لمارتن دين
رضوان ضاوي
وُلد الكاتب "مارتين ر. دين" سنة 1955 في "منزيكن" بسويسرا، من أب ذي أصول هنديّة مولود في "ترينداد" بكوبا، وأم سويسرية. التحق بقسم الدراسات الجرمانية ودرس علم الدين والفلسفة في جامعة بازل. ويعيش حالياً في سويسرا كاتباً وصحفياً في بازل. قام بعدّة رحلات طويلة في أمريكا والبرتغال وفرنسا واليونان وإيطاليا. ولمارتين ر. دين العديد من المؤلفات منها: ((الحدائق المتوارية)) (1982)، و((الرجل بدون ضوء)) (1988)، و((آبائي)) (رواية 2005)، و((حقيبة مليئة بالأمنيات)) (رواية، 2011).
حصل مارتين ر. دين على مجموعة من الجوائز منها: جائزة الأدب "راوريزار" سنة 1983 عن كتابه "الحدائق المتوارية". وفي سنة 1988 حصل على جائزة "أرجاور" الأدبية وجائزة دائرة الثقافة الأدبية لرابطة الاتحاد الصناعي الألماني. أما جائزة مؤسسة "كُتّاب فرانكفورت" فقد حصل عليها سنة 1990، كما حصل على جائزة مؤسسة "شيللر" السويسرية للأعمال الكاملة سنة 1994 وعاد ليحصل عليها عام 2003 أيضاً، إضافةً إلى الجائزة التقديرية "لأكاديمية الفنون" في برلين، وجائزة "الفن" من مدينة برلين سنة 1999.
جاءت فقرات كتاب " انحناء أمام المرايا: عن الذات والآخر" مرتّبة ومُعنونة على الشكل التالي: بعد المُقدمة الصغيرة التي كتبها المؤلّف، يأتي عنوان الفصل الأول وهو: "حدائق ومدن"، والفصل الثاني: "المدن الكبرى وسر الحنين"، والفصل الثالث بعنوان "إزعاج الطبيعة"، والفصل الرّابع بعنوان "أجسام الغرباء"، والفصل الخامس "أصداء الأجسام"، والفصل السادس في موضوع "دوخة الغرابة". ويختم مارتين ر. دين كتابه بفصل عنوانه: "الاختفاء التدريجي".
جعل الكاتب السويسري مارتين ر. دين مسألة "أن تكون غريباً" موضوعاً للحياة في تأمّلاته ومُشاهداته. ويحكي الكاتب في تأملاته "انحناء أمام المرايا" عن سفره في البلاد الغريبة، وكيف أدرك الآخر وفهمه، وكيف أصبح بعدها غريباً في وطنه الأم. فما الذي يُشعِرُ المرءَ بأنّه غريب؟ وما تكلفة أن تكون غريباً؟ كيف يمكننا أن نفهم الغريب بصفته غريباً؟ وهل يتعلَّق الأمر هنا بتثبيت للهويّة؟.
في هذا العمل، تحدّث المُؤلّف عن الحدود الفاصلة بين الذات والآخر، وقدّم ظاهرة الآخر والذات من منظور ثقافي مقارن، ومنظور اجتماعي، ومنظور سيرذاتي، وسياسي. وعالج المؤلّف ظاهرة الذات والآخر من زوايا مختلفة ومتعدّدة أهمّها: ذات-آخر، وفاعل-ضحيّة، وطبيعة-إنسان، ومدن كبرى- حدائق.
يتذكر مارتين ر. دين السيناريوهات المبكّرة في أيام الدراسة. "من أين جئت إذاً؟"، يتساءل المُعلم. "من مينتسيكن" يقول الطفل صادقاً. فيضحك الجميع. لأنّ منظر الطفل يوحي بأنّه "هندي" ولا علاقة له بمينتسيكن وسكّانها.
ولم يكتف الكاتب بسرد وتحليل تجربته الخاصّة مع الثقافات الأجنبية، بل ارتكز في عمله على أهمّ رُوّاد الدراسات الثقافية، ومجموعة من النصوص السابقة لكتّاب مشهورين، تناولوا في نصوصهم التبادل الثقافي مع الأجنبي، في نصوص عديدة. فأعمال كلّ من "توماس مان" Thomas Mann الكاتب الألماني و"إلياس كانيطي" Elyass Kanetti الكاتب الألماني من أصل بلغاري، خير مثال على رُسُل الثقافات المتنوّعة والمتعدّدة. وكلاهما حاصلان على جائزة نوبل للآداب. وقام الكاتب باستقاء أجوبة على أسئلته من خلال مؤلفات هؤلاء الكُتّاب، فتحدّث عن مؤلفاتهم وأعمالهم، وكيف قاموا بالانحناء أمام مرايا عكست صورة أكثر دقّة لذواتهم. فالغريب يوجد فينا، ويوجد حولنا، وفي كلتا الحالتين ينبغي أن يكون إثراء لذواتنا.
عمل مارتين ر. دين على إعادة صياغة نصوص هؤلاء الكتّاب والاقتباس منها، واستغلالها من أجل تحرير تأمّلاته عن تقاطع الشمال مع الجنوب. ومن بين المرايا التي يحاول المُؤلّف معرفة نفسه فيها، مرآة الكاتب "توماس مان"؛ فقد جاءت والدة توماس مان من الجنوب المُشمس، وأبوه جاء من ليبيك Lübick. وقد تأثّر "توماس مان" بهذا التعارض وعمل دائماً على تقديمه وعرضه والتفكير فيه بكل إمكانياته. غير أنّ الأمر بالنسبة للكاتب يمكن النظر إليه من زاوية معكوسة: أمٌّ من الشمال وأبٌ من الجنوب.
وربما لأنَّ الأجنبي يكون بين الغرباء أقل غيريّة، يرحل مارتين دين إلى باريس، ولندن، والهند، واليابان، حيث يلتقي في كل مكان بالغرباء؛ فكان اللّقاء في باريس لقاءً سعيداً، وفي لندن كان التلاقح مع الثقافة الأجنبيّة مؤثّراً، أمّا في الهند فقد كان اللّقاء مع الغرباء مُنفّراً، وفي اليابان كان هذا اللقاء قويّاً وشديداً.
وإلى جانب كلّ هذا التفاعل النفسي والرّوحي، نشأت صور قويّة للثقافة الأجنبيّة وبورتريهات للمدن وللبلدان. إنها عمليّة السفر إلى البلدان الغريبة بامتياز. وقد حوّل مارتين دين هذا اللّقاء إلى لقاء ثقافي، واقتبس من رحلة "إلياس كانيطي" إلى المغرب أهمّ القواعد والأسُس التي يمكنه الاستناد عليها في رحلته مع الثقافات الأجنبية، من أجل فهم حقيقي وواقعي لها، بعيداً عن كلّ الصور النمطيّة التي تحفل بها معظم الكتابات الثقافيّة التي تناولت الغريب والأجنبي. يكتب "مارتين ر. دين": "كنت دائماً هناك. كنت على الدوام رحّالة مُتعباً. لا أحد من المغامرين دوّن مذكراته عن نفسه أثناء عبوره الصحراء، أو بحث في الطقوس والعادات عند الشعوب المحلية. سافرت، لكي أرى كيف يعيش الآخرون في بلدان أخرى، سافرت كثيراً بدافع الفضول ومن أجل الإفلات من ضغط التصنيفات السابقة".
كان "إلياس كانيطي" قد أقام سنة 1954 ثلاثة أسابيع في مراكش وانفتح على الغريب وبحث في رحلته إلى المغرب عن الغريب ووجده في مراكش من خلال أصوات الرواة والمغنين في ساحة جامع الفنا الشعبية وأصوات المكفوفين والأغاني الشعبية. يقول مارتين ر. دين: "كان ( كانيطي) يبحث عن الآخر لكي يتبدّل. سألت نفسي أثناء القراءة عما إذا كان قد سافر إلى مراكش"الرائعة" لكي يستمع للرواة ولكي يقترب من نفسه كـ"مشرقي"؟".
يعتمد اهتمام مارتين ر. دين بالآخر على القناعة بأنّه: لا يمكن الاستغناء عنه في تحديد الذات. ولهذا يراقب مارتين ر. دين بقلق كيف ذبُلت القُدرة في العصر الحديث على احتمال الغريب الذي يعرّفه على أنّه "مختبر للأصوات، نرفع فيه نحن كلّنا أصواتنا- ومن الصدى فقط يعرف بعضنا بعضنا الآخر". وكان الكاتب قد افتتح مُؤَلّفه بجملة مهمّة يقول فيها: "إنّ الغريب في طريقه إلى الاختفاء". يتحدث مارتين ر. دين هنا عن خسائر عالمنا المعاصر؛ فالأجنبي الذي يعتبره مارتين ر. دين العاصمة الفعليّة للحداثة، هو مهدّدٌ بالاختفاء في ظل عمليات العولمة. ولكي نُحافظ عليه يجب أن نُصرّ على بقاء الغريب غريباً، ويجب علينا تحمّل تبعات ذلك، فننسى قبل كل شيء العمل على جعل هذا الغريب مفهومًا بالنسبة لنا.
ويذكر مارتين دين قصّة عارضة أزياء شهيرة أرادت ذات يوم شراء حقيبة من محلّ تجاري في زيوريخ، فقالت لها البائعة بأنَّ ثمن الحقيبة سيكون حتماً غالياً عليها. استعان الكاتب بهذه الحادثة لكي يشرح كيف يصبح مرض جنون الارتياب غُرفة يلتقي فيها الأبيض والأسود: فيطبعه عدم الطمأنينة، والشكّ، والأحكام الظالمة، والنُّفور.
يُمكننا أن نكتشف بسهولة بأنّ "مارتين ر. دين" لم ينظر إلى الحدّ بين الذات والآخر على أنَّه خطٌ فاصل. كما أنّ الصوّر النمطيّة التي تملأ الكتابات الثقافية عن الشعوب الأخرى، ليست هي نقطة الانطلاق بالنسبة للكاتب، بل هي نتيجة للظاهرة: ظاهرة الذات والآخر. فقد ظهرت مجموعة من الدراسات في السنوات الأخيرة اهتمت بهذا الموضوع باعتباره يندرج ضمن ما يُسمّيه المتخصّصون بـدراسة الغريب أو بـعلم الغريب. وترتبط به مجموعة من المفاهيم المهمة في علم الاجتماع والدراسات الثقافية مثل الهويّة والاختلاف والذات والغريب.
يبدو لي بأنّ نصوص مارتين القوية بشعريتها في متناول القارئ: لأنَّها عبارة عن دعوة للبحث في الهويّات المختلفة للذوات وامتحان للتفكير. وكان المؤلفُ قد استعمل تجربته ومعرفته التاريخيّة والفلسفية لكي يُلقي نظرةً نقدية على الحاضر، ويتجنّب كل تشاؤم ثقافي رخيص.
وأعتقد بأنّ الكاتب قد نجح في التأكيد على وجود تحوّلات في الإبدال المجتمعي في ضوء استغراق الشباب في هواتفهم الذكيّة. ويقول المراقبون إن التعامل الكثيف للشباب مع الهواتف الذكية والمواقع الاجتماعية يكون سبباً في ضعف اندماج الشباب في المجتمع والحياة العامة.
في فصل "أجسام الغريب وصدى الأجسام" يثبت مارتين دين بأن "تخريج وظيفة الأنا تُغيّر القدرة على إعطاء الأولويّة والاهتمام بالآخر". هكذا يصبح اللّقاء مع الغريب دائماً تواصلاً مع العدو، وقُدرة على احتمال الآخر بسهولة". ففي مراكش، حيث فشلت لغة كانيطي، دخل الحي اليهودي القديم والتقى هناك بذاته: "لا أريد مُغادرة هذا المكان، كنت هنا قبل مئات السنين. ولكنني نسيت الأمر، والآن استحضرت كل شيء مرة أخرى، لقد وجدت كثافة الحياة مكشوفة وحرارتها التي أحسها بنفسي. كنت في هذه الساحة، لما وقفت هناك، أعتقد أنَّ هذه الساحة هي أنا نفسي".
ويتساءل الكاتب عما إذا كان هذا التواصل مع الآخر "يذبل بالقياس لمدى تطور الحريّة الشاملة". هنا ينشأ القلق الذي أثار مارتين ر. دين، أي حين تأتينا الشجاعة فنستثني الآخر ونعامله على أنّه عدو، أو نعمل على إخفائه عبر الاندماج والذوبان. ولهذا تُحيي الغرابة والتغريب المُعاشَة على المستوى الفردي التعارض الاجتماعي والنِّفاق السياسي.
تحدّث "مارتين ر. دين" عن هذا الصراع انطلاقاً من تجربته الذاتيّة؛ فأصوله المزدوجة أثّرت فيه وفي كتاباته. حيث يعكس "دين" الآخر في علاقة الصراع مع الذات على مستويات مُختلفة، فيتذكّر الطفولة الخاصّة به باعتبارها "أماكن للحنين"، ويتذكّر نفسه في زياراته في المدن الكبيرة، باريس أولاً، حيث تعرّف على " انفتاح العالم". في هذه الآثار يدور مركز حياة مارتين: أبواه الاثنان، اللّذان اشتغل عليهما ثقافيّاً في مؤلفاته، وكلاهما أعطاه قطعة من الغَيريّة، وعبرها أخذت مصطلحات مثل وطن وبلد أم معنى مزدوجاً يصعب التقاطه.
هكذا خلق الكاتب قوّة دافعة لكتاباته؛ فناقش مُعاملة المجتمع الاجتماعية والسياسية للغريب، الذي يتأرجح بين الرفض والتطويع. ويبدو تأثر الكاتب بإلياس كانيطي الحاصل على جائزة نوبل للآداب، كبيراً في كتابه. يقول مارتين ر. دين: "أراد كانيطي المثقَل مبكراً في الحياة بلغات مختلفة وجغرافيات، الاحتفاظ بالغريب. إنّه يرفض لنفسه أية ترجمة إلى الأصل. يريد أن يصبح هو نفسه غريباً. حين يعود من مراكش يستطيع أن يواصل الكتابة".
في مقدمة كتابه يقتبس الكاتب مارتين ر. دين مقولة لـ مارتين تيودور ف. أدورنو: "الغيريّة في العالم هي لحظة فن، من يدركها على أنها شيء آخر غير الآخر، فإنه لم يدركها أبداً". هكذا يؤمن مارتين بأنّه من الصحّي الاعتراف بأن الآخر جزءٌ من ذواتنا، بدل منحه "مجالاً من الارتياب"، وسجنه بين الإقصاء والدفاع عنه؛ فمفاهيم مثل الهوية، والطابع، والأسلوب، هي مفاهيم يلتقي فيها ما هو ذاتي بما هو غريب: "الهوية ليست شيئاً آخر غير غرفة صدى، فيها يتراسل الذّاتي الخاصّ مع الأجنبي الغريب ويلعب الاثنان في واحد".
ويحاول المؤلّف على ما يبدو دراسة عناصر الحجاج لهذا اللعب المضاد والمثير انطلاقاً من تجربته الخاصة. لقد أسّس مارتين ر. دين انطلاقاً من تجربته الذاتيّة معنى للغرابة في الفن والثقافة الذي يجب إعادة اكتشافه من جديد. فالثقافة تعمل على المشاركة بشكل عام في النقاشات الدائرة حول السياسة وحول المجتمع. وهي نقاشات تعود جذورها إلى التجربة الذاتيّة عند مارتين ر. دين الذي يتذكّر طفولته والحدائق التي يعتبرها "أماكن الحنين"، ويتذكر زياراته للمدن الكبرى مثل باريس التي اعتبرها" انفتاحاً على العالم".
وينتهي مارتين ر. دين إلى القول بأنّه "بواسطة غيريّة الآخر أعرف أنا غيريّتي الخاصّة". فهما مفهومان متداخلان مع بعضهما البعض، ويكمل كل واحد منهما الآخر. والغرابة لا تبدأ خارج الذات، بل هي موجودة في الإنسان نفسه.
----------------------------------------------------------------------------------------------------------
عنوان الكتاب: انحناء أمام المرايا: عن الذات والآخر
المؤلف: مارتين ر. دين
الناشر: يونج ويونج، فيينا/النمسا، الطبعة الأولى، 2015.
عدد الصفحات: 104.
لغة الكتاب: الألمانية.
Martin R. Dean, Verbeugung vor Spiegeln: Über das Eigene und das Fremde, Verlag Jung und Jung, Wien/Österreich, 1. Auflage, 2015, 104 Seiten.( Deutsch) .
