لأدير تيرنر
مُحمَّد السالمي
تمَّ نشرُ العديد من الكتب حول أسباب وتداعيات الأزمة المالية للعام 2008، ولكن السؤال الذي يجب أن يُطرح: هل نحن حقا بحاجة إلى آخر؟ يأتي تيرنر في كتابه "بين الدَّيْن والشيطان" ليُعطِي عرضًا مألوفا جدًّا للأزمة: القطاع المالي كبير جدًّا، لدينا الكثير من الديون، والنظام المصرفي ينبغي أن يُنظَّم بشدة. القوة الحقيقية لتيرنر هو الطرح المباشر لحججه، والإيجاز النسبي في كتاباته، على عكس العديد من المجلدات ما بعد الأزمة.. ومثل العديد من المنظمين والاقتصاديين، فإنَّ تيرينر يحلُم بعالم سيكون للأوصياء فيه ما يكفي من المعلومات في الوقت الحقيقي ليتم تنبيهك بالمخاطر. وهذا من شأنه أن يُسهم في توجيه سفينة التمويل بعيداً عن الصخور، والإبحار في المياه الهادئة. يقول تيرنر إنَّ جوهر الأزمة كان يكمُن في مبدأ دعه يعمل (laissez-faire)؛ لذلك يجب السيطرة على النظام المالي حتى تتمكن البنوك من إنتاج النوع الصحيح من الدَّيْن.
إنَّ خبرة تيرنر في مجال الائتمان أطلعته على أسرار المهنة، وكيفية التعامل معها، وتجنب الأفكار السيئة التي قد توجهنا إلى المصائب عند التعامل مع الديون. فبعد انهيار بنك ليمان براذرز، تم تعيين تيرنر رئيساً لهيئة الخدمات المالية في المملكة المتحدة ما بين عامي 2008 و2013م. وكتابه الأخير "بين الدَّيْن والشيطان"، يعطينا تصورا شاملا لأزمة الديون والحلول الممكنة لها. يعد هذا الكتاب من أفضل الكتب الاقتصادية وأكثرها مبيعاً للعام 2016 حسب المنتدى الاقتصادي العالمي وبلومبيرج.
وفي الفصل الأول من كتابه، يشرح تيرنر طفرة النمو في النظام المالي وتقييم الثقة قبل الأزمة؛ حيث يَرَى أنَّ الأسواق هي في الواقع غير كاملة، ويحتمل أن تكون غير مستقرة، وعلى الرغم من كونها ناقصة، إلا أنها قد تلعب دورا مفيدا. كما أنه يحذر من الوهم بأنه يمكننا أو يجب علينا المتابعة للوصول للكمال المطلق.
ويركِّز الفصل الثاني من الكتاب على المحرك الأساسي لعدم الاستقرار المالي؛ ألا وهو الخلق المفرط للائتمان. وهذا ما يفسر كيف أن المصارف وبنوك الظل تخلق الائتمان والمال، وما هي الآثار الإيجابية والسلبية النابعة من تلك القدرة. ويحدِّد ما هي الأسباب الكامنة وراء هذا النمو، وذلك نتيجة كثافة الائتمان، وشدة تراكم الديون، والذي أدى بدوره إلى ديون مفرطة على مدى نصف قرن من الزمان. وهذا ما يفسر أنه لا يمكننا أن نترك أي كمية من القروض التي أنشئت. ويختم الكاتب في هذا الفصل بوصف المصادر المحتملة البديلة لنمو الطلب الكلي، والخطر الذي سنواجهه ما لم تكن هناك سياسات جذرية لهذه المشكلة؛ حيث يُمكن أن نعاني من كساد عالمي أو نقص مزمن في الطلب.
وفي الفصل الثالث من الكتاب، يُفسِّر تيرنر دور خلق الائتمان في التنمية الاقتصادية وتأثير تدفقات رأس المال الدولي على الاقتصاد. ويشرح كيف استخدمت البلدان النامية الأكثر نجاحا طريق الائتمان لتعزيز النمو الاقتصادي، كما أنه يُحدِّد أيضا الأخطار المحتملة في سلك هذا الاتجاه. كما يطرح آراء الاقتصاديين والسياسيين حول الخيار الأمثل من تجزئة النظام المالي العالمي أو تحقيق التكامل دون حدود؛ حيث هذه القضية تعتبر حالة خاصة لمنطقة اليورو، التي يعيبها تصميمها السياسي للتعامل مع العواقب المترتبة على القروض الخاصة غير المستدامة، وأيضاً تدفقات رؤوس الأموال. وبذلك، لا يمكن لمنطقة اليورو أن تحقق نجاحا اقتصادياً دون إصلاح جذري.
وفي الفصليْن الرابع والخامس من الكتاب، يطرح الكاتب بعض الخطوات التي يجب اتخاذها لحل الآثار المترتبة على السياسات السابقة؛ ففي الفصل الرابع يطرح تيرنر بعض السياسات اللازمة لبناء اقتصاد يكون فيه الائتمان أقل كثافة في المستقبل، والحد من مخاطره. بينما يتناول في الجزء الخامس كيفية الهروب من الديون التي خلفتها الأخطاء السياسة الماضية وكيفية معالجة مخاطر الركود العالمي.
الكتاب مليء بالتحليل المفصل للمشاكل التي يُعاني منها النظام المصرفي الحالي؛ حيث ميل البنوك إلى خلق الكثير من المال والائتمان والديون بكميات مفرطة. ووضع معظم هذه الأموال في أسواق العقارات والأسواق المالية بدلا من تمويل الاستثمار في الاقتصاد الحقيقي. وفي صميم عدم الاستقرار المالي في الاقتصادات المتقدمة، تكمُن المشكلة في التفاعل بين عرض الائتمان المصرفي والعرض غير المرن من قبل العقارات (التغير في سعر العقارات لا يؤثر على العرض). فدائرة الائتمان وأسعار العقارات ليست مجرد جزء من قصة عدم الاستقرار المالي في الاقتصادات المتقدمة، فهي على مقربة من القصة كلها. حيث إنَّ هناك ثلاثة دوافع كامنة وراء زيادة كثافة الائتمان؛ ألا وهي: أهمية العقارات، والخلل في توازن الحساب الجاري العالمي، وزيادة عدم المساواة. كما أن نمو الائتمان قد لا يدعم استثمار الرأس المال الإنتاجي.
كانت البنوك وسطاً لنمو الائتمان في القطاع المالي. ومع ذلك، فإنَّ البنوك لا يُمكن أن تلام وحدها على الأزمة؛ حيث إنَّ البنوك لا تأخذ فقط الودائع من الأسر وتقرض المال لرجال الأعمال، ولكنها أيضاً تخلق المال، والائتمان، والقوة الشرائية. كما أنَّ الكاتب يرى أن إدماننا على الديون الخاصة هو أحد الأسباب في الأزمة المالية؛ حيث إنَّ الديون يمكن أن تكون خطرة، حتى لو كان جميع المصرفيين على مستوى من المصداقية والمسؤولية والمهنية، وحتى لو كانت قروض الأفراد ذات فائدة اجتماعية أو اقتصادية.
الائتمان الموجَّه للاستثمارات المنتجة لم يلعب دورا في البلدان النامية الناجحة، ولكن الأسواق الناشئة الآن أيضا تواجه تحديات كبيرة. في الماضي، استخدمت البلدان النامية الناجحة طريق الائتمان بدلا من السوق الحرة لتعزيز تراكم رأس المال السريع والمثمر، وقد وتضمَّنت سياساتها إصلاح الأراضي، والسياسة الصناعية، وتحسين النظام المالي. ففي كوريا كان الائتمان متاحاً لقطاع الصناعة التحويلية، وقطاع الصادرات، وليس متاحا للتطوير العقاري وقطاع الواردات.
يطرح تيرنر عدة نقاط في كتابه يجب إعادة النظر حولها؛ حيث إنَّ الهدف لا يمكن أن يكون ببساطة جعلَ النظام المالي أكثر استقرارا، ولكن يجب أن تكون هناك إدارة فعالة لكمية الائتمان وتأثيرها على الاقتصاد الحقيقي؛ حيث يتطلب الإصلاح الفعال رفض ثلاثة مفاهيم شائعة؛ أولاً: تكامل السوق وزيادة السيولة فيه دائما ما يحسن كفاءة التوزيع أو التخصيص. ثانياً: التضخم المنخفض والمستقر كاف لضمان الاستقرار المالي والاقتصادي. وثالثاً: إنَّ نمو الائتمان أمر حيوي للنمو الاقتصادي.
يجب أن تكون هناك عدة تغييرات رئيسية للتنظيم المالي؛ حيث ينبغي أن يكون رأس المال المطلوب لدعم الإقراض العقاري أعلى من المستوى الحالي بكثير. كما يجب تقييد الديون قصيرة الأجل من خلال تجزئة النظم المالية الدولية، واستخدام رأس المال كعازل لمواجهة التقلبات الدورية. وأيضاً، التغلب على جمود الدَّيْن عبر إنشاء نظام أكثر استقرارا، وذلك من خلال السندات الحكومية المرتبطة بالناتج المحلي الإجمالي. على رغم، وجود تحيز في السوق الحرة نحو الإقراض العقاري، هناك ما يبرر الإقراض لأهداف أخرى مثل التنمية المستدامة، ودعم الشركات الصغيرة والمتوسطة.
ومن أجل الهروب من عبء الديون، تذهب البلدان المتقدمة للموازنة بين تقييد خلق الائتمان الخاص وإعادة الطلب من خلال طبع النقود. كل الأسواق والحكومات يمكن أن تفشل؛ لذلك يجب أن تعكس السياسة المستقبلية المثلى بين الجمع بضوابط أكثر صرامة في خلق الائتمان الخاص مع استخدام منضبط للنقود الورقية عند الحاجة.
ومن الحلول التي يدعو إليها تيرنر فكرة حظر البنوك من خلق المال. ولكنه بعد ذلك يدعو بقوة إلى حاجة الدول لخلق المال وتوزيعه في الاقتصاد الحقيقي، سواء من خلال الإنفاق الحكومي أو المدفوعات المباشرة للمواطنين.
كتاب "بين الدَّيْن والشيطان" يناقش تاريخا طويلا من المقترحات لإزالة قدرة البنوك على خلق النقود. فخلال فترة الكساد العظيم في 1930، دعا عدد من كبار الاقتصاديين الأمريكيين إلى هذه السياسة، حتى تمَّ عرضه على الرئيس روزفلت كخطة لإنعاش الاقتصاد. منذ ذلك الحين، عادت هذه الفكرة إلى الظهور مجدداً من قبل عدد كبير من الاقتصادين في العالم، وكان آخرها ورقة عمل من قبل صندوق النقد الدولي "إعادة النظر في خطة شيكاغو".. يقول تيرنر في مناقشته لهذه المقترحات ما يأتي: "حتى لو كنا نرفض التطرف من خطة شيكاغو (الاقتراح الأصلي لمنع البنوك من خلق المال)، علينا أخذ الاستنتاج بعين الاعتبار؛ حيث يجب علينا إدارة وتقييد كمية الائتمان التي خلقتها الأنظمة المصرفية أو بنوك الظل".
ويرى منظِّرو الاقتصاد الكلي أن زيادة معروض النقود الورقية قد يؤدي إلى تضخم جامح، ولكن تيرنر يرى في كتابه عكس ذلك، حيث يقول: "هربا من الفوضى التي خلفتها أخطاء السياسات السابقة، نحتاج أحيانا لتغطية الدين الحكومي وتمويل العجز المالي من أموال البنك المركزي؛ حيث إنَّ طباعة الحكومة للمال هي البديل الممكن تقنيا إما للسياسة المالية أو النقدية لتغطية الطلب الكلي على الرغم من أن طبع النقود هو من "عمل الشيطان".
يجب على البنوك المركزية أن تخلق المال للاقتصاد الحقيقي؛ لذلك يرى الكاتب أن هناك حلا واضحا لهذه المشكلة؛ حيث يقول: "يُمكننا أن نحفز دائما الطلب الشكلي (nominal Demand) أي "الطلب منزوع التضخم" عن طريق طباعة النقود الورقية: إذا كانت هناك طباعة مفرطة، فسوف تولد لدينا تضخما ضارا. ولكن إذا كانت طباعة لكمية صغيرة فقط، فإنها سوف تنتج تأثيرات صغيرة فقط، ويحتمل أن تكون مرغوبة".
هذا الكتاب ينبغي أن يدرسه كل من يرغب في معرفة كيف يفكر أحد صانعي السياسة من ذوي الخبرة. فكتاب "ما بين الدَّيْن والشيطان"، يُشجِّع القراء للحصول على فهم أفضل حول المال والديون ودورات الائتمان. ليس فقط لأنه يوفر فهما دقيقا لكثير من المشاكل الناجمة عن النظام النقدي الحالي، ولكنه يقدم أيضا فهما ممتازا حول الحلول المحتملة ولماذا هذه الحلول هي الخطوة المنطقية التالية في تحقيق النمو وزيادة الاستقرار المالي؛ حيث يجب على النظام أن يتطوَّر حتى نتمكن من السعي نحو الأفضل لتجنب مثل هذه المشاكل في المستقبل.
------------------------
- الكتاب: "بين الدَّيْن والشيطان: المال، والائتمان، وإصلاح التمويل العالمي".
- المؤلف: أدير تيرنر.
- الناشر: جامعة برنستون، 2015.
- عدد الصفحات: 320 صفحة.
