لـكمال أبو ديب
مُحمَّد المحفلي
ينبري البروفيسور كمال أبو ديب في كتابه دفاعًا عن القرآن لعدد من المستشرقين الجُدد، الذين -كما يتبين- لم يكونوا في حقيقتهم باحثين عن الشرق وعلومه، بل حملوا على عاتقهم مهاجمة الإسلام والعرب من باب الهجوم على القرآن والنبي محمد صلى الله عليه وسلم. فالكتاب بعنوانه الكامل هو: "دفاعًا عن القرآن، ومحمد والإسلام والعرب. أو علماء ودجّالون. نقد لتخيّلات باتريسيا كرونة وتوم هولاند. مع استكشاف لبعض النواحي الأساسية للقرآن، وبُنية سورة مريم. وقد اعتمد الكتاب بصورة رئيسة على عرض الأفكار التي يسعى إلى الرد عليها، بيد أنَّه لم يقف عند هذا الحد، بل أمسك بكل الحجج المنطقية التي تُمكِّنه من دحض كلما قام به توم هولاند وباتريسيا كرونة، ثم التعمق إلى داخل النص القرآني؛ ليكون الرد والحجة الأقوى نصية من داخله، مستعينًا بما يمتلكه من قدرات نقدية علمية حديثة، وبأسلوب علمي، ينتصر فيه للمنهج ومن ثم يدافع عن القرآن وعن النبي والإسلام والعرب، ولكن ليس من منطلق العصبية والعاطفة، إنما من منطلق علمي ومعرفي بالدرجة الأولى.
دافع التأليف:
يُبين الكاتب أن السَّبب الأساسي الذي دفعه إلى عمل هذا الكتاب، جاء إثر مشاهدة برنامج تلفزيوني معنون بـ:"الإسلام، القِّصَّة المـَكتومة"، قدَّمه توم هولاند وباتريسيا كرونة في 28 آب/ أغسطس 2012، القناة الرابعة، لندن، فالمتن الذي يسعى الكاتب لمواجهته متن إعلامي شفوي، وليس نصّاً مكتوباً. ومع ذلك فقد حاول الدِّفاع عن القرآن بالطَّريقة المنهجية العلمية، في حين أنَّ خطابًا بهذا الشَّكل يحتاج إلى الخطاب الإعلامي الموجه بمعنى أنَّ الدَّفاع في هذه الحالة يحتاج إلى الأدوات ذاتها حيث مساحة التأثير أو الجمهور المستهدف هنا يختلف عن هناك.
وترتكز دعوى هولاند التي يسعى أبو ديب إلى دحضها، على أنّ القرآن مُخترع قام به أمير حرب هو عبد الملك بن مروان ليصنع لنفسه إمبراطورية تنافس إمبراطورية فارس والروم، وأنه لم يكن هناك مُحمد ولا قرآن. حيث سعى في برنامجه ذاك إلى جعل المشاهد يقف أمام الإسلام كظلام خاوٍ، أو كاختراع ليس له أيّ أساس في الواقع التاريخيّ. فالإسلام لم يوجِد إمبراطورية للعرب، بل العرب هم من اختلقوا الإسلام ليخدم إمبراطوريتهم.
المنهج والمنهج المضاد:
يعتمد هولاند في تقديم معلوماته على انتقاء آيات داخل القرآن، ولكنَّه في ذلك لا يرجع إلى النَّص الأصلي بل يعتمد على ترجمة غير دقيقة، بل غير صحيحة، ثم ينطلق منها لتشكيل أحكام عامة، حيث اعتمد على آية " وإنكم لتمرون عليهم مُصبحين، وبالليل.." في سورة الصافات وفي ذكر قوم لوط، حيث يقول هولاند إنّ الآية تشير إلى أنَّ القرآن لا يُخاطب أهل مكة ما داموا يمرون صبحة وعشية على هذا المكان الذي هو قرية واقعة في فلسطين قرب البحر الميت. كما يعتمد هولاند أيضًا على عشرةِ أشخاصٍ من البدو الذين صرف معهم بعض الوقت في صحراء وادي رمّ في الأردن. وهكذا فإنّ هؤلاء الأشخاص البسطاء هم المصدر الوحيد لمعرفة ماهية الإسلام بالنسبة لمن يُقدِّم نفسه كمؤرِّخ يكتب عن الحضارات القديمة ويبحث عن البرهان الرّاسخ ومصادر المعرفة.
كما أنَّ هولاند يعتمد أيضًا على المشاهد والصورة، إذ يقول المُؤلِّف إنَّها لا تدعم البحث العلمي بل تزور الحقائق. وفوق كل ذلك فإن هولاند وكرونة يدعيان استعمالهما المنهج التاريخي العلمي في حين كما يُبين الكاتب لم يلتزما بأبسط قواعد العلمية ولا المنهجية.
في المقابل فقد اعتمد أبو ديب على المنهج العلمي في مناقشة أطروحات هولاند، وإن بدا في كثيرٍ من الأحيان في صورة المنفعل حيث ظهرت الكثير من المصطلحات التي تعكس الجانب العاطفي الذي يظهر في توصيف سلوك هولاند وكرونة من قبيل قوله عن هولاند: "أحد سجناء التَّحامل والجهل والمزاعم المتغطرسة عن تمثيل العقلانية والشكوكيّة والتحليل والبحث التاريخي الواقعي". أو قوله عن كرونة: "هكذا تنطّعت في إجابتها الكاهنة الكُبرى لأكثر أنواع البحث العلميّ غطرسةً". كما يكثر من استعمال مثل هذه المصطلحات في بعض المواضع، فتبدو عاطفية أكثر من كونها تنطلق من منهجية علمية رصينة كما هو صنيعه في هذا الكتاب بصورة عامة.
وينطلق المُؤلِّف في دفاعه عن القرآن من داخل القرآن نفسه، كما أنّه يستعمل الحجج المنطقية التي تظهر في كثير من الأحيان تناقض الآخر بل وقصوره العلمي والمعرفي وانجرافه الساحق وراء عصبيته على حساب العلم والمعرفة. كما انطلق من هذا الجانب في الدفاع عن القرآن وعن محمد ليدخل إلى تحليل القرآن بما يمتلكه من أدوات منهجية ومعرفية تسعى إلى فهم النص القرآني من خلال ما يمتلكه من بنية مُتماسكة تستبعد كل الأفكار التي تسعى للنيل منه. كما أنّه في كل ذلك لم يكن من أجل الانتصار أو الانسياق وراء تعصب أيديولوجي بقدر ما يحاول احترام قواعد العلم والمعرفة قبل كل شيء.
قصة لوط في القرآن:
يؤكد المُؤلِّف أنّ هولاند قد أخذ النصَّ حرفياً من ترجمة غير دقيقة لآيات من القرآن يستدل بها على أنَّ هناك جزءًا من القرآن أُلِّف في مكان ما غير مكَّة: في الآية المشار إليها سابقاً عن قوم لوط، إذ بنى عليها هولاند حكمه بأنَّ أُناساً عاشوا بقرب موقع قرية لوط، والتي دُمِّرَت من قِبَل إله العهد القديم. وقد كان هؤلاء يمرّون بجانب خِرَبهم نهاراً وليلاً. وهكذا فإنّه لا يمكن أن يكون محمّدٌ هو المتكلّم الذي يخاطب أهل مكّة، ولكنه كان شخصاً أتى من منطقة لوط. ثم يتساءل أين أُلِّفت باقي أجزاء القرآن ومَن ألّفها؟" ليقول هنا أبو ديب: إنّ خطأ هولاند الذي لا يُغتَفَر لم يكن فقط استعماله ترجمة للآيات بل تشييده أيضاً على أساس تلك الترجمة عالمـَه الخياليّ الضّخم. من خلال أخطاء في الترجمة وأخطاء في التوظيف وأخطاء في الفهم. ويبيِّن بأنّ القرآن لا يروي أبداً أيّ قصةٍ كوحدة روائية مكتملة، ولكنَّه يروي نواحي من القصة في سياق معيَّن يتعلّق بالوظيفة الكليّة للنصّ ولدور الوحدة الفرعية للقصّة في إغناء هذه الوظيفة "وأن القرآن يمتلك درجة عالية من التماسك والانتظام الذي كان من المستحيل تقريباً توقّعه في نصّ مؤلَّف من قِبَل عدّة مؤلِّفين.
كما أنّ الخطأ الآخر في فهم الآية يتمثل في الطريقة التي يعزل بها العبارة "وإنّكم لتمرّون عليهم..." عن السياق المباشر والسياق الكلّي اللذين تظهر فيهما. ومن الواضح بأنّ منهجيته العلمية والبحثية تحوي خللاً حتى على المستوى الابتدائيّ. وكنتيجة لهذا، فإنّه وكرونة يعتبران -كأمرٍ مسلَّم به- أنّ الآيات تخاطب جمهوراً محدّداً أو مجموعة من الناس عاشت فعلياً في لحظة التلفّظ بهذه الآيات في القرية التي عاش فيها لوط أو في جوارها. وعلى هذا الأساس، فإنّهما يحاججان بأنّ الصوت المتكلّم الذي خاطب هؤلاء الناس ينبغي أن يكون قد عاش في نفس المكان، ومن ثم لا يمكن أن يكون هذا المتكلّم محمّداً الذي كان في العربية أو في الصّحراء.
وتلخيصًا لفهم هولاند وكرونة يبين أنهما لم يحترما البحث والتحليل اللغويّ والتاريخيّ، عندما يتعاملان مع آيات لوط؛ فهما يلجَآن ببساطة إلى نسخة إنجليزية شعبيّة ويقتبسانها: "تمرّون على أطلالها صباحاً وليلاً"، ثمّ يشيّدان تاريخاً كاملاً وخطيراً ويقدّمان على أساس هذه الترجمة إنكاراً لسجلّ تاريخيّ موجود.
الإسلام في القرن السابع:
ويركز المؤلف على نقطة أخرى أخذها هولاند وكرونة للطعن في الإسلام من خلال القول إنَّه لم يظهر في القرن السابع وأن اتجاه الصلاة لم يكن للكعبة، وأنَّه في المائة عام الأولى لم يكن هناك مكان ثابت يتوجه إليه الناس للصلاة، ويؤكدان ذلك بقولهما إنَّ علماء الآثار يقولون ذلك. من خلال ما قدمته عالمة آثار إسرائيليّة تعرَّض لهولاند شكلاً مستطيلاً من الأحجار المرتّبة في مشهدٍ صحراويّ وتدّعي بأنّها لمسجد قديم بُنِيَ خلال أوّل مئة عام من نبوّة محمد، أو ما يقارب ذلك، مستنتجةً بأنّ المساجد الأولى لم تكن تواجه الجنوب نحو مكّة بل الشّرق. فيرد المُؤلِّف على صياغة هولاند التي تعتمد على المغالطة والتأكيد على الوهم، كما أنَّ العالمة التي نقل عنها إسرائيلية مشكوك في سلطتها. مؤكدًا أنَّ العالمة لا تقدّم أيّ دليل لدعم مزاعمها وهولاند لا يسألها كيف تمكّنت من إثبات أنّ الأحجار تبرهن بأنّه "في المئة سنة الأولى أو أكثر"؟ وكيف تثبت أنّ هناك تلاعبا في اتجاه الصلاة؟ وحتى لو كان هنالك تغيّر في اتجاه القِبلة، كيف تعرف هي أنّ هذه الفترة غير المحدّدة قد استمرت لمئة عامٍ أو أكثر؟ ومن أيّ نقطة زمنية نبدأ هذه السنوات المئة؟ من زمن ظهور محمد؟ أم الإسلام؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهي إذن تعترف بأنّ محمداً والإسلام قد تواجدا في بداية هذه الأعوام المئة أو أكثر.
ويُبين المُؤلِّف أنَّ هولاند بدأ يجمع الأدلة على نفسه، فمحاولته إثبات أنَّ الإسلام وجد خلال المائة عام الأولى التي يُريد أن يصل بها إلى عبد الملك بن مروان يثبت بطريقة غير مباشرة أنَّ الإسلام ومحمد قد ظهرا في بداية هذه المائة الأولى. وهكذا الدليل الثاني له ينقض الدليل الأوّل. كما أنَّ القرآن نفسه يؤكد أنَّ القبلة في البداية لم تكن إلى مكة.
ويستعرض المُؤلِّف في سبيل إثبات أنَّ الإسلام قد ظهر في القرن السابع بعدد من الكتابات الأجنبية البيزنطية واليهودية والمسيحية أو ما ذكره الأسير الصيني تو هوان في عهد عمر بن الخطاب التي أشارت إلى الإسلام وإلى توسعه في تلك الفترة.
تساؤلات للإثبات:
يُعزِّز المُؤلِّف ما يطرحه بعدد من التساؤلات التي تحمل إجابات منطقية تؤكد ما يسعى إليه-على طريقته في المحاججة في أماكن كثيرة من الكتاب- حيث يُبَيِّن أنَّ هناك شخصيات في التاريخ العربي عرفت بتمردها وزندقتها أو إلحادها وتحديها للقرآن لكن لم تذكر ولو شيئاً عابرا عن أنه مختلق. كما أنَّه هل يمكن التصوّر بأنّ أعداء الأمويّين، وكانوا كُثْراً ومتنوّعين، والذين كانوا يحاربون ضدّهم سياسياً وعسكرياً وإيديولوجياً، هل كانوا سيسمحون ببساطة لعبد الملك بأن يُخرِجَ من العَدَم نبيّاً وقرآناً وإسلاماً لا يعرفون عنهم أيّ شيء، في سبيل أن يصل سلطته بالسّلطة الإلهية؟. كذلك يقول: أين السجلّات اليهودية والمسيحية المعاصرة التي تسجِّل هذه العملية التلفيقية الضخمة وتبرهن على أنّها كانت حاصلة في القرن السابع وما يليه؟. وغير ذلك من التساؤلات المهمة التي تحمل في إجاباتها المضمرة والواضحة دليلاً يناقض ما أراده هولاند وكرونة.
حول اللغة الشعرية:
ينتقل المُؤلِّف من سياق المحاججة المباشرة ليتخذ طريقة غير مباشرة في إثبات أن القرآن نص مبني بطريقة تسمو على فكرة التلفيق والتجميع التي يدعيها هولاند، من مدخل تحليل اللغة الشعرية فبعد تناوله النواحي المتنوّعة للسياق المناسب للقرآن يقوم بتحليل سورة مريم، من خلال التحليل الشعري فيها ولا سيما التنغيم الصوتي وعلاقته بالثيمة العامة للنص، مؤكداً أنَّ هذا التفرد في التشكيل لا يوجد له مثيل سواء بما جاء من شكل شعري قبله أو ما جاء بعده. ويختم بخلاصة مفادها أنَّ سورة مريم معجزة مكافئة كولادة فنّية على المستوى الإبداعي عن طريق شخصٍ عاقرٍ ولا يُمكن له أن ينجب، حيث إنّها تأتي من خلال أو "تنزل" عن طريق شخص "أُمّيّ". إذا كان الله هو من ألّفها فهو قد سلّمها من خلال محمد ليهبه معجزة خاصّة به، بما أنّه لم يكن لديه معجزات على نمط موسى ويسوع والأنبياء الآخرين؛ وإذا كان محمد هو من ألّفها فهي بحقّ معجزة مكافئة لتلك المعجزات التي قام بها الأنبياء. وهكذا يتبين كيف استعمل المُؤلِّف التحليل الفني للوصول إلى إثبات حجته التي يُريد الوصول إليها من خلال النص نفسه.
مزيد من الملاحظات عن المحيط الجغرافي للقرآن
أمر آخر انبرى له المُؤلِّف وهو ما ذكره هولاند من أنَّ ذكر القرآن للعنب والزيتون والمزروعات دليل على أنَّ البيئة التي أنتج فيها ليست مكة، فيحاج أبو ديب هذه النقطة بالعكس فذكر المزروعات بالقرآن كان من باب الترغيب، ومجرّد وجود هذا الأمر يوحي بقوّة بأنّ هذه العناصر لم تكن متوافرة بسهولة كبيرة في بيئته المحيطة أو كانت محرَّمة أو مقيَّدة كما هو الحال مع الخمر والنساء، بل إنّ المكذِّبين يطلبون من محمد أن يصنع لهم النخيل والأعناب لكي يصدقوا به؛ وهذا يدل كم أنّها عزيزة ونادرة وقليلة. لكنه يقترح بأنَّ البيئة الأكثر تأثيرا في القرآن هي التجارة، وما فيها من مفردات. في مقابل قلَّة الزراعة وحقلها الدلالي.
كما يثبت بالفعل أنَّ هناك نشاطا زراعيا في مكة عبر قصص مثبتة في النقل الشفاهي إضافة إلى وجودها في الشعر. كما يربط جانبًا ثقافياً آخر وهو الكتابة ويقول إنها متعلقة بالعقود والتجارة والمواثيق والتبادل التجاري ووصف الترف والثروة، وهكذا تنتفي مزاعم هولاند وكرونة.
ملاحظة ختامية:
يضع المُؤلِّف في آخر الكتاب عدداً من الملاحظات عن الدلالات البنيوية التي تثبت بأنَّ القرآن من مصدر واحد من حيث الأسلوب واللغة والأدوات المُستعملة وليس كما يقول هولاند، وهذا يأتي على عكس العهد الجديد مثلا الذي يتضح من تحليله أنَّه نتاج عدد من المُؤلِّفين.
وينبغي أن نُقدِّم هنا ملاحظتنا الأخيرة على الكتاب فهو بالإضافة إلى ما اعتراه من مفردات تعود للطابع الانفعالي، فإنه يقع أحيانًا في التعميم من ذلك مثلاً أنَّه وجه اتهاما للغرب بجامعاته ومراكزه البحثية بأنَّه يتواطأ لتمرير هذه الاتهامات التي تحطُّ من العرب وثقافتهم وحضارتهم قائلا: "عندما يتعلّق الأمر بالإسلام والعرب يمكن أن يُقال أيّ شيء؛ فأيّ شيء يحطّ من قدرهم يتمّ السماح به، لا بل يتم تشجيعه وغالباً مباركته كإسهام عظيم في المعرفة وخير الجنس البشري واستمراريّته الحضاريّة". وما عدا ذلك فقد كان كتاباً علميًا ينتصر للعلم والمنهج والمعرفة قبل أن ينتصر للقرآن والإسلام والعرب.
----------------------------------------------------------------
الكتاب: دفاعا عن القرآن، والإسلام، ومحمد، والعرب.
المُؤلِّف: كمال أبو ديب.
الناشر: دار فضاءات للنشر والتوزيع ، عمان - الأردن، 2016.
عدد الصفحات: 390 صفحة.
