (في روسيا بأقل تقدير). نجد في العديد من أبطال دوستويفسكي نماذج ساطعة لسواد عظيم من الشعب والمتمثلة في شخصية الفرد الذليل، المغلوب على أمره والحائر في دنياه. شخصيات تميل إلى العنف لتستعيض به عن ما سلبته منها الحياة. وأبطال يسرهم أن يتلذذوا بآلام الآخرين فهي تذكرهم بآلام ذاقوها ذات يوم... مع ذلك فهم مستعدون بعدئذ لإبداء مشاعر الندم والاعتراف بالعار الذي اقترفوه. الشيء نفسه يقال عن طبيعة المتمرد الروسي، فهو في لحظة ثورته لا يبصر طريقاً آخر غير طريق الانتقام وتدمير ما كان سبباً في تعاسته، وحين يعم الخراب من حوله وتهدأ ثائرته، حينها فقط يمكنه أن يعي ما اقترفت يداه لتبدأ محاكمة الذات وتبكيت الضمير.                  

   في فصول أخرى من الكتاب يتفرغ الباحث لرصد الطبيعة المجازية لظاهرة التمرد. وبمقاربة حاذقة بين الطبيعة الروسية والطبيعة الأوروبية تتولد لديه إشارات مجازية تضيء مرامي بحثه. من تلك المقاربات ما يلي: السعة والضيق، الريف والعاصمة، اليابسة والبحر، الميادين والأزقة، الحصن والقصر، الليل والنهار، الهضاب والجبال.   

   يسترعي المؤلف اهتمام القارئ إلى الجانب الجمالي للتمرد ويخصص له فصلا تحت عنوان: "جمالية التمرد: الموضة والكماليات وأمكنة الاجتماعات وطرق الاتصال". يكتب في هذا السياق: "لا يمكن نكران أن الشخص القادر على التمرد لديه ما يميزه عن غيره. إن خضوعه المستمر لحالة الهياج وإحساسه بفردانيته يؤثران بشكل ملحوظ في ذوقه وعاداته واختياراته المنتقاة من العالم المادي. فألوان ملابسه فاقعة تعكس نهمه الطبيعي وافتقاره للشبع وميله إلى الفضائحية والحدة. إن قميص مايكوفسكي الأصفر (فلاديمير مايكوفسكي 1893- 1930 أكبر شاعر روسي في القرن العشرين) كان بدرجة من السطوع دفعت الشرطة إلى منعه من الظهور به أمام جمهوره. وفيما بعد سيظهر في خزانة ملابسه بدلة وردية بحاشية حريرية سوداء وصديرية مخملية حمراء وسترة برّاقة" (ص 159).

   إشارات أخرى يوردها المؤلف في كتابه تلامس الجانب البراني لظواهر التمرد حيث يحيلنا إلى الثورات الحديثة مختلفة الألوان فنجد الثورة البرتقالية في أوكرانيا وثورة الزهور في جورجيا وثورة المظلات في هونغ كونغ وغيرها من الأحداث، كما يضع ملاحظاته حول الأمكنة التي يجتمع فيها المتمردون وطرق مخاطباتهم للجمهور.         

   إلى جانب تحليلاته لظاهرة التمرد من جوانبها الاجتماعية والاقتصادية وإسناداته التاريخية والأدبية، وفي مواقع عديدة من كتابه، يعود الباحث الروسي ألكسندر سكيبيرسكيخ إلى راهن بلاده ويسلط ضوءا جريئا وناقدا على السلطات التي يرى أنها تقوم بإجراءات ارتجالية حينما تشعر بانخفاض شعبيتها، فتعمد إلى ابتكار مراكز للحوار ونقاط للتواصل مع الجمهور مبالغ في عددها. يقول في هذا الشأن: "إن الهيئات الجديدة التي من مهامها الأساسية الوقوف كستار عازل بين الحكومة والشعب تتكاثر في هذه اللحظة التاريخية بشكل مفرط ومثير للاستغراب، كما أنها تولّد الشكوك لدى الباحثين حول فعاليتها وفوائدها. في كل محافظة يتم افتتاح دوائر استقبال باسم الرئيس والحزب الحاكم حيث تقوم بعمل محموم باستقبال شكاوى المواطنين وإعداد التقارير حولها. الشيء نفسه ينطبق على مؤسسات الدفاع عن حقوق الإنسان وحقوق الطفل وسواها من النقاط التفاعلية. وبالإمكان تقديم أمثلة لا حصر لها في هذا السياق، بيد أن الخلاصة تتمحور في تسويق العناية الدائمة للمواطنين، وعلى وجه المساواة. وظيفة هذه الهيئات الاستماع إلى مشاكل الأفراد وتهدئة خواطرهم بالوعود. إنهم بذلك يشترون الوقت من المواطن مقابل منحه الأمل لحل مشكلته، وحتى يحين موعد ذلك فإن المواطن لا يفكر في سؤال السلطة بطريقة مباشرة. وبذلك يبعدون الفرد عن البحث المستقل عن العدالة ويخمدون فيه جذوة التمرد" (ص 4-5).  

----------------------------------------------------------------------------------

الكتاب: مشروعية التمرد في الثقافتين الروسية والأوروبية.

المؤلف: ألكسندر سكيبيرسكيخ.

الناشر: إنفرا – أم، موسكو 2016

اللغة: الروسية.

عدد الصفحات: 266

                                            

أخبار ذات صلة