عاطفة المسكريَّة
تتباين التفاسير حول مُصطلح الحرية إذا ما ارتبط بجانب مضاف؛ سواء كان داخليا كالفكر والاختيار أو خارجيا كالتعبير والعمل. ويحدث الاختلاف غالبا لتفاوت وجهات النظر حول أي شيء بشكل عام. وبالنسبة لمفهوم الحرية قبل أن يعرف، لابد من توضيح أنَّه من المصطلحات المرنة القابلة للتمدُّد بناءً على الظروف المكانية والزمانية التي تقاس عليها، كما أنَّ للشخص الذي يستخدم هذا المصطلح والعوامل التكوينية لفكره تأثيرا كذلك. ما يثبت ذلك حقيقة النظريات ومحاولات التطبيق الواردة عبر التاريخ في شتى أنواع الفكر. يتَّضح ذلك في أحد مقالات منى أبو زيد حول الحرية في النظرية والتجربة، وتحديدا في الفكر الإسلامي الوسيط.
فالحرية كمصطلح ومفهوم عام غالبا ما يُشير إلى القدرة على اتخاذ قرار ما والاختيار؛ سواء فيما يتعلق بأمور ترتبط بالشخص نفسه أو ما يتعلق بطرف آخر دون ضغوط وتدخلات خارجية أيًّا كان نوعها. ونقيضه العبودية أو الجبر، أو بمعنى آخر السير في اتجاه لا يعكس الرغبة أو القناعة الداخلية نتيجة التدخلات الخارجية. لا تقتصر الحرية على الجانب الداخلي فقط. وفيما يتعلَّق بالقيم والآراء والتفرقة ما بين الخير والشر، إنما يشمل زوايا خارجية كحرية الرأي والتعبير والتصرف بل يمتد إلى ما يرتبط بالسياسة والدين.
نتطرَّق لمفهوم الحرية في الإسلام ابتداءً من اعتناق المرء للإسلام؛ فجاءت هذه الآية الصريحة أنْ "لا إكراه في الدين"؛ فلا يُكرَه الإنسانُ على اعتناق الإسلام أو على أي أمر آخر. حيث إنَّ الجبر أو الإكراه لا يعدُّ حلًّا في معظم الأحوال؛ لذا نجد ذلك حتى في إطار الإسلام؛ حيث إنَّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- كانت دعوته بالموعظة الحسنة بعيدا عن الإكراه. وعليه، فإن الحرية مُؤكَّد عليها كذلك في الإسلام كَوْن الإنسان يُحاسب على ما تأتي به من أفعال؛ وقمة العدالة أن تكفل له الحرية؛ فمارس المسلمون الحرية الدينية والحرية الفكرية والسياسية؛ لأنَّ الإيمان أساسه الحرية. لكن بعد ذلك جاءت عقيدة الجبر في وقت لاحق. وتتمحور هذه العقيدة حول كَوْن الإنسان مُسيَّرا لا مُخيَّرا في أفعاله. نبعت هذه العقيدة حقيقة لأسباب أقرب ما تكون للسياسة؛ وذلك كتبرير لتحول النظام السياسي من الخلافة إلى نظام أشبه بنظام ملكي أو وراثي لم تعتاد عليه الأمة. وتحديدا بعد ولاية معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- والذي عهد بالخلافة من بعده لابنه يزيد. بدأ نشر هذه العقيدة بالفكرة التي تحملها كون الإنسان مُسيَّرا لدرجة أن تخلق فيه الأفعال كالجمادات تماما، ولا خيار له في ذلك حتى يتقبل الناس الفكرة، ويطبقوها على الحكام والأنظمة التي يحكمون بها ولا يتم محاسبتهم؛ إذ إنَّهم مُسيَّرون لا مُخيَّرون هنا! فاستخدمت كثيرا هذه الفكرة، وتمَّ استغلال المواقف الدينية عبرها في تبرير بعض الأفعال والأهداف السياسية، وتناسوا للأسف أنَّ هذا يُعدُّ تهديدا لمبدأ الثواب والعقاب الذي أقرَّه الإسلام؛ حيث يشترط في هذا المبدأ توافر عنصر الحرية بالتحديد، وأن يكون الإنسان مُخيَّرا. وتعد هذه نتيجة طبيعية كون الله عدلا وحقا. فأين المنطق في أن يُثاب أو يُعاقب الإنسان على أفعال جبر سُيِّر عليها دون أن تكون هناك إرادة منه.
ومن جانب آخر، وَرَد خلاف حول القدر والإيمان به؛ كونه الركن السادس من أركان الإيمان الست؛ حيث يُفهم القدر على أنه إرادة إلهية لا يتدخل فيها الإنسان. وعلى الرغم من ذلك، يُفهم أيضا أنَّ ردة فعل الإنسان في شيء مقدر من قبل الله سبحانه وتعالى تكون وفقا لخياره، فلا يسير في هذا الأمر. حتى المعتزلة الذين ظهروا في عصر سالف مُؤكدين تقديم العقل على النقل أقرُّوا بذلك. وعلى الرغم من أنَّ لهم طرقهم الخاصة في الإيمان مُستندين إلى العقل والمنطق، فإنهم دافعوا عن الحرية في الإسلام كونهم يؤمنون بعدل الله سبحانه وتعالى، ودليلهم في ذلك أن الإنسان مُكلَّف من ناحية، ووجود الوعد والوعيد من ناحية أخرى، فكان منهم أن يُكافحوا في تأييد وجود مفهوم الحرية في الإسلام، وأسهموا في رفعة اسم الإسلام من خلال التمييز بين الإرادة الإلهية وبين الارادة الإنسانية وفقا للموقف. حتى مع محاولات غرس عقيدة الجبر في فترة الدولة الأموية تحديدا من الناحية السياسية، كانت هناك مقاومة من قبل المعتزلة. ويعرف عن معاوية أنه عاش حياة الملوك وانتقل ذلك إلى ابنه مما لقي معارضة من ناحية النظام نفسه وطريقة انتقاله بعدما كان بالشورى، واختيار أهل الحل والعقد. فهنا كانت محاولات وقف نقد الحكام بحجة أنهم مسيّرون؛ فهذا سوف يزيل مسؤولياتهم غدا في حالات كالظلم والفساد أيضا. لا ننفي أن الحرية الفردية مقدرة وموجودة في الإسلام، لكن هذا ما لم يضر أو يمس بمصلحة الجماعة.
والحقيقة أنَّ مفهوم الحرية أمر واقع، لكن تختلف الزوايا التي ينظر منها المفسر؛ فالحرية إذا ارتبطت بالعقيدة فهي شيء، وإذا ارتبطت بعناصر أخرى فهي شيء آخر. هنالك مقاربات و دعم لفكرة الحرية من منظور آخر مشابه من قبل الفيلسوف المسلم الفارابي؛ حيث لا تتحقق الحرية من منظوره الفلسفي إلا إذا تحرَّر الإنسان من رغبات النفس؛ حيث يتحرَّر من قيود الأهواء بغلبة العقل وحرية الإرادة والقدرة على الاختيار بين الخير والشر. وإن كانت هذه الحرية تعد ضمن إطار محدود، إلا أنَّها في النهاية تناسب مدى الوعي الذي يحتاجه الإنسان ليعيش من خلاله. وكون الجبر ابتدأ بسبب جوانب سياسية، يرى أن الجانب العملي لتحقيق الحرية يكمن في البدء في الإصلاح السياسي، ومنه سيصبح من المستطاع تحقيق الحرية في الجوانب الأخرى. إن بعض المذاهب الإسلامية لها رأي مُقارِب لما ذُكِر سابقا؛ فالصوفية مثلا يؤمنون بالحرية لكن بشكل يعكس طريقة إيمانهم حيث تكمن أعلى درجات الحرية في العبودية لديهم، عندما يتغلب الإنسان على أهوائه ورغبات نفسه متخلصا من كل الأمور المادية؛ فيكون حرا من كل ذلك متفرغا للجانب الروحي والإيماني في العبادة.
