أم كلثوم الفارسي
يحاول الباحث والأكاديمي صلاح الدين الجورشي في مجمل مقاله المعنوّن تحت تأملات في إشكالية المشروعية والشرعية في الخطاب الإسلامي المعاصر رصد التغير الذي طرأ على الخطاب السياسي الحركي الإسلامي، خاصة منذ ثمانينات القرن الماضي، معللاً ذلك بتراجع الضغوط على معظم الحركات الإسلامية، وتوفر قدر من الحريات والانفتاح السياسي، وهو ما شجع الكثير منها على الانخراط في تجارب يجمع بينها توفر الحد الأدنى من التعددية الحزبية. بل إنَّ بعض هذه الحركات تمكّن من خوض انتخابات ناجحة ودخول البرلمان في عدد من الدول العربية مثل الأردن ومصر والكويت واليمن ولبنان وفلسطين والبحرين وموريتانيا والعراق. وفي هذا السياق يستعرض الكاتب معضلة فكرية وسياسية ودينية متمثلة في التساؤل الكبير الحاكمية لله أم للشعب؟ فمصطلح الحاكمية أحدث اضطراباً شديداً في المفاهيم، مما عطل -ولا يزال- نسقَ التفاعل الإيجابي مع المنظومة الديمقراطية. هذا المصطلح لا نكاد نجد له أثراً في أدبيات رموز حركة النهضة العربية مثل الأفغاني أو عبده أو خير الدين التونسي، وإنما اقترن ظهوره مع صعود الحركة الإسلامية المعاصرة، وتحديداً مع تأثر سيد قطب بكتابات أبو الأعلى المودودي. حيث يعتقد الكثير من الإسلاميين، الذين يؤمنون بأن الشرعية لابد أن تكون دينية بمعنى أن تكون واحدة ومطلقة، كلية وشاملة، تمتلك العديد من العناصر والتطبيقات، أخلاقية واجتماعية وأيضاً قانونية وسياسية.
وهذا الرأي كما يعتقد الكواكبي من أخطر مظاهر الاستبداد حيث إنّ التخلي عن شعار الدولة الإسلامية الذي لا مبرر له أصولياً وتاريخياً من شأنه أن يُساعد كثيراً على إزالة الحواجز الوهمية بين المسلم ونمط الدولة الديمقراطية. فالتخلي عن الطابع العقائدي للدولة هو الذي يفتح المجال للحديث عن دولة مدنية، تنبثق مؤسساتها من الشعب، ويديرها بشر لا يحق لهم أن ينفصلوا أو يتعالوا عمن اختاروهم وحمّلوهم مسؤولية الحكم. فإضفاء الطابع الإسلامي على الدولة من شأنه أن يفتح المجال لمن يكون على رأسها ليزعم قولاً أو ممارسة بأنّ مهمته هي حماية الإسلام والحكم باسمه، مما يؤدي تدريجياً إلى ممارسة الاستبداد باسم الدين.
ومما تجدر الإشارة إليه أنَّ العملية السياسية برمتها، هي مسار بشري بحت يخضع للتجربة والمراجعة والخطأ والمحاسبة. ومن هنا إما أن تكون الهيئة الحاكمة مختارة من الأمة اختياراً حراً وفق برنامج سياسي ومجتمعي محدد، فتكون بذلك هيئة تتمتع بالشرعية الشعبية، وإما أن تكون هيئة منصبة أو فرضت نفسها بالقوة، فتصبح هيئة مغتصبة للحكم وفاقدة للشرعية بقطع النظر عن الشعارات التي ترفعها، أكانت دينية أو غيرها.
فالشعب هو الذي يجب أن يكون مصدر السلطة من حيث وجودها المادي ومن حيث مشروعيتها، باعتباره هو الذي يختار الحاكم، كما يختار من سينوبون عنه في البرلمان أو مجالس الشورى المنتخبة. ومن مهام البرلمان أو مجالس الشورى وضع التشريعات ومحاسبة الماسكين بالسلطة التنفيذية. وفي كل هذه المراحل والآليات، لا يتدخل الله سبحانه وتعالى بشكل مباشر أو غير مباشر لتعيين هذه الجماعة أو تلك، أو ليضفي عليها أي نوع من أنواع الشرعية. فاللعبة وقواعدها يحددها المواطنون، ويتحكمون فيها وفق ما فهموه من نصوص الدين وتوجهاته العامة، وكذلك وفق ما تمليه عليهم مصالحهم.
وبالرجوع إلى فترة الخلافة الراشدة نجد أن المسلمين قد أدركوا أن السلطة السياسية للدولة، مدنية وليست دينية، لذلك لم ينصب أي خليفة لاعتبارات دينية، بل كان تدخل سلطة الإرادة العامة في الاختيار، هو الاعتبار الحاسم في التولية. وكان ضعف الشورى يؤدي حتماً إلى ظهور العنف السياسي، وتنامي نزعة الحاكم الفرد، حتى أن ذهنية الفقيه استسلمت لما ورد في الأثر من أن (الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن)؛ وترتب على ذلك تهميش الأمة، وتغييب بناء المؤسسات السياسية والعَالِمية، فالتحق العالم الفرد بالحاكم الفرد، وتم القضاء سلطويًا على أمل بناء نظرية سياسية تقول إن الله يزع بالأمة، ما لا يزع بالسلطان والقرآن.
لهذا نعتقد بأنّ مصطلح (الحاكمية) من شأنه أن يربك المنظومة السياسية، ويضفي عليها غموضاً شديداً، ويجعل الحاكمين يتوهمون بأنهم يحكمون باسم الله، وهو ما يؤدي بالضرورة إلى تقويض النظام السياسي الديمقراطي إن كان قائماً أو الحيلولة دون قيامه. كما أن ذلك يفتح المجال أمام إقامة سلطة دينية قامعة باسم الله، وناسفة للحريات والمؤسسات باسم الإسلام. وهذا الفهم من شأنه أن يخلق حالة تعارض نظري وعملي بين شعار (الحاكمية لله) بكل ما يحمله من غموض ويتضمنه من إيحاءات قدسية وبين مطلب (الحاكمية للشعب) الذي يطالب به الديمقراطيون ويستند على برلمانات منتخبة انتخاباً ديمقراطياً مباشراً.
وإذا أردنا أن نتحدث بلغة الفقه الدستوري، فإنّ الحاكمية كما يقول محمد سليم العوا: "هي السيادة"، وهذه الأخيرة لله سبحانه وتعالى، وهو من منح للإنسان حق الحاكمية على مصيره الاجتماعي، انطلاقاً من الحرية المقررة في الدين نفسه. إن الاختيارات التي تختارها الأمة تصبح جزءًا من الشريعة، وهذا يعني أن الأمة تشرع لمصالحها، المتحولة عبر الزمان والمكان. فإذا كانت القاعدة أن التشريع لإرادة الله " فإن للأمة - بتعبير راشد الغنوشي- مشاركة فعالة في ذلك". هكذا يمكننا أن نتجاوز المفهوم الجامد الذي يحصر الشريعة في النصوص الدينية، ويتدخل العقل البشري الجمعي لتدبير أمور الحياة السياسية التي تركتها الشريعة نفسها منطقة عفو وفراغ في كثير من أمورها، لما تتسم به من دينامية مرتبطة أساساً بالاجتماع السياسي البشري. وبالتالي يمكن القول إن ما يشرعه المجتمع عبر مؤسساته الدستورية كالبرلمان في مجال الشأن العام والحياة السياسية، هو بمثابة شريعة تستوجب التقديس من الأمة، ما لم يرد فيه نص قطعي الدلالة والثبوت في الشريعة الإسلامية.
