«أرض كافكا»

24321981.jpg

لمانيشا سيتهي

فيلابوراتو عبدالكبير *

"أرض كافكا" (Kafka Land) لمانيشا سيتهي، كتابٌ مُهم وثائقي لمن يريد أن يدرس ما يجري وراء الكواليس الأمنية في الهند تحت عنوان مكافحة الإرهاب.. مانيشا الأستاذة في الجامعة الملية الإسلامية بنيودلهي ليست مجرد كاتبة، بل هي حضور بهي وقوي في مجال حقوق الإنسان، خاصة فيما يتعلق بقضايا الأقلية المسلمة. ومن قرأ رواية كافكا "المحاكمة" التي تعدُّ من أبرز الأعمال في المدرسة العبثية، يجد أنَّ تسمية مانيشا حاضر الهند بـ"أرض كافكا" تسمية مُناسبة جدًّا؛ حيث العبثية في تلك الرواية تنطبق تماما على المشهد الهندي الراهن الذي تظهر فيه ملامح إرهاب الدولة بصورة فاحشة، تُخاصم العقل والمنطق، وتتحدى كل ما هو معقول. تبدأ رواية "المحاكمة" بأن يتم اعتقال بطل الرواية "جوزيف.ك" أمين الصندوق الرئيسي في أحد المصارف، في حفلة عيد ميلاده الثلاثين، من قبل رجلين مجهولين، بناء على تعليمات جهة غير مرئية. و"ك" رجل ساذج بريء تصيدته الشرطة وجعلت منه مجرما كبيرا، فيضطر إلى أن يتعرض لاستجواب خشن في المحكمة طوال حياته، بالرغم من عدم ارتكابه لأي جريمة. ترى منيشا في أكثر من يقضي في سجون الهند من المسلمين المتهمين بالإرهاب صورة "ك" المسكين.

كتاب "أرض كافكا" رحلة مغامرة طويلة تتابع فيها الكاتبة حالة تلو حالة من الانفجارات التي حدثت في مختلف أنحاء الهند منذ 2005، وتحاول تحليلها بكل دقة وأمانة، فتكشف عن المؤامرة الكبيرة التي يقوم بها الهندوس المتطرفون بالتواطؤ مع العناصر المتعاطفة معهم في قوات الأمن الهندية. بدلا من أن تعتمد على تقارير الشرطة الأولية أو تصريحاتهم التي أدلوا بها للصحافة، تجمع الوثائق البوليسية الأخرى وإفادات الشهود وأحكام المحاكم وتقارير لجان التحقيقات والمعلومات التي حصلت عليها بموجب قانون حق الحصول على المعلومات الرسمية، فتغوص إلى أعماقها ثم تقوم بتجريد تناقضات هذه المعلومات وطبيعتها العبثية. الكتاب قُسم إلى جزأين: جزء تحت عنوان "حكايات من أرض كافكا" بأربعة فصول تُعري الحقائق المخفية في الحوادث المتعلقة بالانفجارات والاعتقالات التي تختلف عما وردت في وسائل الإعلام في حينها، وكذلك مختلف أنواع التعذيبات التي تمارسها الجهات الأمنية على المتهمين. التعذيبات الوحشية التي تعرض لها المعتقلون ظهرت لأول مرة في رسائلهم المتوفرة لدى محاميهم شاهد أعظم، ورد في هذه الرسائل اسم طبيبة تسمى "ماليني" المديرة المساعدة في معهد التحليل النفساني الخدري (Narco Analysis Instiute) بـ"بنجلور". القصد بهذا التحليل هو التأكد من صحة إفادات المتهمين، وهو عبارة عن مساءلة المتهمين بجعلهم في حالة ذهول بفعل عقار مخدر. والرسائل المذكورة كانت تفيد بأن الطبيبة "ماليني" المشهورة بسمعتها السيئة باسم "الدكتورة ناركو" كانت تستخدم الأدوية الممنوعة مثل "سوديوم بينتاتول" بحقنها عدة مرات في أجساد المتهمين لنزع اعترافاتهم بارتكاب الجريمة. كانت هذه الأدوية تسبب أمراضا خطيرة ونوبات قلبية. ولما أعلن المحامي شاهد أعظمَ هذه الرسائل أثارت ضجة كبيرة في وسائل الإعلام واتضح فيما بعد أن الأقراص الممغنطة المحتوية على إفادات المتهمين كانت جلها مزورة؛ مما أدى إلى عزل الطبيبة "ماليني" من المعهد المذكور بصورة مهينة. فسرعان ما اغتيل المحامي شاهد بأيدٍ متطرفة هندوسية. المحامي شاهد هو ذاته كان ضحية الجهات الأمنية بتهمة الإرهاب؛ حيث اضطر إلى أن يقضي فترة في السجن. وخلال هذه الفترة، درس القانون وحصل على درجة بكالوريوس في الحقوق. وبعد خروجه من السجن بإثبات براءته امتهن المحاماة. منذ ذلك الحين، نذر حياته لمساعدة المتهمين الأبرياء بمرافعة قضاياهم إلى المحاكم العدلية. وقد أنقذ حياة كثير منهم إلى بر الأمان مما جعله شوكة في حلق العناصر الفاشية الهندوسية ودفعهم إلى قتله. حين نقرأ في الكتاب الأنواع المختلفة من التعذيبات التي تقوم بها قوات الأمن للضغط على المتهمين للاعتراف بالجريمة ستقشعر جلودنا.

ودراسة "مانيشا" التحليلية عن إرهاب الدولة لا تنحصر في القضايا المتعلة بالأقلية المسلمة فقط، بل تتجاوزها إلى الماضي البعيد، مما واجهت فيه الأقلية السيخية في ولاية "البانجاب" من إجراءات قمعية بقيادة قائد الشرطة آنذك "ك.ب.س. دهيلان" في دور حكومة أنديرا الغاندي، تحكي فيه المؤلفة مغامرة المنضال الجريء "جاسفاند سينج" أحد نشطاء حقوق الإنسان الذي بذل جهدا كبيرا في البحث عن عدد المختطفين من قبل الشرطة لقتلهم ودفنهم جماعيا، فيذهب إلى المقابر العامة ويفحص السجلات الرسمية ليتأكد من عدد الأخشاب التي استعملت لحرق أجسادهم حتى يتم الضبط من خلاله عدد المقتولين. وأخيرا اضطر هذا المناضل إلى أن يعطي ثمنا بالغا لعمله، فما كان قدره إلا أن اغتيل بأياد سوداء.

وفي الكتاب أيضا دراسة مفصلة عن الأرباح التي تكتسبها الشركات الضخمة متعددة الجنسية من صناعة الأجهزة الأمنية التي تُباع للحكومات باسم مكافحة الإرهاب، وكذلك الفساد الكبير الذي يجري خلف هذه الصفقات.

كانت حادثة "بيت بتلا" (Batla House) الذي كان يسكن فيه طالبان من جامعة الكاتبة هي التي دفعتها إلى بذل جهدها في تأليف هذه الدراسة العميقة. في تلك الحادثة، قُتل الطالبان المذكوران إثر هجوم قامت به شرطة دلهي سيئة السمعة في منتصف الليل. ادعت الشرطة أن الطالبين كانا من الإرهابيين وأنهما قُتلا بعد تبادل إطلاق النار عند مداهمة الشرطة سكنهما. لماذا هجمت الشرطة على سكنهما في منتصف الليل؟ إن كانت لدى الشرطة معلومات تفيد بأعمالهما الإرهابية، لِمَ لم تقم بإلقاء القبض عليهما بالتعاون مع إدارة الجامعة؟ طرحت أسئلة كثيرة مثل هذه في ذلك الوقت من قبل كثير من منظمات حقوق الإنسان. وإضافة إلى هذا، كانت شهادة حسن سلوك وسيرة ذلكما الطالبين من مركز شرطة "أعظم جر" مسقط رأسيهما كانت موجودة لدى شرطة دلهي، إنما التحقا بالجامعة بموجب تلك الشهادة. والمزيد من ذلك اتضح فيما بعد من تقرير الطب الشرعي الخاص بالمقتولين أن حكاية الشرطة عن تبادل إطلاق النار مفربكة وعارية من الصحة. ولهذه الأسباب وأسباب أخرى كثيرة، طالبت منظمات حقوق الإنسان الوزارة الداخلية التابعة للحكومة المركزية بتعيين لجنة تحقيق لاكتشاف حقيقة تلك الحادثة، ولكن الحكومة رفضت ذلك الطلب مبررة أن تحقيقا مثل هذا سوف يسبب تدحرجا لمعنويات القوات الأمنية. وفي سياق هذا، قامت مجموعة من أساتذة الجامعة الملية وأكثرهم من خارج الملة الإسلامية بتشكيل منظمة باسم "تضامن أساتذة الجامعة" للدفاع عن حقوق ضحية إرهاب الدولة. والأستاذة مانيشا عضوة فعالة في هذه المنظمة. وجدير بالذكر هنا أنها في أكتوبر الماضي قامت بعقد اجتماع مع مجموعة كبيرة كانت متهمة بالتورط في انفجارات ثم تم إطلاق سراحهم من سجون مختلفة بعد ثبوت براءتهم في محاكم العدل.

وفي الجزء الثاني من الكتاب، تتناول المؤلفة موضوع القوانين الجائرة التي تسود البلاد والمشاكل المتأزمة التي تتعلق بهذه القوانين والتعديلات اللازم تنفيذها فيها فورا. بعد كارثة 9/11 انقلبت موازين العدل والإنصاف بصورة مرعبة. الحرب على الإرهاب التي أعلنها بوش الصغير -هولاكو القرن الواحد والعشرين- تحت قناع الحرب العادل، أنتجت آثارا بالغة الخطورة بحيث تضخم إرهاب الدولة على مستوى عالمي. عقب سقوط المركز التجاري العالمي في أمريكا عام 2001 وبعد إبرام الحلف الدولي تحت إشراف الأمم المتحدة ضد الإرهاب، تشكلت قوانين سوداء سلطوية في كثير من البلدان مما جعل كلا منها دولة بوليسية بالرغم من وجود نظام ديموقراطي في الشكل. كانت من المبادئ المعترف بها في عالم القوانين الحضارية حتى عهد قريب أن المتهم يجب أن يُعتبر بريئا لحين أن يثبت مجرما، كما أنه يتم إطلاق سراحه على الضمان خلال محاكمته، وكان يعتبر هذا الضمان حق كل معتقل. أما تحت القوانين الجديدة لمكافحة الإرهاب، فقد انقلبت هذه المبادئ رأسا على عقب بأن يكون إثبات البراءة واجبا على المتهم في قضية الإرهاب، وأن يكون محروما من حق الحصول على الضمان طوال فترة محاكمته. وفي ظل هذا النظام السلطوي الوحشي، تستطيع أجهزة الحكومة بسط أيديها أي وقت إلى أي مواطن تكرهه، كما تستطيع الحكومة سوء استخدام سلطتها المفرطة على أي معارض سياسي يحول دون مصالحها الذاتية.

قانون مكافحة الأعمال غير الشرعية في الهند الذي يُعرف اختصارا باسم (Unlawful Activities Prevention Act)، نموذج جيد لهذه الحالة المأسوية. ومن اللافت أن هذه القوانين ليست ظاهرة جديدة برزت بعد تولي "التحالف الديمقراطي الوطني" بقيادة "حزب بهاراتييا جناتا" الهندوسي الفاشي، بل كانت موجودة حتى في عهد حكومة "اتحاد التحالف المترقي" برئاسة حزب المؤتمر العلماني العريق. ووفقا للإحصائيات، فإن الكثرة الغالبة من ضحية هذا القانون هم الأقلية المسلمة. وقد أوردت المؤلفة في أحد الفصول حالات عديدة تبينت براءة كثير من المتهمين إثر فشل الادعاء العام في إثبات تهمة الإرهاب الموجهة اليهم. الأدهى والأمر أنهم كثيرا ما يظلون مضطرين لقضاء فترة أطول من فترة العقوبة المحتملة خلف القضبان إن ثبتت تهمتهم، وذلك بسبب الحرمان من حق إطلاق سراحهم على الضمان خلال فترة المحاكمة. وجدير بالذكر أن هؤلاء الشباب هم من الشرائح المهنية من المهندسين والأطباء ومهرة تكنولوجيا المعلومات أو الطلبة الذين التحقوا بدورات مهنية في مثل هذه المهن؛ مما يدل على أن ما يجري تحت عنوان مكافحة الإرهاب خطة مدروسة تلعب وراءها أياد خفية في أجهزة المخابرات والمباحث العامة في القوات الأمنية الهندية التي تتواطأ مع العناصر المتطرفة في منظمات تجتمع تحت مظلة الأسرة الهندوسية الفاشية الرئيسية لتدمير حياة الأقلية المسلمة التي بدأت تستنهض مؤخرا في مجالات الدراسة العليا، كما بدأت تحتل مناصب محترمة في سلم الوظائف في القطاع العام والخاص معا.

الاضطرابات الطائفية هي التي كانت تعتمد عليها المنظمات الهندوسية المتطرفة لمضايقة الأقلية المسلمة من قبل. ولما اشتدت موجات الكراهية ضد المسلمين على المستوى الدولي وخاصة في الولايات المتحدة، أتيح لهذه المنظمات فرصة سانحة فبدلوا خطتهم الخبيثة إلى القيام بالانفجارات في سرية تامة وإلقاء التهم على المسلمين. وجدوا أن فائدة الانفجارات أكثر بكثير من الاضطرابات؛ حيث يمكنهم من خلالها ضرب عصفورين بحجر واحد. فاختاروا مناطق المسلمين لتنفيذ خطتهم، ثم قاموا بالتواطئ مع العناصر المتعاطفة معهم في الشرطة بتوجيه التهم ضد المسلمين وإلقاء القبض عليهم. وهكذا حدثت الانفجارات في "الأجمير الشريف" وفي مسجد مكة بحيدرآباد وفي "ماليجاف" المنطقة المكتظة بالمسلمين بمومباي، وفي القطار السريع "سامجهوتا" المتوجه إلى باكستان. جل من قُتل في هذه الانفجارات كانوا مسلمين، مثل الانفجارات السابقة، في هذه الانفجارات أيضا اتهمت الشرطة الشبان المسلمين كما تم اعتقالهم فورا بدون إجراء تحقيقات دقيقة. ولكن كان في فريق التحقيقات ضباط كبار مثل "هيمناندا كاكارا" من ذوي الضمير والصدق والأمانة، وبما أنه كان رئيس الفريق اتخذ قرارا حاسما في أن يهتم ببسط التحقيق إلى جميع الجهات التي يمكن أن يكون لها دور في القيام بتلك الانفجارات. فانكشف لأول مرة في تاريخ التحقيقات أن وراء تلك الانفجارات شبكة متطرفة هندوسية بقيادة بعض الروحانيين منهم مثل الروحاني "اسيماناندا" والروحانية "براجنا سينج"، جُمعت لهم العبوات المتفجرة من مخزن الجيش ضابط برتبة عقيد اسمه "بوروهيت". ولم يتردد "كاركارا" بإلقاء القبض عليهم جميعا. وفي السجن التقى الروحاني "اسيماناندا" صدفة بشاب يهتم بتقديم خدمات له طوعا، فأعجبه حسن سلوك ذاك الشاب وسأله عن سبب وصوله السجن، وتبين أنه متهم في الانفجارات المذكورة أعلاه. وهذا الخبر وكز ضميره الراقد مما دفعه إلى تسجيل اعتراف جريمته أمام القاضي بالرغم من تنبيه القاضي بنتيجته الوخيمة. وبالطبع تم إطلاق سراح الشباب المسلمين المتهمين في تلك القضية. وقد خصصت المؤلفة فصلا لتفاصيل هذه الوقائع. وللأسف لم تسمح العناصر المتطرفة لذلك الضابط المخلص "هيماندا كاركارا" بأن يُوصِل تلك القضية إلى نتيجتها الحتمية، فسرعان ما اغتيل في ظروف غامضة. وقد كُشِف عمَّن شارك في اغتياله ضابط متقاعد من شرطة مومباي بأعلى رتبة اسمه "مشرف" في كتابه "من قتل كاركارا؟".

وفي آخر كل فصل اهتمت المؤلفة بدعم نتائج بحثها بمراجع موثوقة ووثائق معتمدة. يختتم الكتاب بأربعة ملحقات؛ الأول منها النصوص من الرسائل التي قام بتوفيرها المحامي "شهيد أعظم" من المتهمين. والملحق الثاني نص الرسالة التي أرسلها المتهم إرشاد علي من عنبر السجن المشدد أمنيا إلى رئيس وزراء الهند. والثالث منها الأجزاء المهمة من حكم محكمة "آندهرا برديش" في قضية رفعتها اللجنة المدنية للحرية بآندهرا براديش "ضد حكومة آندهرا براديش". الرابع والأخير منها بعض أجزاء من حكم "فيريندر بهات" قاضي محكمة دلهي في قضية مسعود وآخرين خلاف الحكومة.

الكتاب باختصار.. دراسة قيِّمة في موضوع الإرهاب ووجهه الآخر من الإرهاب المضاد.

-----------------------------

- الكتاب: "أرض كافكا".

- المؤلف: منيشا سيتهي.

- الناشر: (Three Essays Collectives, B – 957 Palmvihar, Gurgaon,Haryana,India)، 2015.

- عدد الصفحات: 216 صفحة.

 

* باحث ومستعرب هندي

أخبار ذات صلة