لجولييطو كييزا
فيكتوريا زاريتوفسكايا *
الفوبيا (الخُوْاف أو الرُهاب) – كلمة لاتينية اصطلح عليها في العلوم السيكلوجية والطب النفسي وتعني مرضا يصيب الإنسان، مصدره ذهني ونتائجه نفسية، تؤدي بالمُصاب إلى خوف مستمر وشديد من مواقف وظواهر معينة. وقد انتقلت عدوى هذا المرض من حالته السيكلوجية الأصلية ليغدو فوبيات متنوعة ما فتئت تنسج خيوطها في حياة الإنسان المعاصر بشتى مجالاتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ومع أنها خيوط مصطنعة في مجملها، وليست وعكة صحية تتطلب علاجا طبيا، فإن كُمونها الطويل في المجتمع قد يؤدي إلى رسوخها في ذاكرته الجمعية وثباتها في أدبيات حياته اليومية، والنتيجة النهائية، تشويه وتدمير لزاوية الرؤية لمظاهر الحياة لدى الأفراد؛ ذلك لأن الفوبيا معنية بتصوير الظاهرة خلافاً لحقيقتها، كما أنها تكرّس المحاذير والمخاوف بلا سبب حقيقي يستدعي الحذر أو المخافة.
جولييطو كييزا، مؤلف كتاب "روسوفوبيا 2.0" (رهاب روسيا 2.0) – صحفي إيطالي شهير يكتب عادة في مجال الرأي العام، له ماضٍ شيوعي حافل وكان من قادة الحزب الشيوعي الإيطالي ومراسل الجريدتين الإيطاليتين الرئيسيتين "أونيتا" و "ستامبا" من موسكو. نائب للبرلمان الأوروبي (2009-2004)، وحالياً مدير لقناة "باندورا" التلفزيونية ولجمعية "ميجاتشيب" وزعيم الحركة الاجتماعية "البديل". يعود المؤلف في كتابه الأخير "روسوفوبيا 2.0" الصادر باللغة الروسية (وقد صدرت نسخته الإيطالية بعنوان "بوتينوفوبيا" أي رهاب بوتين، إشارة إلى الرئيس الروسي الحالي فلاديمير بوتين) يعود إلى جذور النموذج الغربي في تعاطيه مع جاره الشرقي الكبير، ذلك النموذج الذي غدا ظاهرة سياسية واجتماعية ذات شأن. فالهاجس النفسي تجاه روسيا (غربيا) متجذر في الزمان، يرتفع منسوبه أحيانًا إلى حدود قصوى وخطرة، وينحسر أحياناً إلى دون ذلك بكثير، ولكنه أبداً لا يتبدد.
بحنكة السياسي ومهارة الصحفي يعرض جولييطو في كتابه تاريخ هذه الظاهرة، مستبيناً خلفياتها ومفندا مغالطاتها. نقف معه على حجر الزاوية لمراقبة فكرته وملاحظة خطوطها الكبرى. فروسيا، بحكم أسباب عديدة، تقف عائقاً أمام الغرب وعثرة في وجه طموحاته للسيطرة على العالم وفرض سلطته المطلقة. لهذا ما برح الغرب يموّه ويشوّه المعلومات المتعلقة بروسيا ويفبرك التكهنات حول الخطط السياسية الروسية وذلك حتى ترتفع الهواجس ضدها وتكتمل شروط الفوبيا. فمن ناحية أنّه لا وجود لهندوفوبيا (رهاب الهند) ولا إفروفوبيا (رهاب إفريقيا) ولا صينوفوبيا (رهاب الصين ... مع احتمالية أن يكون لهذه الأخيرة نصيب من الفوبيا الغربية مستقبلاً) إلا أننا كثيرا ما نصطدم بالروسوفوبيا في بحر الحياة اليومية الغربية. ويبدو أن الحاجة لقتل الخصم معنوياً، تظهر، أكثر ما تظهر، تجاه الخصم الذي يصعب استعماره أو تطويعه.
وبموازاة عرضه لظاهرة الروسوفوبيا التي تشهد ذروتها في البلدان الغربية، يتوغل المؤلف عميقاً في نقده للغرب ويطنب في توصيفه للأزمة التي يقف على أعتابها والتي قد تقوده إلى إخفاقات دراماتيكية لا سابق لها. أما مظاهر الثقة التي يبديها الغرب، لنفسه ولغيره، وترفّعه عن الخوف وتوابعه، إنما هي غطاء لمشاكل حقيقية، ومتفاقمة، تجري تحت السطح. فخلال فترة تاريخية مديدة ظل الغرب متمسكا بفكرة التطور الأبدي والنمو المستمر، علما بأنّ التطور والنمو مقترنان بالموارد الطبيعية والبشرية، وهذان عنصران متناقصان، إن لم يكونا مؤقتان، وليسا، بأية حال، أبديين. يقول في هذا السياق: "يتظاهر الغرب بشكل مغالٍ به أن نماءه لا ينقطع معينه، ويضغط على كل الروافع الإعلامية من أجل تكوين صورة برّاقة للتقدم والرخاء الذي يعيشه، بيد أنها صورة زائفة" (ص 91).
تأتي إضافة الرقم (2.0) إلى عنوان الكتاب كإشارة إلى أن الموجة الراهنة من الكراهية والعداء إزاء روسيا تأتي بعد موجة سابقة لها سميت في وقتها: "روسوفوبيا 1.0" وكان معمولا بها إبان الحرب الباردة، حيث سينما هوليوود ترسم الصورة النمطية الكوميدية للروسي وحيث الإعلانات في إيطاليا تنبه المواطنين إلى تجنب الروس وتحضهم على الاحتفاظ بأطفالهم بعيدا عنهم. مع ذلك، يجد المؤلف أن الموجة الأولى، بالمقارنة مع نسختها الحديثة، لا تعدو أكثر من نكتة سمجة وكذبة بيضاء انطلت على البعض حينها ثم انطفأت؛ فأفلام هوليوود غدت من الأثر الدعائي المفضوح، ولافتات الإعلانات الإيطالية ذهبت إلى جامعي الأنتيكا. أما الموجة (2.0) فهي مبنية على أحدث التقنيات والأساليب الإعلامية. هوليوود اليوم ترسم صورة للروسي مشبوكة ضمن حبكة الفيلم ومتوائمة مع سياقه، وتبقى الأهداف الدعائية والتحريضية متخفية في ثنايا الفيلم ومتوارية خلف ظلاله الكثيرة والمعقدة. وإن كان كييزا على يقين بأن ترهات الموجة الثانية ستلاقي مصير سابقتها، إلا أنه يخشى أن ذلك لن يحدث قريباً؛ فالآلة الدعائية الحديثة، بكل أجزائها وتكويناتها، أشد دهاء وأمضى أثرا من آلة الحرب الباردة.
يستعرض المؤلف جوانب شتى من موضوع كتابه، من بينها مسائل مثيرة ترقى إلى مرتبة الغرائب والنوادر. ثمة في هذا الصدد قضية الروسوفوبيا الروسية؛ أي الروس المصابين بلوثة الرهاب من روسيا، وطنهم. هؤلاء الرهط من الروس يتشبهون بالغرب ويقلدونه في كل شيء، حتى في كرهه لروسيا، بلدهم. ويعزو الكاتب هذه المسألة إلى ما يسميه عقدة الهوية الروسية عند الروس المتغربين، وهي عقدة غير معهودة لدى الشعوب الأوروبية الأخرى. النتيجة التي يستخلصها من هذه النقطة هي أن الروسي أو الأوكراني يمتلكان معينا حضاريا مختلفاً عن المعين الغربي، وإن هما حاولا التزلف واستبدال إهابهما بإهاب غربي فإنّ مشية الغراب بانتظارهما.
زاوية أخرى يتوقف أمامها الصحفي الإيطالي المُخضرم، مستذكرا لهجة الخصام إبان الحرب الباردة، ومقارنا بينها وبين الألفاظ والأوصاف المستخدمة في وقتنا الراهن. حسب وصفه فالجو السياسي والدبلوماسي والإعلامي الذي ساد زمن الحرب الباردة، وإن كان مشحوناً بالتهديدات المتبادلة بين المعسكرين (الشرقي والغربي) ومعبأ بمترادفات البغضاء والنفور، إلا أن مجمل الخطاب بين الطرفين ظل ملتزما حدود المشاحنات الإستراتيجية (إن صح التعبير) وكان النقد موجها إلى القرارات والسياسات لا إلى شخصيات بعينها، يحط من قدرها وينال من شرفها، الأمر الذي لم يعد نادرا في خطاب الإعلام التعبوي الراهن. لا يقتصر ذلك على الصحافة التي تُدرج تحت مسمى الصحافة الصفراء، فالإهانات المباشرة والألفاظ النابية التي تنهش من الخصم وتمزق صورته نجدها في مقالات الصحف الغربية الكبرى. وهنا تتعقد المشكلة وتتشعب أبعادها، فمجتمع يدعيّ الرفعة الأخلاقية ويتباهى بالحساسية الثقافية نجد أن صحافته، وهي مغزل أفكاره، لا ترعوي عن الشيطنة وإدلاق لسانها في وجه غريمها، أو من تحسبه كذلك.
إلى جانب مقدمة المؤلف، احتوى الكتاب على مُقدمة أخرى للكاتب الروسي نيكولاي ليلين، وهو كاتب يعتبره جولييطو كييزا من الأصوات المميزة والمؤثرة التي تسعى لإيصال رسالة سلام إلى العالم ونبذ العصبية القومية. يسرد في مقدمته مشاهد من فترة صباه التي عاشها في جمهورية مولدافيا وقت انهيار الاتحاد السوفييتي، وهي بمثابة شهادة حية لصناعة الروسوفوبيا من قبل الجهات السياسية الغربية. يقول ليلين: "لم يدع ساسة الغرب وسيلة لتدمير البيئة الثقافية والإثنية المتجانسة في مولدافيا إلا وجربوها؛ تلك البيئة التي ورثناها من الاتحاد السوفيتي لم ترق لهم وكان لزامًا عليهم تفتيتها وقطع أواصرها. أما مطيتهم لتنفيذ مخططهم فكانت الروسوفوبيا، حيث كانوا يأملون أن يبنوا منها عصبيات وشراذم قومية محلية. بيد أن غالبية الشعب المولدافي، والشكر لله، لم ينساقوا إلى تلكم الآيدلوجية المدمرة، وتم انتزاع ما يعتبر نصرا للشعب المولدافي في وجه العبث. في تلك الفترة بالذات أدركت، تمام الإدراك، ما تعنيه سياسة الترويج للكره والبغضاء بين الشعب الواحد أو بينه وبين جيرانه، وأي دمار مروّع يمكن أن تخلفه وراءها. اليوم، وللأسف الشديد، نرى تنويعات لهذه السياسية المجنونة وهي تجوب بلدان العالم وتنفذ بين شعوبه وأديانه. نرى المآسي التي نجنيها حين نقع ضحية لفكرة الكراهية" (ص 29).
يسند المؤلف فرضياته واستنتاجاته إلى نصوص ومقولات لعلماء وفلاسفة وخبراء في الحقل السياسي والاجتماعي والأخلاقي، يُذكر منهم الفيلسوف الروسي ألكسندر زينوفييف – أشهر عالم اجتماع روسي ومختص في الفلسفة السياسية؛ والفيلسوف والشاعر الهندي رابيندرانت طاغور الذي عانت بلاده من نير الاستعمار الغربي وكان لذلك صدى في مؤلفاته؛ والعالم البريطاني المختص في التاريخ والثقافة أرنولد توينبي. كما ناقش كييزا في كتابه مقولات للفيلسوفين الأمريكيين المعاصرين: فرنسيس فوكوياما صاحب نظرية نهاية التاريخ، وصموئيل هنتينغتون المعروف بنظرية صدام الحضارات. إلى جانب ذلك، يلجأ المؤلف إلى خبرته الطويلة في الأسفار سواء داخل روسيا أو في دول بحر البلطيق، وهي بلدان يستمد منها البراهين المؤيدة لفرضيته حول الروسوفوبيا، إذ يذكر هنا (في دول البلطيق الثلاث: إستونيا ولاتفيا وليتوانيا) أن الحكومات، ورغمًا عن قناعة شعوبها، تقوم بالاستقواء بالغرب ضد جارتها روسيا بحجة أن الأخيرة تقوم بالتخطيط لمهاجمة أراضيها، الأمر الذي يعقد الوضع بين روسيا والغرب ويؤجج نار العداوة بينهما.
تتوافق دقة ووضوح الحجج والبراهين التي يسوقها كييزا في كتابه مع مقدرته على تحليل الحالة السياسية الراهنة. فهو يبني أسس بحثه ضمن أفق جيوسياسي مكتمل وإدراك أصيل بمسألة جفاف الموارد الطبيعية جراء زيادة الطلب والحاجة المستمرة إليها. ويتسم الكتاب بالواقعية والبرغماتية والنظرة العلمية لتاريخ العلاقات الروسية/ الغربية، إلى جانب أن الكاتب ما كف ينشئ وجهة نظر فعّالة لاحتواء الخلافات بين القطبين الكبيرين وإطفاء جذوة الخلافات بينهما.
صنّف المؤلف كتابه في عشرة فصول سعى من خلالها إلى تطوير فكرته حول الروسوفوبيا وهي حسب ترتيبها في الكتاب: إرهاصات الزلزال، مرض الغرب المستعصي، الغرب في مواجهة العالم، إسلاموفوبيا، روسوفوبيا، انقلاب التاريخ رأساً على عقب، الروسوفوبيا باعتبارها سلاحًا حديثاً، الروسوفوبيا بوصفها كذبًا على النفس، بوتين في ظل السلاح، الروسوفوبيا الروسية.
لا يقتصر الكتاب على أهميته التاريخية فهو يُواكب الأحداث الجارية؛ يسوق معطياتها ويحلل ظروفها ويقدّر نتائجها. فالنزاع في شرق أوكرانيا (مثلاً) له جذوره التاريخية ومعطياته الجيوسياسية، وإرسال القوات الجوية الروسية إلى سوريا له خلفيته الإستراتيجية... وغير ذلك من نزاعات يشهدها عالم اليوم.
لا تخفى النبرة التنبؤية التي يتضمنها الكتاب، فعالمنا المليء بالمسرات والمتع ينطوي أيضًا على مخاطر جسيمة يتحتم علينا إدراكها قبل فوات الأوان. يقول في هذا الصدد: "كما الأوقات التي تحلُ بين الفصول والمواسم، نعيش نحن البشر حاضرنا في هذا العالم. فجأة ندرك أن شيئاً ما في سبيله إلى الحدوث والتحول. هذا ما حدث عقب انهيار الإمبراطورية الرومانية العظيمة. نشعر في دواخلنا بأننا على أعتاب تحولات جذرية ستؤثر على حياة الأجيال المقبلة، وستغير من مجرى الزمن" (ص 39). يتساءل المؤلف عن المآل الذي ينتظر عالمنا حين تجبرنا الطبيعة نفسها - بحكم تناقص مواردها – على اتخاذ إجراءات جديدة للحد من زيادة السكان وتبني طرق غير معهودة لإدارة الموارد.
يدافع جولييطو كييزا عن فرضياته وأفكاره من منطلق التزامه الأخلاقي ومن موقع انتمائه إلى الاتحاد الأوروبي. وبالنسبة لروسيا التي عاش فيها وكتب بلغتها فهو يصر على أهمية دورها في صياغة سياسة عالمية تجنب العالم كوارث محدقة. وهو يُقدم على ذلك ليس محاباة لروسيا بل من منطلق الضرورة والمسؤولية الملقاة على عاتقها وعلى عاتق الغرب من أجل التحكم بقدرنا الإنساني في هذا العالم، عالمنا الذي طالما عبثنا به.
----------------------------------------------
الكتاب: "روسوفوبيا 2.0"
المؤلف: جولييطو كييزا
الناشر: دار (آ) للنشر، موسكو 2016 باللغة الروسية.
عدد الصفحات: 288 صفحة
*أكاديمية ومستعربة روسية
