الاضطراب المفاهيمي.. أزمة فكرية أم صيرورة معرفية؟

مُحمَّد بن علي الكمزاري

يستندُ الباحثُ السوريُّ مُحمَّد جمال باروت، في معالجته لقضية الاضطراب المفاهيمي في الفكر العربي المعاصر، إلى حصيلة معرفية مُركَّبة، تشكَّلتْ من خلال الاطلاع الواسع والعميق على الثقافة العالمية الجديدة والمعاصرة، وما بعد الحديثة والعولمة وتجلياتها الظاهرة والمضمرة؛ فللمفاهيم والمصطلحات دورة حياة معيَّنة، بغض النظر: هل تطول هذه المدة أم تقصر! بمعنى أنَّ لها بداية تصل بعدها للذروة، ثم تتوارى أو تموت، فاسحةً المجال لمجموعة أخرى من المفاهيم والمصطلحات لتحل مكانها؛ فعلى سبيل المثال: كانت مفاهيم مثل الرأسمالية والاشتراكية -بكل المفاهيم المتفرعة عنها- تحكم رؤية العالم لنفسه في حقبة غير بعيدة مضت، واليوم خرجت مفاهيم أصولية في الشرق والغرب، استطاعت أن تفرض هيمنتها ونفوذها على التفكير والتفاعل البشري على كل مستوياته الدنيا والعليا. ومع كل ما يتم فرضه على هذه المفاهيم من ابتسارٍ وسياقاتٍ وتوظيفاتٍ، فإنها تبقى علامات فارقة تتحكم في التفكير والجدال وتقدّم نفسها كأدوات خطيرة لإدارة الخلافات والصراعات والحروب.

 

هذا الأمر دَفَع الباحثُ إلى استشفاف تشخيصي؛ مُفاده أنَّ الاضطراب المفاهيمي علامة مميزة للثقافات التي تدخل أو ترغم على الدخول في مرحلة تحولات جذرية، وهي تشكل جزءاً من عملية فكرية معقدة تشكل مبحثاً نموذجيًّا لدراسات المثاقفة والاتصال الثقافي. حيث اتسم هذا الاضطراب بقوة الموجة أو التيار في الفكر العربي المعاصر، لاسيما الإسلامي منه؛ بسبب طبيعة المواجهة التي بدأت عنيفة بين ثقافة غربية مسلحة بسلطة المعرفة والقوة وفتح العالم وبين ثقافة راسخة الجذور أصيبت بالصدمة، وبمواجهة أسئلة وإشكاليات من طراز جديد لم تكن من (النوازل) التي عرفها المسلمون من قبل.

ولا شك أنَّ العقل العربي والإسلامي الحديث قد تلقَّى صدمة كبرى لم يتلق مثلها في التاريخ؛ ألا وهي: "صدمة الحداثة"، والتي بعثرت الأوراق والمفاهيم، وأسهمت في إحداث ارتباك فكري رهيب في الوعي العربي. بل إنَّ آثارَ الصدمة ألقت بظلالها على وضع الأمة الحرج إزاء أوروبا. هل أوروبا الحديثة ترنو لغزو العرب أم لنقل المدنية إليهم!! من هنا تفجر ذلك "الوعي الشقي" في ثقافتنا العربية والإسلامية الحديثة. ومن المؤكد أنَّ هذا التشويش والارتباك في الأفكار والمواقف قد انعكس، حتما على المفاهيم النهضوية العربية في السياسة والاجتماع والمعرفة. يقول كمال عبداللطيف في هذا المعرض: "يُرادف مفهوم السلفية في الفكر الإسلامي المعاصر، مفهوم النزعة الأصولية، ونزعة التجديد الديني، ونزعة الإصلاح الديني إلى غير ذلك من التسميات التي يمكن أن يعثر عليها الباحث المهتم بآليات الفكر العربي المعاصر (كتاب "مفاهيم ملتبسة في الفكر العربي المعاصر"، 1992، ص:27). بل إنَّ بعضَ الدارسين العرب قد سارع إلى سبر أغوار هذا الاضطراب المفاهيمي، من خلال مفهوم النهضة باعتباره من المفاهيم المتداولة في الخطاب العربي المعاصر التي يغلب عليها -كما يقول رضوان جودت- زيادة الأيديولوجي على المعرفي الذي يتنامى إيقاعه ووتيرته في تعميق الغموض والالتباس في الخطاب العربي من قبل التيارات القومية والماركسية والإصلاحية. ومن ثمَّ كان مكمن الخلل في هذه الخطابات في "عدم إدراك مفهوم شامل عن النهضة".

... إنَّ حضور إشكالية "الاضطراب المفاهيمي" -وإذا ما أعطينا الكلمة مؤشرها الإجرائي وليس مؤشرها المعياري- عملية ترتد إلى طبيعة انتقال المفهوم من بيئة إلى بيئةٍ أخرى. وفي عملية الانتقال هذه يشهد كل مفهوم (رحلة) أو عملية انتقال يعاد فيها تفسيره وتأويله، بشكل يكون فيه قابلاً للاستخدام في مجال ثقافي آخر.

وفى إطار المقاربة نفسها، يستخدم الكاتب آلية "تبيئة المفاهيم" أي نقل المفاهيم من حقل معرفي إلى حقل آخر مختلف عنه، عبر ربط هذا المفهوم الجديد بمعانٍ تقريبية في المجال المنقول إليه، وتحديد المرجعية التي نشأ فيها المفهوم، ومحاولة تأسيس مرجعية تقريبية في الثقافة العربية المعاصرة؛ وذلك حتى يكتسب هذا المفهوم المشروعية المعرفية، وتبدو هذه الآلية مهمة للغاية في الفكر العربي المعاصر؛ ذلك أن ابتكار المفاهيم وتقريبها وتبيئتها يساعد في فهم الواقع؛ لأن الظواهر الاجتماعية عامة لا تفصح إلا عن النذر اليسير من ماهيتها وطبيعتها ومضمونها، وفى هذه الحالة تتكفل المقاربة المفاهيمية بمعرفة مضمون الظاهرة على الأقل بطريقة نسبية.

ومن هنا؛ فإنَّ الاضطراب المفاهيمي في الفكر العربي المعاصر عملية فكرية أكثر مِمَّا هي مسألة تتعلق بمعرفة حدود المفهوم نفسه. وبكلام آخر لا يرتد الاضطراب إلى مسألة "أكاديميةٍ" بحتةٍ تتعلق بمعرفة بيانات المفهوم ومحدّداته بقدر ما يرتد إلى عمليةٍ فكريةٍ معقّدةٍ، ومشروطة بالضرورة تاريخياً ومعرفيًّا. وبطبيعة المفهوم نفسه، وهل هو مفهوم "منجز" بشكلٍ يسمح بتدوين تاريخه وتحديد محدّداته؟ أم لا يزال في طور "الإنجاز"؟ وهل هو مفهوم "مدرسي" منجَز؟ أم أنه مفهوم قابل؛ لأنْ يُستعاد من جديد في شروطٍ مختلفةٍ عن الشروط التي تكوّن وتطوّر وتبلور فيه؟

إنَّ المفاهيم المرتبطة بالعُمران أو الاجتماع البشري -على مختلف أبعاده- هي في حقيقتها التداولية "مفتوحة" قابلة باستمرار للقراءة والتفسير والتأويل مهما حاول تاريخ الفكر أن يُلبسها ثوب المفهوم المتسق والمتماسك و"المكتمل". فلتاريخ الفكر منهجه في وضع حدود المفاهيم بعد "استقرارها"، غير أنه لكل مفهوم تاريخ اجتماعي-اقتصادي-سياسي مُعقَّد يجعل منه قابلاً للاستعادة وإعادة المساءلة والاستدعاء، وفي شروط معينة الطلب عليه لأهداف اجتماعية-سياسية معينة. بل إن "التماسك" و"الاتساق" و"مناعة" المحدِّدات هي جزء من طبيعة المفهوم التجريدية، والانتقال من المتعيَّن إلى المجرَّد، ومن الواقع إلى الفكر. وهو ما يعطي المفهوم "المجرَّد" طابع الاستقلال النسبي عن الشروط التي تمَّ إنتاجه أو تكونه أو تطوره فيها؛ بحيث أصبحَ قابلاً للمقروئية في شروط زمانية-مكانية مغايرة.

وختاما.. فإنَّ اهتمام المثقفين والمفكرين بما يُسمى "الاضطراب المفاهيمي" لم يأتِ من باب الترف المعرفي، وإنما جاء ليؤكد الدور الكبير الذي تلعبه المفاهيم في فهمنا للعالم والأحداث والأفكار من حولنا، ودوراً آخر لا يقل أهمية في التأثير على انتقائنا لخياراتنا وقناعاتنا وعقائدنا، وهي أشبه ما تكون بجهاز الراديو الذي يرسل ولا يستقبل: تُحدثنا، وتُقنعنا، تَحثنا على الفعل، ولكنها أبداً لا تستمع لنا، أبداً لا تستجيب لمخاوفنا أو تحفظاتنا. وبتعبير آخر، فهي أشبه ما تكون بالنظارة ذات اللون الواحد، إنْ كانت حمراء جعلتنا نرى كل المشاهد من حولنا باللون الأحمر، وإن كانت سوداء صبغت الكون بالسواد، وإن كانت بيضاء عمَّ البياض وانتشر!

أخبار ذات صلة