ناصر الحارثي
"إنَّ حُرية التفلسف لا تُمثِّل خطرًا على التقوى أو على سلامة الدولة، بل إنَّ في القضاء عليها قضاءً على سلامة الدولة والتقوى ذاتها".. بهذه العبارة المقتبسة من الفيلسوف اسبينوزا استهلَّ زهير الخويلدي مقاله حول الحدود الفاصلة بين الدين والسياسة عند الفيلسوف الهولندي اسبينوزا، والذي يعد من أهم فلاسفة القرن السابع عشر في أوروبا.
ويُعدُّ الفيلسوف اسبينوزا أحد أهم من تحدَّث حول قضية كانت ولا تزال مثارَ جدل على امتداد العصور، وهي علاقة الدين بالدولة، وتعد أطروحات اسبينوزا بمثابة ثورة فكرية؛ حيث إنَّه انطلق من أطروحات ديكارت مُتأثرا به في الثنائيات ومنهج الأفكار الواضحة المتعلقة بالدين والعقائد من أجل تمييز الأفكار العقلانية؛ لذلك يعتبر من الفلاسفة العقلانيين، ولكنه تجاوز منهج ديكارت في الثنائيات وسبق كلا من كانط وهيجل في الحديث عن العلاقة الحقيقية بين الفكر والواقع والنظر والعمل وبين الدين والدولة، كما أنَّه اتفق مع كل من سيمون وأوستريك حول أهمية النقد التاريخي للكتب المقدسة لتمييز النصوص الصحيحة من الأقاويل المنسوبة إليها.
ولقد حاول اسبينوزا من خلال منهجه العقلاني استبعاد الأحكام المسبقة التي تعيق الذهن عن الحكم الصحيح، وكذلك التخلي عن العلل الغائية المتعلقة بالميتافيزيقا، ولقد اعتبر الفيلسوف الهولندي أن الكون ينطلق من مبدأ الضرورة، ويخضع لنظام الأسباب والمسببات، فلا توجد ظاهرة أو مُعجزة خارقة، وبذلك اعتبر العناية الإلهية وتبجيل الإنسان وتمييزه عن سائر المخلوقات نوعا من الحكم المسبق؛ لذلك ينبغي تجاوز هذا الحكم، وحاول اسبينوزا أن يبيِّن أنَّ الدين والسياسة مجالان مختلفان ولا يصح الخلط بينهما، وهو ما أدى إلى اتهامه بأنه من دعاة فصل الدين عن الدولة، ولكنه في الحقيقة أبقى على الخط الذي يربط بين الدين والدولة؛ وذلك من أجل تحقيق التكامل في وجود الإنسان والمرتبط بالصحة الدنيوية والخلاص المنشود، وكذلك قارن اسبينوزا بين أنظمة الحكم ونقد الأنظمة المستبدة القائمة على نظام الفرد الواحد واعتبر نظام الديمقراطية أكثر الأنظمة اتساقا مع العقل والطبيعة، ولقد أوضح اسبينوزا في كتابه "علم الأخلاق..أسس ودعائم الفلسفة السياسية" وخلص إلى أنَّ العقل واللاهوت ينطلقان في مجالين مختلفين؛ حيث إنَّ أسلوب العقل فلسفي برهاني والغاية منه إدراك الأشياء، في حين أن أسلوب اللاهوت هو الإيمان الذي يخلق التأثير في النفوس والغاية منه الطاعة والتصديق بما جاء في الكتاب.
ومن هنا، نجد أنَّ اسبينوزا يقترب من خطاب فصل الدين عن الدولة، ولكن هل يُمكن القول بأنه يدعو إلى الفصل بينهما؟ في هذا السياق، يرى حسن حنفي في مقدمة ترجمته لكتاب "اللاهوت والسياسة" أنَّ اسبينوزا يدعو الناس "لعدم الخلط بين البدع الإنسانية والتعاليم الإلهية أو بين التصديق الساذج والإيمان الصادق أو بين الجدل البيزنطي في الكنائس وبين الإحساس الطبيعي بالعدل والخير أو بين الفتن والمصادمات بين الطوائف باسم الدفاع عن الدين وبين السلام"؛ حيث إنَّ الفكرة المركزية في رسالة اسبينوزا الثورية أنَّ العقل أساس الإيمان؛ لذلك حرية الاعتقاد لا تؤثر سلبا على الدين؛ فالعقل أساس كل نظام سياسي عادل. كما أوضح اسبينوزا أن للعقل دورا كبيرا في محاربة الخرافة التي قد تعشش في عقول الناس، كما اعترف اسبينوزا بأنه قد يتم استغلال الدين في التأثير على تفكير الناس وتحويل الحاكم إلى حاكم مُقدَّس، مُحاط بقصص خرافية أو يتم شيطنته بواسطة الدين نفسه؛ لذا يرى اسبينوزا أنَّ الكُتب المقدسة من خلال دراسته لمقومات رسالة العبرانيين قد دخلها الكثير من التحريف لوجود أكثر من مؤلف لها، إضافة إلى اختلاط السند بالمتن واندماج النص الأصلي مع الحاشية والهوامش والشروحات والتعليقات. أضف إلى ذلك الفترة الزمنية الطويلة؛ لذلك لا بد من نقد تاريخي لهذه الكتب المقدسة، وبذلك أنكر المعجزات والخوارق واعتبر أنَّ الكُتب المقدسة في حقيقتها تعبر عن كلام الله وما التشريعات الإنسانية إلا إضافات على النصوص المقدسة وليس لها علاقة بكلام الله، فالله ليس بالملك الذي يحتاج إلى أوصياء ليقوموا بشريعته على هذه الأرض، كما أن النصوص المقدسة لا تحتوي على الكثير من الأنظمة والحقوق التي تنظم علاقة البشر ببعضهم البعض وهو ما يعكس أنها نصوص منحولة، وكذلك الدولة التي أقامها النبي موسى ما لبثت أن انهارت؛ وذلك لإيضاح أنه لا يوجد نظام حكم مُعين يجب أن يسير عليه البشر.
كذلك ناقش الخويلدي رُؤية اسبينوزا للقانون الإلهي، واعتباره القاعدة الحقيقية للحياة، في حين تنظيم المجتمع يكون من خلال القانون الوضعي المستلهم من القانون الإلهي؛ حيث يرى اسبينوزا أنَّ الدولة جاءت لتنظيم ممارسة الشعائر الدينية؛ لذلك تملك الحق في فرض الشعائر، وللمجتمع الحق الطبيعي المطلق في اختيار النظام الذي يُنظِّم شؤون حياتهم. وفي السياق ذاته، من حق الدولة تنظيم طريقة ممارسة الشعائر التعبدية، وعدم اختيار المجتمع للنظام يجعلهم يطبقون النظام بدافع الخوف، وهو ما حدث في الدولة العبرانية، كما أنَّه يرى أنَّ السلطة السياسية مفوضة بإدارة أمر الدولة من خلال الحق الإلهي والحق الطبيعي، وإذا وجد اختلاف بين الدين والدولة فإنَّ اسبينوزا يجنح إلى أهمية احترام نظام الدولة؛ لأنه حق إلهي وطبيعي. وهنا؛ نجد أنَّه لا يفصل بين الحق الطبيعي والحق الإلهي، ويرى أنَّ واجب الدولة الإشراف على الشعائر التعبدية، في حين السلطة الدينية عليها تنظيم الشعائر التعبدية، وعلى السلطتيْن أن لا تتداخلا مع بعضهما البعض ليكون حبل الديمقراطية هو الذي يُنظِّم العلاقة بينهما، وهو أفضل الأنظمة الموجودة التي تُساعد على تنظيم حياة البشر، وإذا تساءلنا بأي حق يتم رهن فهم الدين وتطبيقه للسلطة وحدها؟ يرى اسبينوزا أنَّه لا أحد يمكنه أن يقوم بدور الأنبياء لذلك فإن الحياة العملية تثبت أحقية الدولة للقيام بدور التطبيق.
نجد في المقال أنَّ اسبينوزا يُدافع عن رأيه من مُنطلق أهمية احترام القانون، والذي من خلاله يُمكن تجنب دخول السلطة الدينية في السياسة، واعتماد نظام الدولة على مذهب معين، كما يُوضِّح أنَّ الفلسفة يكون دورها في الفصل بين اللاهوت والسياسة عند الاختلاف، وإشكالية الكثير من اللاهوتيين أنهم يريدون حكم شؤون العامة بنظام الفرد، كما أنَّ الفلاسفة أبعد ما يكون عن واقعية السياسية وفطنتها؛ فهم يفكرون بطريقة مثالية، في حين أنَّ أهل السياسة هم أكثر دراية بإدارة الواقع؛ لذلك علينا أنْ لا نخلط بين المساريْن. وهذا ما يعكس تأثر الفيلسوف اسبينوزا بالمعتزلة. ومن هنا؛ نرى أنَّ اسبينوزا يحاول الدفاع عن الفكرة الرئيسية وهي الحرية الوجودية، وجعل كل من الدين والسياسة والفلسفة في أنساق مختلفة حتى لا تتعارض، وفي الوقت ذاته تقوم بخدمة كل واحد منها الآخر في مجالات منفصلة تربط بينها الديموقراطية؛ وبذلك يتحقق المطلب الأسمى وهو الحرية التي تمثل الغاية الأساسية من قيام الدولة.
