لجينو سيكري وباتينا هورلن
مُحمَّد السماك
ماذا لو تمكَّنتْ ألمانيا في العهد النازي، وتحت قيادة أدولف هتلر، من إنتاج القنبلة النووية قبل الولايات المتحدة؟ أيُّ عالم كان يمكن أن يكون قائماً اليوم؟.. يطرحُ هذا السؤال كتابٌ جديدٌ عن أسرار مرحلة الأبحاث الأولية التي سبقت إنتاج القنبلة الذرية في الولايات المتحدة وإطلاق اثنتين منها على مدينتين في اليابان؛ هما نكازاجي وهيروشيما؛ مما أدى لاستسلام اليابان، وإلى طي صفحة الحرب العالمية الثانية في المحيط الباسيفكي.. ينطلقُ هذا السؤال من قصة كانت مجهولة إلى أن نشر تفاصيلها ووقعائعها الدكتور جينو سيكري والدكتورة باتينا هورلن في كتابهما الجديد: "بابا العلوم: أنريكو فيرمي وولادة العصر النووي".
ولا بد أولاً من كلمة عن مُؤلفيْ الكتاب؛ لأنهما يشكلان معاً جزءاً من القصة.. فالدكتور سيكري هو أستاذ العلوم في جامعة بنسلفانيا في الولايات المتحدة. وكان عمّه إميليو سيكري أحد تلامذة العالِم النووي الإيطالي انريكو فيرمي عندما كان يدرّس في جامعة روما في إيطاليا، موطنه الأصلي، قبل هجرته إلى أمريكا؛ وبذلك يكون أحد مؤلفي الكتاب قد جمع إلى جانب معلوماته العلمية، الوقائع التاريخية عن أول اكتشاف نووي. وأهمية أولوية هذا الاكتشاف أنه لم يكن اكتشافاً أمريكيا، ولا سوفياتيا، ولا ألمانيا. بل كان اكتشافا إيطاليا.
أما الدكتورة بتينا هورلين؛ فقد كانت أستاذة العلوم في جامعة "بان" في الولايات المتحدة، وعملت طويلا في المدينة النووية الأمريكية السرية في لوس ألاموس. ولذلك فإنها عندما تكتب عن هذا الموضوع فانها تعرف ماذا تقول. وفي العام 1938، أجرى العالِم الإيطالي فيرمي مع عدد من مساعديه تجربة في مختبر الجامعة التي كان يدرّس فيها العلوم في العاصمة الإيطالية روما. وحصل بسببها على جائزة نوبل للعلوم. وتقوم أهمية الاكتشاف العلمي على إنتاج الأشعة من خلال تبطيء حركة النيوترونات في الذرة. وهي الخطوة الضرورية الأولى للتفجير النووي. غير أن فيرمي وزملاءه اعتقدوا -خطأ- أنَّ هذا الاكتشاف يصنع موادَ أولية جديدة بعدد أكبر من ذرات اليورانيوم (المادة 92). وعندما نُشرت وقائع هذا الاكتشاف العلمي، اقترح عدد من الصحفيين الإيطاليين الموالين للرئيس الفاشي موسوليني أن يطلق اسم موسوليني على المادة الجديدة المكتشفة.
غير أنَّ فيرمي لم يكن مهتما -وربما لم يكن يُدرك- البُعد التفجيري الهائل للاكتشاف الجديد. ولو علم بذلك، وبالتالي لو علم به موسوليني، لنقلت المعلومات الأولية عن صناعة القنبلة الذرية منذ عام 1935 إلى ألمانيا، ولتمكن هتلر في ذلك الوقت من امتلاكها؛ الأمر الذي كان يمكن أن يغيِّر مجرى التاريخ.
ويؤكِّد الكتاب أن العلماء الألمان لم يصلوا إلى ما وصل إليه العالِم الإيطالي فيرمي إلا بعد مرور أربع سنوات.. أي بعد فوات الأوان! ويروي الكتاب كيف اضطر فيرمي إلى الهجرة إلى الولايات المتحدة لتدريس العلوم في جامعة شيكاغو؛ حيث اكتشف هناك أهمية وخطورة ما توصل إليه في روما. ولكنه منذ ذلك التاريخ رفع صوته محذرا الإنسانية من أهوال ترجمة الاكتشاف العلمي إلى سلاح. يومها قال عبارته المشهورة: "ليس للعلماء حقّ على المخلوقات". بمعنى أنه ليس لعلماء الذرة الحق في إنتاج سلاح يؤدي إلى قتل المخلوقات (البشرية والحيوانية والنباتية) بشكل جماعي وعشوائي. ولكنَّ الولايات المتحدة مضت قدما في أبحاثها حتى أنتجت القنبلة، وجربتها في صحراء المكسيك في العام 1945، بعد أن وظفت الاكتشاف العلمي للعالِم الإيطالي الأصل في برنامجها النووي.
وبعد التأكد من نجاح التجربة، وفي السادس والتاسع من أغسطس 1945، ألقت الولايات المتحدة قنبلتين نوويتين على اليابان. استهدفت الأولى مدينة هيروشيما، واستهدفت الثانية مدينة نكازاجي. أدى ذلك إلى مقتل أكثر من مائة ألف ياباني في هذين اليومين. وقتل التلوث النووي فيما بعد عددا مماثلا. أما الرجل الذي قاد عملية إلقاء القنبلة توماس ويلسون فيربي، فقد مات في فراشه الوثير في مارس 2000 (أي بعد 55 عاما) عن عمر ناهز الواحد والثمانين وهو قرير العين مرتاح الضمير.. بالنسبة له، كان يؤدي مهمة عسكرية. وإن نجاح المهمة وضع حدا للحرب العالمية الثانية. ولكن بالنسبة للمسؤولية الإنسانية، فإن السؤال الذي لا يزال يطرح حتى اليوم هو: من المسؤول؟. هل تقع المسؤولية على الرئيس فرانكلين روزفلت الذي أطلق مشروع مانهاتن لإنتاج القنبلة النووية؟ هل تقع المسؤولية على العالِم الفيزيائي اليهودي ألبرت آينشتاين الذي أقنع روزفلت بإمكانية وبضرورة إنتاج القنبلة؟ هل تقع المسؤولية على العالِم النووي -الألماني الأصل- روبرت أوبنهيمر الذي كان قائدَ فريق العلماء في لوس آلاموس الذي أنتج القنبلة؟ هل تقع المسؤولية على الرئيس الأمريكي هاري ترومان الذي أعطى الأمر بإسقاط القنبلتين؟ كان آينشتاين يهوديا ألمانيا، وكان يعرف أن العلماء الألمان يعملون على إنتاج القنبلة، وأنهم قد يتوصلون إلى صنعها. وبذلك أقنع الرئيس روزفلت باستعجال إنتاجها واستخدامها لحسم الحرب لمصلحة الولايات المتحدة. وكان أمل آينشتاين هو أن تلقى القنبلة الأولى على مدينة ألمانية وليس على مدينة يابانية. غير أن الخوف من أن يصيب الإشعاع النووي الشعوب الأوروبية المتاخمة لألمانيا أدى إلى اختيار الهدف الياباني حيث تتوافر ضمانات كافية بأن يكون كل الضحايا المباشرين وغير المباشرين من اليابانيين وحدهم. في شهر مارس 1945 أمطر الأمريكيون العاصمة اليابانية طوكيو بالقنابل، فقتل 85 ألف ياباني. حمَّل هذا القصف حكومة الإمبراطور هيروهيتو قبول البحث في شروط الاستسلام. مع ذلك أُلقيت القنبلة الأولى، ثم أُتبعت بالثانية بعد ثلاثة أيام، وفي اليوم السادس اضطرت اليابان إلى الاستسلام بلا قيد أو شرط. لم يكن استخدام السلاح النووي ضروريا لحمل اليابان على الاستسلام. ولكنه كان أداة لحملها على قبول استسلام مذل، يعزز الموقف الأمريكي التفاوضي مع الاتحاد السوفييتي السابق على اقتسام تركة عالم ما بعد الحرب. ولم يكن استخدام السلاح النووي ضد اليابان هدف آينشتاين. كان هدفه الانتقام من الألمان. ولقد أعرب عن خيبة أمله بعد أن اطلع على النتائج المروعة لقنبلة هيروشيما بقوله: "لقد كان الأفضل لي لو عملت في تصليح الساعات بدلا من العمل في علوم الفيزياء". وهذا ما كان سبقه إليه العالِم الإيطالي فيرمي، كما ينقل ذلك عنه مؤلفا الكتاب: "بابا العلوم" الدكتوران سيكري وهورلين.
ولكن قبل أن يعهد إلى توماس فيربي بالمهمة "رقم 13" بترؤس الفريق الذي أسقط القنبلة على هيروشيما، اشترك -فيربي- في الحرب على الجبهة الأوروبية وقام بثلاث وستين عملية ضد مدن ألمانية؛ منها بصورة خاصة مدينة درسدن التي تحوّلت مبانيها إلى أنقاض. وقد أدى تفاهمه مع الطيار العسكري بول تيبتس ونجاحهما معا في إصابة الأهداف الألمانية المقررة إلى اختيارهما للمهمة على هيروشيما. أخضع الفريق إلى تدريبات مكثفة في جزيرة تنيان في المحيط الهادئ، وأجريت لعناصره (11 طيارا) فحوصات وتحليلات نفسية معمقة، قبل الانطلاق بطائرة إينولاغاي، التي يحتفظ بها سلاح الطيران الأمريكي حتى اليوم، في رحلة استغرقت 13 ساعة دون توقف إلى هدفها المنكود. لذلك أطلق رقم 13 اسما على تلك المهمة التي وضعت العالم أمام مرحلة جديدة من العلاقات اللاإنسانية.
ولكن قبل أسابيع قليلة من ذكرى إسقاط أول قنبلة نووية أمريكية على مدينة هيروشيما في اليابان (في السادس من أغسطس 1945) تساءل وزير الدفاع الأمريكي الأسبق روبرت مكنمارا -الذي تُوفِّي مُؤخرا: هل انتصار الولايات المتحدة في الحرب يبرّر القصف النووي لهيروشيما ونكازاجي؟. وذهب مكنمارا بطل الحرب الأمريكية في فيتنام إلى أبعد من ذلك عندما وصف مساهمته في المسؤولية العسكرية عن القصف النووي بأنها "جريمة حرب".
لم يسبق لوزير دفاع أمريكي أن مارس فضيلة النقد الذاتي كما فعل مكنمارا. فهو لم يقتصر على انتقاد إلقاء القنبلتين على اليابان وعلى مسؤوليته في تلك الجريمة الإنسانية الكبيرة، ولكنه انتقد كذلك الحرب على الفيتنام وحمّل نفسه مسؤولية ما وصفه بجريمة التشجيع على تلك الحرب. وفي الأساس، تنطلق مأساة التوظيف الأمريكي للسلاح النووي ليس فقط من مبدأ استخدام هذا السلاح المدمر، ولكن من مبررات استخدامه أيضا. فالولايات المتحدة لا تزال حتى اليوم تمتنع عن كشف الوثائق السرية التي تجيب عن السؤال الكبير التالي؛ وهو: هل كانت اليابان مستعدة للاستسلام قبل إلقاء القنبلة؟ وهل كانت هناك خيارات أخرى أمام الولايات المتحدة لحمل اليابان على الاستسلام دون اللجوء للسلاح النووي؟. وفي العام 1946، أعدت وزارة الدفاع الأمريكية تقريرا سريا بعنوان: "جهود اليابان لإنهاء الحرب".
اعترف التقرير الذي لم يذع إلا في عام 1995 بأنه من المؤكد أن اليابان كانت على استعداد للاستسلام قبل ديسمبر 1945، وربما قبل الأول من نوفمبر 1945 حتى ولو لم تُلقَ القنبلتان النوويتان عليها، وحتى لو لم تدخل روسيا الحرب، وحتى لو لم تهدد بالاجتياح العسكري".
إذن؛ لماذا أصرَّ الرئيس الأمريكي هاري ترومان على إلقاء القنبلتين على هيروشيما ونكازاجي؟ للإجابة عن هذا السؤال، لا بد من الإشارة إلى أن الولايات المتحدة كانت تمكّنت من حلّ الرموز السرّية -الشيفرة- الخاصة باليابان أثناء المراحل الأخيرة للحرب، وفي 12 يوليو 1945 كشفت واحدة من تلك الرسائل عن قرار الإمبراطور نفسه بالتدخل لإنهاء الحرب. كانت اليابان تعرف أن الرئيس السوفييتي الجنرال جوزف ستالين وعد بدخول الحرب ضدها بعد ثلاثة أشهر من استسلام ألمانيا في الثامن من مايو 1945. ولقد حصل ذلك بالفعل في الثامن من أغسطس من ذلك العام. وكان ذلك وحده كافيا لإنهاء الحرب ولفرض شروط الاستسلام على اليابان أمام الدول الكبرى الثلاث بريطانيا والاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة خاصة بعد استسلام ألمانيا. غير أنه كانت للرئيس ترومان حسابات أخرى. لم يكن ترومان يحتاج إلى القنبلة النووية لإخضاع اليابان بعد هزيمة ألمانيا بقدر حاجته إليها لتخويف الاتحاد السوفييتي وإرهابه. جرت أول تجربة ناجحة للقنبلة في 16 يوليو 1945. وفي اليوم التالي كان ترومان مجتمعا في بوتسدام مع ستالين وتشرشل.
ويروي اللورد ألن برووك رئيس أركان القوات البريطانية في مذكراته أن تشرشل فوجئ باللهجة الفوقية وبالتصرّف الاستعدائي للرئيس الأمريكي وهو يحاور ستالين. فقد استفز ترومان الرئيس السوفييتي دون مبرّر وتوجه إليه بطلبات مستحيلة، بل تعجيزية. ولم يفهم تشرشل هذا التحول في الأسلوب التفاوضي لترومان إلا في اليوم التالي عندما عرف بنجاح التجربة النووية الأمريكية. تكشف الوثائق الأمريكية أن وزير الخارجية في ذلك الوقت "بيرنز" أبلغ الرئيس ترومان "بأن القنبلة النووية ستضع الولايات المتحدة في موقف تفاوضي قوي يمكّنها من إملاء شروطها لإنهاء الحرب". كذلك يروي العالِم النووي الأمريكي "لي زيلارد" في مذكراته التي نشرها بعنوان "التاريخ الشخصي للقنبلة النووية"، أنَّ الوزير بيرنز اجتمع به في البيت الأبيض، وأنه أثناء الاجتماع لم يثر بيرنز ما إذا كان استخدام القنبلة ضد المدن اليابانية ضروريا لكسب الحرب، ولكنه كان يؤكد على أن "امتلاكنا للقنبلة وإظهار فعاليتها سوف يجعل الاتحاد السوفييتي أكثر طواعية في أوروبا". وهكذا كان.
جرى توظيف الإعلام على أوسع نطاق لإقناع الرأي العام الأمريكي بأن استخدام القنبلة كان ضروريا لتسريع إنهاء الحرب، وأن ذلك وفّر على الولايات المتحدة أكثر من مليون قتيل!! ولا يزال معظم الرأي العام الأمريكي حتى اليوم مؤمنا بهذا التوجُّه.
لقد تعلَّم العالم من مأساة هيروشيما-نكازاجي درسيْن كبيريْن؛ الدرس الأول: إنساني؛ ويتعلق بمدى الخسائر البشرية التي تسبب بها الانفجار النووي حيث لا يفرِّق بين مدني وعسكري، أو بين إنسان وحيوان، أو بين بناء وشجر؛ فالموجة النووية تسحق كل شيء وتبيد كل حياة. أما الدرس الثاني، فهو أن الردع النووي كان وهماً.
فالنادي النووي توسَّع منذ ذلك الوقت ليتعدى روسيا وفرنسا وبريطانيا ليشمل العديد من الدول النامية بما في ذلك الهند والباكستان. ولقد شمل إسرائيل منذ عقود أيضا، حيث يقدر حجم ترسانتها النووية بأكثر من 200 قنبلة. ولا يزال النادي يتوسع سرًّا وعلنا؛ الأمر الذي يشير إلى أن القوة التدميرية لأعضاء النادي النووي كافية لقتل كل إنسان على سطح الأرض 15 مرة على الأقل!
ويبقى تحذير الأب المجهول للقنبلة النووية العالم الإيطالي إنريكو فيرمي، الذي ينقل عنه مؤلفا الكتاب "بابا العلوم" رؤيته السوداوية التي حذَّر العلماء من خلالها من أن يمنحوا أنفسهم حقا إلهيا في قتل البشر.. غير أنَّ تحذيراته ذهبت سدى، ومن المهم أنَّ علومه لم تصل إلى ألمانيا الهتلرية، وإلا لكان العالم اليوم ليس العالم الذي نعيش فيه !
----------------------------
- الكتاب: "بابا العلوم: أنريكو فيرمي وولادة العصر النووي".
- المؤلف: جينو سيكري وباتينا هورلن.
- الناشر: هنري هولت وشركاه، 2016.
- عدد الصفحات: 315 صفحة.
