لجويل موكر
محمد السالمي
ما العوامل التي أسهمت في الثورة الصناعية؟ قدَّم خبراء الاقتصاد والمؤرخون أجوبة مُختلفة، من بينها دور الطاقة الرخيصة والأجور المرتفعة في تحفيز الابتكار التكنولوجي؛ واستخراج الموارد الاستعمارية، وغيرها. ولكن، نشأ توافق في الآراء في السنوات الأخيرة أن "جودة المؤسسات" هي العامل المركزي في تفسير الأداء الاقتصادي. فكثير من منظري التطور الاقتصادي من أمثال رودريك، وأسيموغلو وغيرهم يرون أنّ القانون والنظام، وحقوق الملكية، والنظام الخاص في إنفاذ العقود، والحكم الفعال وتوفير الخدمات والسلع العامة هي من بين الآليات التي ساهمت في التطور الاقتصادي.
ومع ذلك، فالثورة الصناعية الأوروبية كانت في ذروة التقدم التكنولوجي مما أدى إلى نمو وازدهار في القارة الأوروبية، وليس فقط في كفاءة السوق وتنوعه. فالعامل المؤسسي بمعناه "الضيق" مثل التجارة والتخصص، وسيادة القانون والاقتصاد المدني، وجودة الحكومة لا يمكن أن يفسر لنا الصورة الكاملة من النمو الحديث. فإذا استند النمو قبل عام 1750 بشكل أساسي على النمو السميثني smithian growth”"، ومن ثم بشكل متزايد على الابتكار أو "العلم النافع،" فما هي الديناميكية؟.
هناك طريقة واحدة لتناول القضية وهي: ما نوع المؤسسة التي كان لها دور أساسي في تحقيق ارتفاع الابتكارات الفكرية والتي أدت في النهاية إلى الثورة الصناعية؟ يأتي جويل موكر أستاذ العلوم والآداب في جامعة نورث ويسترن في كتابه "ثقافة النمو: أصول الاقتصاد الحديث" ليتناول هذا اللغز في التاريخ الاقتصادي المؤسسي الجديد. يعتبر جويل أحد رواد علم التاريخ الاقتصادي، ورئيس تحرير موسوعة أكسفورد للتاريخ الاقتصادي، كما له مؤلفات عدة، وإسهامات كبيرة في قضايا التطور الاقتصادي.
لحل هذه المسألة، نحن بحاجة للتعامل مع "الثقافة". أي جزء من الثقافة؟ ففي المقام الأول يجب التعامل مع المُعتقدات حول البيئة المادية وعلاقات البشر به. وعندما نتحدث عن "الثقافة" يجب الأخذ في الاعتبار بأنّها أقلية صغيرة مثل النخبة المثقفة، وليس ثقافة شعبية: مثل القراءة والكتابة، والانفتاح؛ حيث إنّ التطور في العلوم والتكنولوجيا يكون مدعومًا من قبل عدد قليل جداً من الناس، أو أقلية صغيرة داخل فئة من المُثقفين.
يأتي جويل لشرح نموذج سوق الأفكار وتطوره في تلك الفترة وذلك عبر طرح تفسير افتراضي، حيث يحاول المبتكرون والمبدعون في المجال الفكري إقناع "المشترين" بقبول الأفكار والنتائج الجديدة الخاصة بهم. وعندما يفعلون ذلك فهم "يكتسبون سمعة"، على الرغم من أنَّ هذه ليست واردة في حقيقية "السوق". ولكن يمكننا طرح بعض التساؤلات مثل المنافسة، والعوائق، والتكاليف، والكفاءة وغيرها، حيث إنّه يشبه إلى حد كبير أي سوق. كما أنّ هذا السوق، وبطبيعة الحال، قد يكون مليئاً بالفشل" والحوافز السيئة؛ لكون الأفكار الجديدة غالبًا ما تحط من قيمة رأس المال البشري من العقيدة القائمة، وبالتالي سيتم مقاومة الابتكار الفكري، واضطهاده باسم "الردة" أو "البدعة أحيانًا، وهي حوافز سلبية قوية، كما أنّ ضعف الحوافز الإيجابية يؤثر سلباً على الإنتاج المنتظم للمعارف".
يرى الكاتب أن عدم فشل النموذج في أوروبا سببه أنّ النخبة المثقفة في أوروبا بين عامي 1500-1700، قامت بتطوير ثقافة وبناء مجموعة من المؤسسات التي هي مناسبة للإبداع الفكري وتراكم المعارف المفيدة أكثر من ذي قبل؛ حيث استطاعت أوروبا إيجاد حلول أفضل لهذه الصعوبات مقارنة بالمجتمعات الأخرى مثل الصين.
ويؤكد الكاتب بأنّ الحل الأوروبي كان هو الأمثل؛ لأن النموذج عمل بشكل جيد بما فيه الكفاية لإنتاج ثقافة النخبة، والتي يمكن أن نطلق عليها "المستنيرة". وما حدث بالفعل هو أن الحوافز على حد سواء الإيجابية والسلبية في عام 1700 كانت تحسناً كبيرا مقارنة بعام 1500.
لمعرفة السبب، يرسم الكاتب إطارا عريضا للغاية حول كيفية إقناع المثقفين بعضهم البعض، وهو ما يحدث في سوق الأفكار. عندما تظهر عناصر جديدة في القائمة، يمكن للناس أن تختار بين البديل الجديد والمتغيرات المتنافسة، وهو هذا ما يسمى بالتطور الثقافي القائم على الاختيار. كما أن داخل كل مجتمع أفكارا، هناك تنافس على القبول؛ لأن بعض الأفكار يصبح "ثابتا" في السكان، وبعضها يصبح منقرضا، وبعضها يتعايش مع المنافسين.
يأتي الكاتب ليشرح مفهوم التحيز، كيف أنّ الناس يغيرون رأيهم حول الأشياء التي نعرف، ولماذا وكيف يفعلونه؛ فآلية التحيز تقوم على الإقناع، أو السلطة، أو التقليد، أو الانسياق، أو التأطير، أو انخفاض خطر عقوبة الزندقة.
فبين "المتغيرات الثقافية" الجديدة التي وضعت نفسها بين عامي 1500 و1700 كانت البروتستانتية، ومركزية الشمس، والطب الكيميائي، والتشريح، والدورة الدموية، والرياضيات اللامتناهية في الصغر، وإمكانية الفراغ، والثنائية الديكارتية وأكثر من ذلك بكثير. ولكن أهمها: عصر إنتاج الأفكار التي يمكن أن نقرنها "بالتنوير". كانت هناك ثلاثة عناصر رئيسية مرتبطة بالتنوير:
• الإيمان بالإمكانية والرغبة في التقدم البشري.
•الاعتقاد (البيكونية) بأن "العلم النافع" من المفترض فعلا استخدامه، وتطبيقه على الإنتاج، الذي وضع أجندة جديدة للبحث العلمي، ويستفاد منه في تحقيق التقدم "التنوير الصناعي".
• الاعتقاد بتفوق "الحديثين" على "القدماء"، وفقدان الاحترام الأعمى للشريعة الكلاسيكية.
كما أن سوق الأفكار أنتج العديد من "التوازن في الأفكار" التي تؤثر في محتوى التحيز، مثل: قيمة "الفلسفة التجريبية" في مجال البحث العلمي، والإقناع بالنتائج التجريبية، وأهمية الرياضيات، وأهمية جمع الحقائق والبيانات وتصنيفها وتنظيمها في أشكال تسهل البحث عن "الاطراد التجريبي"، والاستقامة الدينية للبحث في الفلسفة الطبيعية.
هذه التغيرات الثقافية أعدت أوروبا لتنفيذ البرنامج التجريبي لبيكون، والتي أدت إلى الثورة الصناعية.
وكانت هذه الثقافة الجديدة رائدة في أوائل القرن الثامن عشر في بريطانيا والقارة الأوروبية الغربية وكانت ملازمة للثورة الصناعية.
يرى جويل، أنَّه لكي تنجح الأسواق، وتعمل بفعالية، فإنّها تحتاج أساساً لنوع من المؤسسات التي تحدد الحوافز التي تدفع للمشاركين وضبط قواعد السوق. وكما لوحظ، فإنّ هذه الحوافز، كانت تأتي على نوعين، إما زيادة الحوافز الإيجابية من خلال إيجاد السبل التي يمكن مكافأة المبتكرين بها، أو خفض الحوافز السلبية من خلال إضعاف القوى التي تقمع الابتكار. ورغم كل الصعاب، بين 1500 و1700 أنتجت أوروبا مؤسسة لفعل كل ذلك.
أوروبا ليست الأولى والوحيدة في إنشاء سوق للأفكار. ولكنها كانت الأولى في إنشاء مؤسسة دعمت سوق الأفكار، وشجعت بنشاط الابتكار الفكري الذي أدى إلى النمو الهائل في المعرفة المفيدة؛ حيث إن المؤسسة تحل المشكلة بطريقة جديدة. كما أنها وضعت الأسس لسوق أكثر كفاءة للأفكار في أوروبا وإلى كل ما ترتب على ذلك.
في أوروبا، نظمت "الموارد المشتركة الفكرية" بعد عام 1500 من خلال المجتمع العابر للحدود من العلماء والتي تشير إلى نفسها على أنها الديموقراطية الأدبية " Republica Literaria ". وتشمل هذه المجموعة النخبة الأوروبية المثقفة، وصفوة المفكرين من: العلماء، والأطباء، والفلاسفة، وعلماء الرياضيات، وعلماء الدين، والمنجمين، وكتاب الصوفية والأكولتيست. وكانت هذه الكوكبة متجانسة نسبيًا: حيث إنهم يجيدون القراءة والكتابة، بعدة لغات، وأذهانهم منفتحة على الآخرين، كما أنهم يشتركون في العقيدة أو الخلفية الثقافية. أول ذكر لهذا المصطلح كان في عام 1417، ولكن جاء إلى جانبها في النصف الأول من القرن السادس عشر مع عمل إيراسموس وصديقه خوان لويس فيفيس، وقد بلغ ذروته في عصر التنوير. كانت المؤسسة فعالة، حتى لو لم تكن مصممة لتكون بهذه الطريقة، وكفاءتها لا يفسر طول العمر.
كانت جمهورية الآداب فوق كل مجتمع وتعرف أحياناً باسم "الكلية الخفية" والتي تشارك، وتوزع، وتقيّم المعرفة.
على هذا النحو، وفرت نوعاً من "المجتمع" لحل مشكلة الموارد المشتركة. حسب استطلاع جويل، فإن أعضاءها لا يعرفون بعضهم البعض جيداً، وكانت مستويات الثقة منخفضة نسبيًا، ولكن المعلومات تميل إلى أن تكون أقل في علاقات المجتمعات القوية. كما أنّ لجمهورية الآداب بعض القواعد في عصر التنوير، والتي تتضمن:
أن المعرفة والبيانات مفتوحة ومشتركة، وجميع موارد المعرفة، سواء الجديد والقديم، يجب أن يفحص ويقيم قبل النشر، وغيرها من القواعد.
هناك عدة أمور تفسر نجاح جمهورية الآداب. أولها، أنها كانت إلى حد كبير مستقلة عن غيرها من المؤسسات السياسية أو الدينية. وكان هذا صحيحًا حتى بالنسبة لفرنسا، حيث تتدخل الدولة أكثر من أي مكان آخر. ثانياً، أن المواطنين استغلوا الانقسام السياسي في أوروبا من قبل الحكام والحد من تنظيم الدين في التدخل أو السيطرة على خلق المعرفة، وتمكين أعضائها من الانتقال من دولة إلى أخرى، ولعب قوة واحدة ضد أخرى. كما أنّ هناك بعض المكونات التي لها دور فعال مثل، الطباعة والنشر، ونمو الخدمات البريدية، وانخفاض تكاليف النقل، والرعاية التنافسية من قبل الحكام والمستثمرين وغيرها من العوامل.
أصبح سوق الأفكار مبارزة لمكافأة كبار المُفكرين والحصول على السمعة من خلال كتاباتهم العلمية. وكانت السمعة هي الحافز الرئيسي الذي حفز المبدعين لتحقيق التقدم في المعرفة. وفي سوق الرعاية، نجد المحاكم والجامعات والأكاديميات تتنافس فيما بينها لجذب أفضل وألمع العلماء لرعايتهم. وعلى جانب الطلب: جذب الأذكياء كان مسألة هاجس للحكام المحليين والوجهاء للحصول على المعلومات والمشورة والنصائح المفيدة، والدروس الخصوصية لأبنائهم؛ مما ساهم في ضعف "الحوافز السلبية".
أهمية العلم المفتوح في التنمية الاقتصادية للعالم الحديث ضخمة. والعلم مفتوح يعني أنّ المعرفة الجديدة سيتم وضعها في المجال العام، وبالتالي تكون في متناول أي شخص يُريد أن يبني عليها أو يستخدمها لأغراض التكنولوجيا. وبحلول سنة 1700 كانت الخطوط الأساسية لـ"العلم المفتوح" بالكامل في مكان ويراعى في كل أنحاء جمهورية الآداب.
استطاعت أوروبا خلق مؤسسة أوروبية موحدة تسمح للمثقفين بالتمتع بجمهور أوسع بكثير مما كانوا سيحصلون عليه في كثير من الأحيان من بلدانهم الصغيرة. ومن هذا المنطلق، كانت أوروبا أفضل من جميع العوالم الممكنة بين الانقسام السياسي والتوحيد الفكري. وعلى الرغم من التنوع والتعددية، إلا أنّه كانت فكريًا "متكاملة" في وجود سوق أكبر أو أقل موحدة للأفكار؛ حيث إنّ المعرفة الجديدة والاكتشافات تنتشر بسرعة على القارة بأكملها، وقد اعتمدت أفكارا متفوقة في نهاية المطاف على نطاق واسع.
وفي خاتمة كتابه، يرى جويل، أنَّ التغيير المؤسسي هو العنصر الأهم الذي يفسر الثورة الصناعية، وليست حقوق الملكية أو الانخفاض في تكاليف المعاملات أو الثورة المجيدة. حيث إنّ المؤسسات التي تخضع للتراكم ونشر "العلم النافع" هي الحل لهذه المشكلة المشتركة في المعرفة والتي وفرت "جمهورية الآداب" في أوروبا، وكانت أهم نتائج مجموعة الأفكار ما نُسميه بعصر التنوير. كما يركز جويل على أوروبا (في الغالب الغربية)، ويؤكد أن هذا الجزء من العالم هو الأكثر أهمية، فإنّه لا يُفسر لماذا بدأ كل شيء في بريطانيا العظمى.
كما أنه ليس من الواضح على الإطلاق أن نمو العلم في الفترة 1500-1700 "الثورة العلمية" أدى مباشرة إلى التغير التكنولوجي في القرن الثامن عشر. ربما كل ذلك العلم لا يهم الثورة. ولكن هذا يأخذ وجهة نظر ضيقة جدًا في العلوم لكونها تلعب دورا متزايدا في تاريخ التصنيع في أوروبا .
كما يتساءل جويل: هل يمكن أن يكون هناك ثورة صناعية دون ثقافة النمو؟ ويجيب بأنّه قد تكون هناك ثورة صناعية في أوروبا بدون جمهورية الآداب وجدول الأعمال المتغيرة من العلم، ولكن كان يمكن أن تكون لمدة قصيرة وسرعان ما تنهار بعد عام 1815 أو أي تطور تكنولوجي آخر. إن أمواج الاختراعات والتقدم التكنولوجي قد وقعت من قبل في أوروبا، وقبل في العالم الإسلامي والصين. ولكن هذه المرة كان الأمر مختلفا.
------------------------------------------------------------------------
الكتاب: ثقافة النمو: أصول الاقتصاد الحديث.
المؤلف: جويل موكر (Joel Mokyr)
عدد الصفحات: 400 صفحة
الناشر: Princeton University Press (November 1, 2016)
اللغة : الإنجليزية
