تأثير الإسلام في أوروبا في العصور الوسطى

تاثير الاسلام في اوربا العصور الوسطى.jpg

 لوليام مونتجمري واط 

إميل أمين

مدير مركز الحقيقة للدراسات السياسية والإستراتيجية – القاهرة

يشكل موضوع تأثير "الإسلام في أوروبا"، مبحثاً مهمًا تناوله عددٌ من العلماء والباحثين ومن أبرزهم المستشرق البريطاني وليام مونتجمري واط، الذي فند في كتابه هذا أسباب نظرة بعض مسيحيي أوروبا العصور الوسطى العدائية إلى الإسلام، وبحث في تأثير علوم المُسلمين بمجملها في أوروبا، معترفاً بأهمية ما قدَّمته هذه العلوم لها. 

ولد مونتجمري واط في بريطانيا عام 1909، وعمل أستاذاً للغة العربية والتاريخ الإسلامي بجامعة أدنبره في أسكتلندا، وقد قام خلال عمله بتدريس الإسلام عقيدة وحضارة لعدة أجيال من الطلاب كثير منهم مُسلمون، ومن أشهر مؤلفاته "محمد في مكة"، و"محمد في المدينة " و"محمد نبي رجل دولة" و"القضاء والقدر في القرون الثلاثة الأولى للهجرة " و"الفلسفة الإسلامية والعقيدة" و"الفكر السياسي الإسلامي" و"تأثير الإسلام في أوروبا القرون الوسطى". 

يقول واط في كتابه هذا "إنّه بسبب وقوف أوروبا ضد الإسلام قللت من شأن التأثير الإسلامي، وبالغت في اعتمادها على تراث الإغريق والرومان. ولذا مهمتنا نحن أوروبيي اليوم – حيث إننا ننتقل إلى عصر العالم الواحد – تصحيح الاعتقادات الخاطئة، والاعتراف بفضل العالمين العربي والإسلامي". 

ويرى أنَّه على الرغم من محاولات الحط من شأن الحضارة الإسلامية، فإنّه لا يُمكن تجاهل حقيقة أنَّ الإسلام أنتج حضارة مُتميزة وأصيلة استفادت من بعض العلوم في الحضارات المختلفة وراكمت عليها، ثم كانت هي أساساً في تشكيل عصر النهضة في أوروبا. 

يبحث هذا الكتاب تأثير الإسلام في أوروبا عبر ستة فصول: الأوَّل يتناول القصة التاريخية للوجود الإسلامي في أوروبا، والثاني يتحدَّث عن التجارة والتقنية وامتزاج العرب في العلوم والفلسفة، فيما يناقش الفصل الرابع إشكالية الحروب الصليبية وحروب الاسترداد، أما الفصل الخامس فيخصصه لمسألة العلوم والفلسفة في أوروبا، ويختم بالفصل السادس عن الإسلام والوعي الذاتي في أوروبا. 

 

انتشار الثقافة الإسلامية في أوروبا 

 

 لعل السؤال الأوَّل والأكثر أهمية الذي يطرحه واط في كتابه هو: كيف انتشرت الثقافة الإسلامية هذه في أوروبا على النحو الذي تحفظه كتب التاريخ؟ 

يُخبرنا مونتجمري واط، بأنّ نقاشات عديدة قد دارت حول العلاقة بين العناصر العربية والأوروبية في مجال الشعر، خاصة في ما يتعلَّق بالشعر البروفنسي والشعراء المتجولين. ولقد وضح التجانس في الثقافة الأندلسية في التشابه بين الشعر البروفنسي الرومانسي والشعر العربي الذي كان يلقى في بلاط الملوك، ووجود هذا التجانس مكننا من فهم أوجه التشابه والتطابق بين الشعر البروفنسي وشعر البلاط باللغة العربية. 

ويمكننا ضرب مثال أوضح بالحياة في البلاط الصقلي على انجذاب المسيحيين إلى الثقافة العربية خاصة في عهد روجر الثاني وفريدريك الثاني، وقد عاش هذان الملكان في بيئة مترفة تقارن بتلك الموجودة في قصور قرطبة، فقد ارتديا ثياب العرب، وسلكا سلوك العرب الظاهري. كما عيّن الملكان مسؤولين ومستشارين مُسلمين في القصر، ورعيا العلماء القادمين من سوريا وبغداد، وشجع فريدريك بالتحديد النقاشات العلمية والفلسفية في بلاطه، وترجم له مايكل سكوت بعض الأعمال من العربية إلى اللاتينية.

  انتقل هذا النمط المُهذب من الحياة من أسبانيا وصقلية نحو الشمال تدريجياً، كما أسهمت تجارب الصليبين في الأراضي الإسلامية في نشر الثقافة الإسلامية إلى غرب أوروبا. 

 

علوم العرب وأثرها على الأوروبيين 

 

 يبدو مونتجمري واط في هذا الإطار موضوعياً إلى أبعد حد، ذلك أنَّه عند الحديث عن إنجازات العرب في العلوم والفلسفة لابد من أن نسأل هذا السؤال: إلى متى ظل العرب مُجرد ناقلين لاكتشافات اليونان؟ وإلى أيّ مدى قاموا بإسهامات حقيقية؟ .

يطرح معظم العلماء الأوروبيين هذا الموضوع بنوع من التَّحامل ضد العرب، حتى من يمدح العرب فإنّه يفعل ذلك على كره لهم. فقد شعر البارون كارادي فو كاتب فصل "علم الفلك والرياضيات" في كتاب "تراث الإسلام" بأنّه مضطر إلى أن يبدأ كتابته بالحط من شأن العرب، فيقول: "يجب ألا نتوقع أن نجد عند العرب العبقرية المُتميزة والمخيلة العلمية والحماسة، وأصالة الفكر الموجودة عند اليونانيين، فالعرب قبل كل شيء مجرد تلاميذ لليونانيين، وتعد علومهم استمراراً لعلوم اليونانيين، حيث حفظت وصقلت، كما طورت وأتقنت في عدد من النقاط. ولكنه عقَّب لاحقاً على آخر جملة واعترف بأن : "حقق العرب أشياء عظيمة في العلوم بالفعل، فهم أوَّل من علم استخدام الأصفار، وبذلك أصبح العرب مؤسسين لعلم الحساب المستخدم في حياتنا اليومية، وهم من جعل الجبر علماً دقيقاً وطوروه إلى حد كبير، وأسسوا الهندسة التحليلية، وهم بلا منازع مؤسسو علم المثلثات المستوية والكروية، وهي علوم لم توجد عند اليونايين وكان للعرب ملاحظات قيمة في علم الفلك". 

   

بين الحروب الصليبيبة وحروب الاسترداد 

يقصد المؤلف بحروب الاسترداد، تلك الحروب التي جرت بها المقادير من أجل استرداد أسبانيا من يد المُسلمين، أما الحروب الصليبية فتاريخها واضح ومعلوم للجميع.

 يلفت واط الانتباه إلى أنّ الرأي السائد بين الكتاب الأسبان يتضمن القول بأنّ التعصب للمذهب الكاثوليكي لدى بقايا المملكة القوطية الغربية كان هو المحرك لحروب الاسترداد، ولكن لا توجد أدلة كافية لدعم هذا الرأي، إذ لم تكن مملكة أستورياس كاثوليكية، ولم تخضع للقوط قط. واستقلال هذه الولايات كان نتيجة لروح المُغامرة القومية، ورغبتها في عدم الخضوع لحكم أجنبي ولا توجد أدلة تُثبت الشعور الديني في شمال إسبانيا خلال القرنين الثامن والتاسع.

 وفي هذه الفترة تماشى المسلمون والمسيحيون واليهود بحرية، وتشاركوا ثقافة واحدة. أضعفت صلة القرابة بين المسلمين والمسيحيين تأثير الاختلافات الدينية، إلا أنّ الأفكار العلمانية الغربية طغت على الأفكار الدينية حتى نهاية القرن العاشر، وكذلك لم يفكر الناس الذين كانوا إلى جانب هذه الثقافة بأنّها دينية في جوهرها، وكذلك لم يفكر معارضوها بأنها دينية. 

قد تتناقض فكرة حروب الاسترداد مع فكرة الحروب الصليبية من ناحية العلاقة بين الأفكار، والأحداث، ففي حروب الاسترداد سبقت الأحداث الفكرة، أما في الحروب الصليبية، فقد سبقت الفكرة الأحداث، وقد لا يكون هذا التناقض واضحاً، ولكنه كافٍ لتبرير فرضية تطور الحملات الصليبية. 

وبحسب المؤلف فإنَّ من يدرس الإسلام وتاريخه سيُصدم عند النظر إلى تاريخ أوروبا في العصور الوسطى بشيئين: 

أولاً : كيف تشوهت صورة الإسلام في أوروبا بين القرنين الثاني عشر والرابع عشر، ووصلت إلى ما يُسيطر على تفكير أوروبا منذ ذلك الحين. 

ثانياً: كيف استحوذت فكرة الحملات الصليبة على القلوب والعقول في غرب أوروبا بطريقة استثنائية. 

الإسلام والوعي الذاتي في أوروبا 

هل يمكننا أن نقول شيئاً عن مجمل أهمية العلاقة بين الإسلام وأوروبا بحسب واط ؟

 

قبل الإجابة عن هذا السؤال ينبغي علينا أن نشير إلى أنّه عندما ينظر المؤرخ الإسلامي إلى أوروبا في القرون الوسطى سيلفت نظره شيئان: العمق الروحي أو الديني للحملات الصليبية، ثم كيف علقت صورة مشوهة عن الإسلام في أذهان الأوروبيين ابتداء بالقرن الثاني عشر إلى يومنا هذا، وهذه قضية تستحق وقفة خاصة. 

أدَّت الحملات الصليبية بحسب صاحب الكتاب إلى زيادة اهتمام العلماء الأوروبيين بالإسلام كدين، وقد عرفت أوروبا أشياء عن الإسلام قبل ذلك، عن طريق البيزنطيين والتواصل بين المسيحيين والمسلمين في أسبانيا، ولكن شاب هذه المعرفة معلومات مغلوطة؛ فقد اعتقد البعض هناك أنّ المسلمين وثنيون يعبدون محمداً.

على أنَّ صورة الإسلام تختلف في القرون الوسطى عن صورته في العلم الحديث غير المُتحيز في أربع نقاط أساسية هي: 

1- الإسلام دين باطل ومُحرف متعمد للحقائق. 

2- الإسلام دين انتشر بالعنف والسيف. 

3- الإسلام دين انغماس في الملذات. 

4- محمد هو المسيح الدجال. 

 

ردود واط على النقاط الأربعة 

 

يقدم واط ردوداً شافية وافية على النقاط الأربعة المتقدمة وعنده: 

1- القول بأنَّ الإسلام دين باطل، ومحرف متعمد للحقائق، أمر يعود إلى سيطرة المفاهيم التوراتية على رؤى الناس بخصوص الطبيعة والإنسان والرب في أوروبا خلال القرون الوسطى بطريقة يصعب معها إدراكهم بأنّه قد يكون هناك أساليب بديلة للتعبير عن هذه الرؤى. ولما كانت تعاليم الإسلام تختلف عن تعاليم المسيحية، فلا بد من أن يكون الإسلام باطلاً. 

2- والقول بأنَّ الإسلام دين انتشر بالعنف والسيف، مردود عليه، فالصورة الأوروبية عن الإسلام في ما يتعلّق بهذه النقطة بعيدة كل البعد عن الحقيقة، فلم يفرض الإسلام على اليهود والمسيحيين وغيرهم من أتباع الديانات الأخرى المعروفة الاختيار بين الإسلام والقتال، فقد اقتصر هذا على عبدة الأوثان، ولم يُطبق خارج الجزيرة العربية إلا قليلاً، لم تؤد النشاطات العسكرية للمُسلمين المذكورة تفاصيلها بالكامل في التاريخ، إلا إلى التوسع عسكرياً، فقد كان اعتناق الإسلام نتيجة للدعوة أو الأنشطة الاجتماعية. 

3- أما الإشارة إلى أنَّ الإسلام دين انغماس في الملذات فهو قول مغلوط شكلاً وموضوعاً، فقد كان الإسلام بالنسبة إلى الأوربيين في العصور الوسطى، دين انغماس في الملذات خاصة الجنسية، فقد كان تعدد الزوجات الموضوع الأبرز الذي أسهم في خلق هذه الصورة، وقد اعتقد الأوربيون بعدم وجود حد أقصى لعدد الزوجات التي يُمكن للرجل المسلم اتخاذها بغض النظر عن إمكانياته المادية، فالكتاب الذين كان يفترض بهم أن يعرفوا أن الحد الأقصى هو أربع زوجات، قالو إنّه سبع أو عشر زوجات، وكانت بعض آيات القرآن تترجم خطأ، لإعطائها إشارات جنسية ذميمة، على الرغم من أنّها غير مقصودة في الآية. 

4- ورابعة الأثافي كما يُقال بأن محمداً هو المسيح الدجال، إذ لم يكتف بعض الطلاب الأوروبيين ممن درسوا الإسلام بالقول إنّ القرآن يحتوي على الكثير من الباطل، وأن محمداً لم يكن نبياً، فقد أخذ بطرس المبجل فكرة بعض علماء اللاهوت اليونانيين عن أنّ الإسلام هرطقة مسيحية، وأن الإسلام أسوأ من ذلك، ويجب اعتبار المسلمين وثنيين. كان الفكر الأوربي يتمركز حول هذه النقطة بما يأتي: بما أن محمداً ليس نبياً ومع ذلك أسس ديناً فقد كان يحث على الشر قطعاً، مما جعله أداة للشيطان أو عميلاً له. وبهذا وضع الإسلام في الجانب المخالف تماماً للمسيحية. 

التقارب مع الإسلام بالنسبة إلى أوروبا 

غير أنّه وعلى مر القرون بات التساؤل المهم والذي يطرحه واط في نهاية كتابه الشيق "هل من أهمية للقفز على الماضي، وتقدير أهمية تقارب العالم المسيحي الغربي مع الإسلام" ؟ 

  يذهب واط إلى أن الشعور بالنقص الذي عاناه الأوربيون عند مواجهتهم لحضارة المسلمين يحيط بعدة جوانب كانت التقنيات في العالم الإسلامي متطورة أكثر من أوروبا، ونعم الأثرياء المسلمون بحياة مرفهة أكثر من الأوروبيين، ولكن تعد هذه أسباباً ثانوية. كان يخشى من المسلمين عسكرياً في الماضي، ولكن أثبت الفرسان الغربيون أنّهم قبل المسلمين في قوتهم، إلا أن ما قض مضاجعهم هو امتداد الحكم الإسلامي. 

شاع اعتقاد في القرن الثاني عشر أنَّ العالم ينقسم إلى ثلاثة أجزاء: آسيا وأفريقيا وأوروبا، وأن آسيا كانت مسلمة بالكامل في الأغلب، كما كانت إفريقيا في معظهما مُسلمة، بينما لم تكن أوروبا بكاملها مسيحية. وهكذا اعتقد أن ثلثي العالم مسلم. سبب شعور المسلمين الشديد بالتفوق إزعاجاً من دون شك للمسيحيين الذي احتكوا بهم. وبشكل عام كانت مشاعر الأوروبيين الغربيين تجاه الإسلام تماثل مشاعر الطبقة المحرومة في أيّ ولاية كبيرة. 

كان تشويه صورة الإسلام بين الأوروبيين ضروريًا لتعويض الشعور بالنقص، وأكبر المساهمين في هذا كان بطرس المبجل من خلال تكليفه "مجموعة طليطلة" بتلخيص العقيدة الإسلامية والرد عليها، ومن خلال ما كتبه بنفسه أيضاً. 

الخلاصة المهمة والمثيرة، بل والخطيرة التي يخرج بها المرء من قراءة كتاب واط هذا، هو أنّه قد لا يبدو مفهوم حرب النور والظلام بهذا السوء، ولكن في زمننا وما بعد الفرويدية نُدرك أنَّ الظلام المنسوب إلى الأعداء ليس إلا انعكاساً للظلام في داخل الفرد، وهكذا يمكننا من القول إنّ الصورة المشوهة للإسلام ليست إلا انعكاساً لظلام أوروبا فالعنف والرغبة الجنسية المفرطة اللذان ربطهما المسيحيون بالمسلمين كانا واقعاً بغض النظر عن عدم توافقها مع النموذج المسيحي المثالي. 

يطلق واط نداءً ربما يتعين على الأوروبيين في زمن تصاعد الإسلاموفوبيا البغيضة الاعتناء به بشكل كبير إذ يقول: إذا أخذنا في الحسبان جميع جوانب المواجهة بين الإسلام والمسيحية في العصور الوسطى فسنجد أنَّ تأثير الإسلام في العالم المسيحي الغربي أكبر مما يُعتقد، فالإسلام لم يشارك الغرب منتجاته وتقنياته واختراعاته فحسب، ولم يحفز أوروبا فكرياً في مجالات العلوم والفلسفة فقط، بل حفزها لتشكيل صورة لنفسها، وبسبب وقوف أوروبا ضد الإسلام، قللت من شأن التأثير الإسلامي، وبالغت في اعتمادها على تراث الإغريق والرومان، ولذلك مهمتنا نحن أوروبيي اليوم – حيث إننا ننتقل إلى عصر العالم الواحد – تصحيح الاعتقادات الخاطئة والاعتراف بفضل العالمين العربي والإسلامي.

--------------------------------------------------------------------

اسم الكتاب: تأثير الإسلام في أوروبا في العصور الوسطى

اسم المؤلف: وليام مونتجمري واط

دار النشر : جسور للترجمة والنشر

المترجم: سارة إبراهيم الذيب 

سنة النشر 2016

عدد الصحفات : 200 صفحة

 

أخبار ذات صلة