لسيرغي كافتارادزي
فيكتوريا زاريتوفسكايا*
"روح المكان" – هاتان الكلمتان المجتمعتان بشكل سحري هما مفتاح العبور إلى عالم الهندسة المعمارية. العالم المليء بالخطوط والزوايا، بالضوء والظل، الذي تكتنفه الأسرار وتجدل خيوطه المعقدة والمشتبكة بالتاريخ والأسطورة. أما كشف أسرار المعمار فيتأتى بالملاحظة لا بالمصارحة. يستشفها الناظر عفويا بمحض القلب والخاطر. فهب أنك، أيها السائح في المدينة، قد أخذتك الدروب إلى جادة المعمار، قادتك تحت أقواسه وأدخلتك أروقته واجتازت بك حذو جنبات أفانينه، إلا أنك، ومع ذلك، لن تحظى من جولتك بشيء إن لم تصغ إلى المكان وتتملك روحه حواسك. لن ترى شيئا إن لم تصغ إلى الأصوات المنبعثة من حفيف الأشجار وضوضاء المطر، الأصوات القادمة من شجو الطيور ومن رنين لهجة السكان المحليين. فإن أصبت من كل ذلك، حينها فقط ستبزغ فيك روح المكان، ومن ذرات ضوئه، سترتسم أمامك علاماته وسماته الكثيرة، وهكذا، شيئا فشيئا، حتى ينكشف لك المعمار بكامل رونقه وفنه، وستمدك زواياه المفاجئة بالمزيد والمزيد من الانطبعات الجديدة التي سترافقك لحين خروجك من المدينة.
مؤلف كتاب "تشريح الهندسة المعمارية" سيرغي كافتارادزي ناقد فني روسي ومؤرخ معماري، عمل لسنوات طويلة في الأكاديمية الروسية للمعمار وعلوم البناء ووضع منهجه الخاص لتعليم قراءة الهندسة المعمارية وكيفية فهمها كأحد أهم فروع الفن. وعلى المنهج ذاته يبني كافتارادزي أفكاره في هذا الكتاب ويبين عن مقدرة في إيقاد اللذة في نفس القارئ تجاه الجميل والسحري.
لسنا هنا – بطبيعة الحال – إزاء كتاب فريد أو بحث سبّاق يتناول الفن المعماري: يستنبط فرضياته ويناقش أفكاره ويجادل في نظرياته، فالمعمار بابه واسع وقد دلفه الكثيرون عبر الأزمنة ودبجوا فيه أعمالا بديعة، بدءا من الروماني البارز ماركو فيتروفيوس الذي كتب عن المعمار واستيعاب الإنسان له، مرورا بمؤلفات عصر النهظة الأوروبية حيث كوكبة العلماء الذين أبدعوا في هذا المجال، يتقدمهم ليوناردو دا فينشي ومن بعده أندريا بالاديو، جورجو فازاري، وانتهاء بالبحوث النظرية الخصبة في القرن العشرين ومن أعلامه برونو تسفي، إروين بانوفسكي وغيرهم من العلماء والفنانين.
ومع ذلك، وخلافا لمعظم الكتابات النظرية والبحوث العلمية التي أجريت على الفن المعماري، حيث بالكاد نجد بينها كتابا لغير المختصين به أو الخبراء بأدواته أو المنخرطين في دراسته؛ وهؤلاء أشخاص لا تعيقهم لغة البحث العلمية ولا تنغلق على أفهامهم مصطلحات ومقاربات الهندسة المعمارية، بخلاف ذلك يقدم سيرغي كافتارادزي لقارئه شرحا مسهلا ومحايثا للإدراك العام. ومن خلال لغة هادئة يقوده إلى فضاء المعمار المسوّر ويُسمعه اللحن الكامن في أحجاره.
حمل المؤلف على عاتقه الجمع بين متناقضين: الأغراض التقنية في الهندسة المعمارية من جهة والنواحي الفنية للعمارة من جهة أخرى. فالعمارة التي عرفها الإنسان واعترف بها تمتلك جوهرين متلازمين، وإن كانا متنافرين بطبيعتهما: الجوهر المادي الذي يُأّمّنَ الجانب الوظيفي للبناء والجوهر الجمالي الذي يفضي إلى الشكل الفني. وحين اختار المؤلف كلمة "تشريح" لعنونة كتابه فقد عنى بذلك: تشريح الكتلة الصلدة لمجسم البناء، سواء كان البناء ينتمي إلى العمارة الأوروبية أو الإسلامية أو يخص أبنية الشنتو اليابانية، من أجل استخراج المعنى الجمالي من بين أحجاره المتراصة. المعنى الذي يحمل الوزن والشكل معا.
وإذا كانت لغة المعمار شيقة فذلك لأنها تنطوي على مهمة شاقة، وهي تشبه الأعمدة الحجرية التي تربط بين الأقواس لتصنع منظرا فنيا أخاذا، ولكن، وفي نفس الوقت، لتحمل أطنان الحجر التي تشكل البناء. يقول كفتارادزي عن كتابه: "لقد أخذت على عاتقي في هذا العمل، وبقدر ما تبقى لي من مقدرات، فتح عالم المعمار لكل من بوسعه التلذذ بالجمال الذي يكتنفه ولكن لم يقيض له ذلك. أريد أن أسمع القارئ لغة المعمار الجميلة التي لم يسمعها من قبل".
عمد المؤلف إلى تسمية فصول كتابه بالطريقة الكلاسيكية في العنونة، فقسمه إلى كتب، كل منها يحمل عنوانه الخاص، وجاءت على النحو التالي: الكتاب الأول ويحكي عن بداية الهندسة في التعبير عن نفسها: القوس، والسقف، والقبة. الكتاب الثاني عن كيفية بناء الأسقف المتينة من الأحجار الصغيرة: الوزن، والمساحة وغيرهما من مفاهيم الشكل. الكتاب الثالث عن المشاعر التي يوقظها المعمار: حبكة المعمار. الكتاب الرابع عن المعمار باعتباره مرآة لنظام العالم: المعبد، والمدينة، والمدينة السماوية. الكتاب الخامس عن العمارة الدينية: لغات الهندسة المعمارية الغربية. الكتاب السادس عن حكمة الشرق والمقدرة على فهمها: العصور والأساليب. الكتاب السابع عن تسلسل التيارات الفنية ومنطقها.
لعلة تعود إلى تعقيد المعمار والغموض الذي ما انفك يرتبط به ويوصد الأبواب للوصول إلى فهمه، يفكك سيرغي كافتارادزي المعمار ويعيد تعريفه وبسط مفاهيمه بطريقة لا تخلو من نزوع تعليمي وتربوي. فاللوحة الفنية لا تحتاج إلى وسيط أو مُرشد للتمتع بجمالها، وبجمالها الخارجي بأقل تقدير، أما الفن المعماري فدون فهمه الكثير من الجدران والزوايا ومساحات الظل والفراغ. يقول كافتارادزي في هذا السياق: "إن المعمار، مقارنة بالفنون الأخرى، يفتقر إلى التسلية، وليس به العناصر البرّاقة، كما لا يمنح الثمار اللذيذة كالتي تمنحها اللوحة؛ مع ذلك يبقى المعمار فنا سرديا بامتياز، مكتنز بالقصص والحكايات، حبكته منفتحة على الأفق الواسع ومرتبطة بالكون وانسجامه".
يعرض كافتارادزي المعمار بصورة تتعالق مع التجربة الإنسانية وتجعله قريبا من الفهم. أما تاريخ المعمار فيعرضه على هيئة سلسلة من الإنجازات الثقافية، حيث تتظافر الجهود وتتهيأ الظروف لبلورتها وذلك على امتداد الحضارة البشرية. فظهور نسق معماري ما، شرقيا كان أم غربيا، واستتبابه فوق أرض الحضارة، وامتداده في زمانها، إنما هو ظهور عظيم وثورة روحية ثقافية كبرى.
علاوة على كل ما سبق، يَعتبر مؤلف الكتاب أن فهم المعمار لا يقتصر على التذوق الجمالي وحده، إذ ثمة مزالق خطرة أمام كل باحث في الهندسة المعمارية، التي يصفها كافتارادزي بالفن الأكثر تأثيرا بين الفنون قاطبة. فالوقوع ضحية لتلاعب الوعي يُعدّ أمرا واردا لمن يتعاطى مع المعمار ويدخل غمار أفكاره... وأحجاره.
إن المعماري الذي وضع هيكل البناء وابتكر هندسته إنما وضع وابتكر ذلك من وحي المخيلة وبإيحاء ربة الفن. وإننا، نحن الذين نستفيد من العمارة ونكيّف حياتنا بموجبها إنما نفعل ذلك بالكيفية التي رسمها لنا المعماري، وبالشكل والإيقاع اللذين أرادهما لنا. ليس هذا وحسب، فالمعماري يسيطر على أفكارنا ومشاعرنا. ولبرهنة هذه الاستنتاجات يأتي سيرغي كافتارادزي بأمثلة عن المباني الدينية التي تغمرنا بمشاعر خاصة حينما نقع في مجالها، كما أن مباني الأنظمة الشمولية تمنح انطباعات تختلف عن مباني الأنظمة الديموقراطية.
بوجهة نظر فلسفية، يقوم المؤلف بتفكيك مجموعة من التحف المعمارية (ولا سيما المعابد) ويعيد بناءها بهيئة كونٍ مصغر محمي من القوى العليا. وتحظى القباب بجانب وفير من اهتمامه، فالقبة التي تتوسط المبنى من الداخل وتغطي عنه السماء إنما مهمتها أن تكون في موقع السماء. إنها مسألة إلغاء وتمّثل في الوقت نفسه، مسألة حجب وظهور. يكتب المؤلف عن القبة: "إن القبة هي الشكل الأتم كمالا والأكثر عقلانية (الحجم الأكبر في أقل مساحة) وهي الأكثر ديموقراطية (كل جزءية فيها تبتعد عن المركز بمسافة متساوية). لذلك لا غنى عن القبة في الأبنية التي تمثل الكمال الاجتماعي وفي مقدمتها دور العبادة، وفي البرلمانات ومجالس الدول حيث تصاغ القوانين، وفي دور القضاء حيث تسكن العدالة".
يحتل النمط المعماري المسمى بالنمط الستاليني مكانا ملحوظا في الكتاب، وهو أسلوب معماري يعود أصله إلى العمارة اليونانية القديمة، وقد شاع في فترة حكم الزعيم السوفيتي جوزيف ستالين، حيث توزعت شواهده في العديد من المباني السيادية للدولة السوفيتية. وليس من قبيل المصادفة أن يتم استعارة أساليب معمارية من الزمن اليوناني، فهي استعارة تنطوي على قوة الدولة وعظمة رجالها وسعة علومها ورسوخ حكمتها. يقول المؤلف في هذا السياق: "لا شك في أن الستالينية صفحة تراجيدية من تاريخنا، ولكن بفضلها استطعنا أن نتعرف على أدق تفاصيل الفن اليوناني والروماني القديمين من دون حاجة إلى السفر خارج البلاد. نجد نماذجها الرائعة ليس في العاصمة وحدها، وإنما كذلك في المدن والقرى الريفية".
بالإيضاحات والرسومات، أدرج الباحث في كتابه مجموعة من المشاريع المعمارية التي لم ترَ الضوء بشكل نهائي، إذ تم إلغاؤها وهي في الأطوار الأولى من بنائها. وبرأي المؤلف فقد مثلت تصاميمها جرأة تاريخية وثورة عظمى في فن الهندسة المعمارية. في طليعة تلك المشاريع الطموحة ما كان مزمعا القيام به في برلين النازية، حيث كان من المخطط أن يُشرع في بناء قصر الشعب، وهو مجمع سكني هائل يُجسد فكرة اليوتوبيا الاجتماعية (أو المدينة الفاضلة) بقبة يبلغ قطرها مئتين وخمسين مترا ويتسع لمئة وخمسين ألف مواطن. وفي موسكو الشيوعية تم تفكيك كنيسة المسيح المخلّص وسط العاصمة لإقامة قصر السوفييت في مكانها. ومن البيانات الواردة في الكتاب تتضح ضخامة المشروع حيث يصل طوله إلى أربعمائة متر، يتربع فوقه تمثال ضخم للزعيم البلشفي فلاديمير لينين بطول سبعين مترا، يمد يده إلى الأمام مشيرا للشعب على الطريق الذي يجب أن يسير عليه.
إلى جانب ما يستنبطه كتاب "تشريح الهندسة المعمارية" من وشائج بين الفن المعماري والأفكار الفلسفية، يسرد لنا كذلك علاقته الطبيعية بالأحداث التاريخية كالحروب والمحارق والاغتيالات. من ذلك ما ورد عن الطابع الإبداعي لفنان عصر النهضة ميكيلانجيلو الذي شارك في الدفاع عن دوقية فلورنسا وشهد هزيمتها عام 1532، الأمر الذي أضفى مسحة بليغة من الكآبة على أعماله العظيمة.
من خلال كتابه هذا، وبلغة سهلة لا يعتورها الفتور الإنشائي، تمكن الناقد والمؤرخ الروسي سيرغي كافتارادزي من استعراض الفن المعماري: تاريخه وبنيته الجمالية وطبيعته الوظيفية. وقد انطلق في تأليفه من قاعدة مفادها أنّ المنهجيّة العلمية الصرف في التعاطي مع الفن المعماري ستقلص من عدد القراء مرتين بأقل تقدير. وبالرغم من أنّه لم يفلح في تجنّب المصطلحات الهندسية بالمطلق، إلا أنّه نجح في رفد كتابه بلغة يتذوّقها القراء الجدد والطارئون على هذا النوع من الفنون. يقول واصفا طريقته في تأليف الكتاب: "لا المعمار فنا بصريا وحسب، ويجب أن تتجاوز علاقتنا به حدود العين لتصل إلى اليد. علينا لمسه. يجب أن نشعر بدفء الحجر الجيري المُسّخن بشمس الأدرياتيك. لن نفهم المعمار إن لم نشعر ببرودة الغرانيت في سانت بطرسبورغ وبخشونة الجص الصدفي. ولن نفهمه إن لم نجعله كائنا قريبا منا، يملأ راحة أيدينا ويتحرك فيها. فلنستمع إلى الرنين القادم من أحجار السلالم الكبيرة الفاخرة أو في المداخل السرية الضيقة وسنجده مختلفا بعضه عن بعض. فلنصغ إليه ونحن نهبط الدرج إلى الحانوت في الأسفل أو ونحن نصعد إلى أبراج المعارك الملتهبة، سنجد اللغة مختلفة".
---------------------------------------------------------------------------------------------------------
الكتاب: تشريح الهندسة المعمارية (الكتب السبعة عن المنطق والشكل والمعنى).
المؤلف: سيرغي كافتارادزي.
الناشر: المدرسة العليا للاقتصاد، موسكو 2016 .
اللغة: الروسية.
عدد الصفحات: 472
*أكاديمية ومستعربة روسية
