«إسبانيا الله»

الغلاف.jpg

لإغناسيو سمبريرو

إغناثيو فيراندو *

يُعدُّ حضور المسلمين في إسبانيا من حيث عددهم المتزايد، ومن حيث أهمية الدور الذي يضطلعون به في كنف المجتمع الإسباني، ظاهرة لافتة لأنظار المفكرين والمعنيين، ومؤشرا على حركة التغيرات الاجتماعية التي تشهدها إسبانيا في الوقت الراهن، وستشهدها لا محالة في المستقبل القريب، باتجاه التعدد الثقافي والديني، بعد أن ظلت خلال عقود طويلة بلدا يتميز بالأحادية الثقافية والاجتماعية والديانة الرسمية الوحيدة بسبب انغلاق النظام السياسي الذي ساد المشهد العام حتى أواخر القرن العشرين. وفي هذا الكتاب، يَسْعَى المؤلف الصحفي الإسباني المعروف إغناسيو سمبريرو، إلى تقديم صورة شاملة قدر المستطاع عن أوضاع المسلمين الحالية في إسبانيا على مختلف فئاتهم وطبقاتهم، مع تحليل مفصل لشتى جوانب حضورهم في أرض كانت تحمل في الماضي اسم الأندلس.

لقد عمل المؤلف مدة طويلة في المغرب مراسلا لجريدة "الباييس" القريبة في مواقفها السياسية من اليسار السياسي الإسباني الذي يرأسه الحزب الاشتراكي. وبفضل خبرته المتراكمة أصبح سمبريرو من أبرز المتخصصين المعترف بهم في العلاقات الإسبانية المغربية وفي الشؤون الإسلامية، إلا أنَّ بعض مقالاته التي لا تخلو من انتقادات لسياسة الحكومة المغربية وتتناول بشيء من الجرأة بعض القضايا "الحساسة"، تسببت في إحداث قطيعة بينه وبين المغرب؛ ففي سنة 2014 قام الوزير الأول المغربي، عبد الإله بن كيران، برفع دعوى قضائية ضده أمام المحكمة الوطنية الإسبانية متهما الصحفي الإسباني بالتحريض على الإرهاب من خلال نشر مقالة تحتوي على مقطع فيديو منسوب إلى مؤسسة الأندلس للإنتاج الإعلامي التابعة لتنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي. ونتيجة للضغوطات السياسية الشديدة التي مارستها الحكومة المغربية، قامت إدارة "الباييس" بإعفاء سمبريرو من منصبه كمراسل لها في المغرب.

وقبل التطرق إلى موضوع الكتاب بحد ذاته، لا بد أن نشير إلى تناقض صارخ بين العنوان على الغلاف وما حواه الكتاب بين دفتيه. كأن المؤلف مال إلى روح الإثارة لجلب انتباه القراء فأعطى كتابه عنوانا لافتا هو "إسبانيا الله"، وأتبعه بعنوان فرعي يقول بالحرف الواحد: "ها قد عاد المسلمون بعد خمسة قرون من إعادة الفتح (حروب الاسترداد أو "الريكونكيستا" كما يطلق عليها بالإسبانية)، هم الآن مليونا نسمة وعددهم لا يزال في اضطراد"، مع صورة خريطة إسبانيا وفي داخلها زمرة من المسلمين وهم يؤدون الصلاة جماعة. فماذا يقصد المؤلف بالإشارة إلى مفهوم "الريكونكيستا"، أي، إعادة تنصير الأندلس عبر تقدم الجيوش المسيحية نحو الجنوب، ما انتهى بالاستيلاء على غرناطة، آخر معاقل الإسلام في الأندلس وإجبار المسلمين على اعتناق المسيحية وفي الأخير طردهم من الجزيرة الإيبيرية؟ ولماذا يربط بين هذه الأحداث التاريخية وبين وجود عدد كبير نسبيا من المسلمين في الأراضي الإسبانية حاليا؟ أول ما يخطر في بال القارئ غير المطلع عند إلقاء نظرة على هذا الغلاف الذي يرسم هؤلاء المسلمين كالغزاة الذين ينتشرون في أرض أخرى، فكرة التهديد والخطر على الهوية الإسبانية الأصيلة المزعومة. غير أن محتوى الكتاب لا يصب في اتجاه نشر كراهية الإسلام عند القراء ولا التعبير عن رُهاب الإسلام على الإطلاق أو التمسك بما يسمى بـ"القيم الإسبانية الأصيلة" لدى أوساط المحافظين الإسبان تجاه "موجات المهاجرين المسلمين". شتان ما بين هذا الكتاب الذي يصف أوضاع المسلمين في إسبانيا وصفا موضوعيا إلى حد ما، وبين التشبث بمنطق الوطنية الإسبانية والدفاع المتشدد عن القيم الغربية تجاه ما يطلق عليه تسمية "خطة الغزو الإسلامي"؛ إذ إنَّ ما يقدمه لنا سمبريرو إنما هو رحلة مفصلة في فضاءات الجماعات الإسلامية الموجودة في إسبانيا، عبر التعمُّق فيما تواجهه من مشاكل وصعوبات من ناحية، وما تشكله من فرص وميزات لفائدة المجتمع الإسباني الذي يحتضنها من ناحية أخرى. ولعل أبرز تعبير يستخدمه المؤلف لتوضيح رؤيته هو ما نقرأه في المقدمة: "بالرغم من تعدد المشاكل التي تعاني منها الجالية الإسلامية في إسبانيا، هناك مقولتان ثابتتان لا شك فيهما ولا تقبلان الجدل: أولاهما "إن المهاجرين واللاجئين يأتون لإثراء البلدان التي تحتضنهم وفي الوقت ذاته لإفقار البلدان التي يفرون منها"، وثانيهما "إن الهجرات السلمية في عمومها، مهما تسلل في صفوفها أقلية من المتطرفين والمؤمنين بالعنف، لم تغير أبدا قيم المجتمع المحتضن ولم تعدل مؤسساتها تعديلا جذريا".

وفي الأبواب الخمسة الأولى، بعد تقديم دراسة دقيقة توضح البلدان الإسلامية التي يأتي منها المهاجرون وكثافة المسلمين في كل المحافظات والأقاليم الإسبانية، يناقش المؤلف موضوع سبل اندماج جالية المسلمين في المجتمع الإسباني. ما هي المشاكل التي يواجهها عدد من المسلمين (منهم الجدد ومنهم القدماء وحتى الإسبان الأصليون الذين اعتنقوا الإسلام) يقدر في 1.88 مليون نسمة في أواخر 2015، أي، نسبة 4.06 في المائة من سكان البلد، حسب الإحصائيات الرسمية؟ تكمن المشكلة الأولى، على حد قول المؤلف، في أن نسبة كبيرة من المسلمين لا يجدون فرص عمل في إسبانيا وهي ضعف نسبة البطالة عند الإسبان الأصليين التي ارتفعت في السنوات الأخيرة حتى 20% تقريبا، ناهيك عن المهاجرين السريين الذين يبقون على الأراضي الإسبانية في وضعية غير قانونية دون أوراق ودون إذن الإقامة. وبالرغم من الجهود الكبيرة التي تبذلها السلطات الإقليمية والمحلية لتقديم مساعدات مادية للمسلمين ودورات تعليمية وتكوينية من أجل أن يكونوا قادرين على دخول سوق العمل على قدم المساواة مع المواطنين الإسبان، فإن الحقيقة التي لا مِراء فيها هي أن سنوات الأزمة الاقتصادية التي شهدتها إسبانيا مؤخرا خلقت طبقة واسعة من المسلمين الذين يعانون من التهميش الاجتماعي ويميلون إلى التقوقع، وقد تؤدِّي هذه الظاهرة الاجتماعية إلى ظهور ونشر الأفكار المتطرفة والتعاطف مع الجماعات الإرهابية الإسلاموية. المشكلة الثانية هي أن الاندماج في المجتمع الإسباني ليس بأمر سهل بالنسبة للمسلمين الذين لا يريدون التخلي عن القيم والطقوس والممارسات الإسلامية التي ألفوها في بلدان الأصل. صحيح أنَّ إسبانيا دولة علمانية ليس لديها دين رسمي، وأن على السلطات الإسبانية احترام كل الديانات على التساوي. إلا أن المذهب الكاثوليكي المسيحي هو الذي يستفيد من الجزء الأكبر من المساعدات الرسمية التي تمنحها الدولة للجمعيات والمنظمات الدينية، في حين أن المسلمين لا يكادون يستفيدون منها. على سبيل المثال لا يتوفرون على مساجد مناسبة يؤدون فيها الصلاة، باستثناء قلة قليلة من المساجد التي أنشئت بتمويل خارجي من بلدان الخليج العربي، فيضطرون إلى استعمال قاعات ضيقة ومنازل خاصة؛ إذ إنَّ السلطات تضع أمامهم عراقيل وحواجز كثيرة تمنعهم من بناء المساجد في المدن والقرى الإسبانية. ولعل أكبر مشكلة يتصدى لها المسلمون في إسبانيا هي مشكلة الحفاظ على الهوية الإسلامية في حضن مجتمع غربي ابتعد في العقود الأخيرة عن مظهره المسيحي القديم مع إخفاء مشاعر الانتماء الديني عن أعين المجتمع (باستثناء بعض الطقوس الجماعية التي هي أقرب إلى الفلكلور والأعياد منها إلى التدين)، ولا يحبذ إظهار الرموز الدينية في الفضاءات العامة. ومن تجليات هذه المشكلة المرتبطة بما يمكن أن نسميه "صراع الهوية" الجدال الحاد الذي نشأ في إسبانيا شأنها في ذلك شأن بلدان أوروبية أخرى حول ارتداء الحجاب في المدارس والمؤسسات العامة الإسبانية، بعد أن تم إبعاد بعض الفتيات المسلمات المحجبات عن مدارس الثانوية في عدة مدن إسبانية بناء على النظم الداخلية للمدارس الإسبانية التي تجبر التلاميذ على حضور قاعات التدريس مكشوفي الرأس. إلا أنه وبعد نقاش حاد في وسائل الإعلام وفي المؤسسات التعليمية اختتم الجدل في معظم الأحيان؛ باعتبار أنَّ نظاما داخليا لا يجوز في أي حال من الأحوال أن تعطى له الأولية أمام مبدأ عام منصوص عليه في الدستور الإسباني، وهو حرية العقيدة والحرية الشخصية في اختيار الملابس والمظاهر؛ فنتيجة لذلك تمت إعادة قبول الفتيات المحجبات في المدارس. أما الجامعات، فلا توجد فيها أي مشكلة بهذا الخصوص إذ أن الطلاب من الراشدين وهم أحرار لا يجوز إجبارهم على ارتداء أو عدم ارتداء أي ملبس.

وعلى رأس طموحات وتطلعات المهاجرين المسلمين في إسبانيا وسلم أولوياتهم الحصول على الجنسية الإسبانية التي تستعصي عليهم بسبب التمييز الذي يعانون منه مقارنة مع المهاجرين المنحدرين من البلدان التي كانت في السابق مستعمرات إسبانية كبلدان أمريكا اللاتينية والفيليبين وغينيا الاستوائية، فيكفي لهم الإقامة سنتين في إسبانيا للحصول على الجنسية، في حين أن المسلمين لا بد لهم من المكوث في الأراضي الإسبانية لمدة عشر سنوات، وحتى للمغاربة الآتين من منطقتي الريف والصحراء المغربية اللتين كانتا في السابق مستعمرتين إسبانيتين. يقص لنا سمبريرو في هذا الصدد حكاية بعض المسلمين الذين يسعون جاهدين إلى اكتساب الجنسية الإسبانية ولكنهم لم يفلحوا بعد؛ إذ إنَّ السلطات الإسبانية لا تطلب منهم إذن الإقامة والعمل فحسب، بل تطلب أيضا إثبات الاندماج الاجتماعي والثقافي واللغوي في المجتمع الإسباني، وأهم من ذلك، يمكن للسلطات رفض الجنسية بشكل تعسفي استنادا لتقارير المخابرات الإسبانية أو مجرد الشبهات في سلوك طالب الجنسية دون أي تبرير علني. ومع ذلك، يؤكد المؤلف أن الإحصائيات الإسبانية تشير إلى أن درجة الاندماج لا بأس بها مقارنة مع البلدان الأوروبية الأخرى؛ إذ إنَّ المسلمين المقيمين في إسبانيا الذين يحملون الجنسية الإسبانية يشكلون ما يقارب الـ40% من مجموع المسلمين.

ومن المواضيع الساخنة التي يُناقشها المؤلف: موضوع الحركات المتطرفة القريبة في مواقفها من التنظيمات الإرهابية التي تحاول الانتشار في الغرب. الحقيقة أن سمبريرو يقدم في هذا الصدد أروع صفحات الكتاب، مع عرض نتائج بحث معمق حول هذه الحركات المتطرفة؛ استنادا إلى معلومات شبه سرية مقتبسة من وزارة الداخلية الإسبانية وإلى جولة من المقابلات والزيارات الميدانية في المنطقتين الأكبر أهمية في هذا المجال؛ وهما: منطقة كتالونيا التي استقبلت أكبر عدد من المسلمين في إسبانيا ومدينتا سبتة ومليلية اللتان تسميهما وسائل الإعلام المغربية بالمدينتين "المحتلتين". فيقوم سمبريرو على منوال ما كان قد فعله في مقالات له نشرت في جريدة "الباييس" بسرد الحوارات التي أجراها مع مجموعة من المسلمين المشتبه بمشاركتهم في أنشطة متعلقة بالإرهاب، إلى جانب مقابلات أخرى أغلبها سرية مع أفراد الشرطة الوطنية الإسبانية ورجال المخابرات. النتيجة هي مقاربة جدية لوضع هذه الحركات المتطرفة في كتالونيا، وللجهود التي تبذلها أجهزة الأمن الإسبانية لملاحقتها وللحد من ظهورها وانتشارها. وبالنسبة لمدينتي سبتة ومليلية، اللتين يقارب عدد المسلمين فيهما نصف إجمالي السكان، واللتين تُعتبران أهم مصدر للمقاتلين الإسبان المتوجهين إلى سوريا من أجل الانضمام إلى "داعش" والتنظيمات الإرهابية الأخرى، فيقوم المؤلف بدراسة مفصلة عن مواقف الأحزاب السياسية تجاه المسلمين وعن السياسة التي اتبعتها السلطات الإسبانية إلى حدِّ الآن وعن وضع العائلات المسلمة الفقيرة التي تعاني من الإقصاء والتهميش والتي يستغلها دعاة التطرف وعن الخطاب الديني الذي يتلقاه رواد المساجد هناك؛ مما يعطي في الأخير صورة متكاملة لوضعية في غاية التعقيد في منطقة حساسة جدا. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن سمبريرو يحاول دائما (وينجح في العموم) الإبقاء على التوازن والاعتدال فيما يكتبه عن هذا الموضوع الساخن.

ومما يلفت أنظار القراء في هذا الكتاب هو أن إحدى المشكلات التي يتطرق المؤلف إلى تحليلها هي النزاع الداخلي الذي يشتد بين المسلمين أنفسهم في إسبانيا؛ فيلاحظ سمبريرو أنهم لم يتمكنوا من تنظيم أنفسهم في رابطة أو اتحاد موحد، فهم منقسمون إلى جماعتين مختلفتين ومتنافستين تكونان في أغلب الأحيان متناقضتين في مواقفهما وأقوالهما، وهما "اتحاد الجمعيات الإسلامية في إسبانيا" (UCIDE) برئاسة الطبيب السوري رياج ططري، و"الاتحاد الإسباني للكيانات الدينية الإسلامية (FEERI)، برئاسة المغربي منير بنجلون. صحيح أن الحكومة الإسبانية تمكنت من توحيدها في مؤسسة تسمى بـ"المفوضية الإسلامية في إسبانيا"، ولكن هذه المؤسسة لا تعمل في الحقيقة؛ إذ إنَّ هناك تنافسا قويا بين الجماعتين المذكورتين، ونتيجة لذلك يصعب على الحكومة الإسبانية إيجاد صوت موحد يمثل المسلمين في إسبانيا؛ مما أدى إلى عرقلة الجهود الرامية إلى النهوض بوضع المسلمين في إسبانيا.

وختاما.. يُمكن القول بأنَّ مؤلف هذا الكتاب تمكن من تقديم صورة موضوعية بقدر الإمكان عن المسلمين في إسبانيا دون السقوط في الأفكار الجاهزة والنمطية ودون تجاهل تهديد الحركات المتطرفة التابعة للمحافظين الإسبان التي يسودها رُهاب الإسلام (الإسلاموفوبيا) والتي تسعى لتهميش وتعنيف المسلمين الوافدين إلى إسبانيا، ودون نسيان المشاكل الناجمة عن ظهور وانتشار الحركات المتطرفة الإسلاموية التي تحاول التسلل إلى قلوب المسلمين الذين يعيشون بسلام وكرامة في إسبانيا. صورة معقدة، لا شك في ذلك، يُسهم المؤلف بأقواله وتحليلاته وإحصائياته وخرائطه في توضيحها وتقريبها من القارئ الإسباني العادي، بعيدا عن الانحياز إلى طرف من الأطراف المنخرطة في المشهد الاجتماعي والثقافي والاقتصادي الإسباني الحالي.

------------------------------

- الكتاب: "إسبانيا الله".

- المؤلف: إغناسيو سمبريرو.

-الناشر: لا إسفيرا دي لوس ليبروس، مدريد.

- سنة النشر: أبريل 2016.

- عدد الصفحات: 389 صفحة.

 

 

* أستاذ وباحث في جامعة قادس - إسبانيا

أخبار ذات صلة