«الذهب الرقمي» وقصة إعادة اختراع المال

غلااااااااف.jpg

لناثانيل بوبر

مُحمَّد السالمي

يعدُّ المال إحدى الوسائل المهمة لدراسة تطور المجتمعات البشرية؛ حيث يعود تاريخ استخدامه إلى ما قبل عام 2000 ق.م. كما يُعرف المال بالمصطلح الاقتصادي على أنَّه أي شيء يمكن قبوله للحصول على سلعة أو خدمة؛ فكثير منا يأخذ مفهوم المال ويربط تفسيره بالثروة أو الراتب، ولكنَّ التفسير الاقتصادي للمال بعيد كل البعد عن هذا المفهوم؛ فهناك عدة عوامل تحدد ماهية المال، وتتضمَّن: أن يكون لديها قيمة محفوظة، ويمكن أخذها كأداة للمقايضة، وأيضا يمكن أخذها كأداة للتسعير. فإذا اجتمعت هذا العوامل في أية غرض يُكمن أن نطلق عليه مالا.. فالأموال قد تأتي على شكل سلعة، أو على هيئة عملة تصدر عن البنوك المركزية، أو الشيكات، أو بطاقات الائتمان والخصم، ووصولاً إلى البيتكوين (Bitcoinولكنَّ السؤال الكبير هو: ما الذي سيحدث بعد ذلك؟

يأتي الصحفي الشهير ناثانيل بوبر من جريدة "النيويورك تايمز" في كتابة "الذهب الرقمي" لإعطاء نظرة وافية حول تطور النقد الرقمي البيتكوين؛ فعلى الرغم من أن أول إصدار له كان في العام 2009م، إلا أنه أثار جدلاً واسعاً دولياً من حيث الاعتراف به كعملة متداولة وأيضاً لتعارضه مع بعض العوامل الثانوية للنقد المتداول. فـ"البيتكوين" هو موضوع صعب للشرح، ابتداءً من المفهوم الكامن وراء العملة الرقمية أو التشفيرية، والهوية الحقيقية للساتوشي ناكاموتو مؤسس قانون البيتكوين وصولاً للعمر القصير للتأسيس. فعلى الرغم من نشر عدة كتب وتصوير فيلم وثائقي حول هذه العملة، إلا أنَّ هذا الكتاب -حسب الخبراء- يعد الخيار الأمثل للتعرف على البيتكوين، كما يُصنف الكتاب على أنه من أفضل الكتب الاقتصادية للعام 2015 حسب المنتدى الاقتصادي العالمي وبلومبيرج ومجلة فوربس.

لو نظرنا في تطور تكنولوجيا الدفع خلال التسعينيات إلى الآن، لوجدنا مقاصد المال تحولت إلى بت الرقمية، ابتداءً من بطاقات الخصم وإلى وقت قريب استعمال أجهزة الهاتف كالـ"آي فون 6". ما نفعله حقاً هو عملية نقل المعلومات الرقمية من المتجر إلى البنك لتحدث عملية الخصم؛ فالحسابات المصرفية، وسجلات الأراضي، وشهادة ملكية السهم، والسجلات العقارية، وحقوق المؤلف وبراءات الاختراع...وغيرها من الملكيات ما هي إلى مجرد إدخالات في قائمة لتحديد من يملك ماذا. وقد تعاني هذه اللائحة من وجود بعض القيود التقليدية لمنع التزوير أو الازدواجية. حيث يجب على كيان واحد الحفاظ على القائمة، ويجب على المستخدمين أن يثقوا ويدفعوا لهذا الكيان. ونتيجة لذلك، يجب أن تسير المعاملات على نفقة وقد تحمل بعض التأخير. مثلاً، تحويل الأموال لشخص ما على الجانب الآخر من العالم، عادة ما تذهب من خلال قنوات البنوك أو الوسطاء المرخص لهم، كما تلحقها بعض الرسوم أو عمولات كبيرة، وأحيانا تحتمل التأخير.

وفي العام 2008، نشر شخص غامض يعرف بـ"ساتوشي ناكاموتو" دراسة حول إنشاء عملة تعتمد مبادلاتها على مبدأ الند للند. تتميَّز هذه العملة بقدرتها على تسهيل أنواع مبتكرة من المعاملات، وخفض التكاليف من التجار وإليهم، وذلك عن طريق الإنترنت، وتوفير حماية على خصوصية المستخدمين لهذه العملة، كما أنها خالية من أي سيطرة حكومية مركزية لها. وفي العام 2009، كان الظهور الأول للبيتكوين والتي تحمل هذه المواصفات؛ وتعرف على أنها عملة تشفيرية يتم تداولها عبر شبكة الإنترنت فقط دون وجود ملموس على أرض الواقع. على الرغم من عدم وجود مؤسسة أو هيئة تُعنى بإدارة وتنظيم تدفق هذه العملة، ولكن يمكن مقايضتها بالعملات الأخرى كالدولار واليورو، وقد تم استعمالها في عدة مواقع إلكترونية كالفيسبوك وديل وشيب إير في عمليات البيع والشراء عبر الإنترنت! وبذلك، استطاع البيتكوين تغيير قواعد تكنولوجيا النقد. واعتماداً على الطريقة التي ننظر إليها، فإن البيتكوين إما أن يكون المال التحرري في المأمن القياسي من تجاوز الحكومة، أو العملة المظلمة التي يستخدمها تجار المخدرات لغسل الأموال من خلال السوق السوداء على الإنترنت. فهذه العملة لديها بالفعل القدرة على أن يكون كل هذا وأكثر من ذلك. النقد الرقمي يُنظَر إليه على أنه في نفس المرحلة التي كان الإنترنت في العام 1993 أي قبل ظهور متصفح الويب. كما استطاع جذب اهتمام الشركات والمستثمرين والمؤسسات المختلفة مثل تايلر وكاميرون نيكلفوس، والفيسبوك ومكتب التحقيقات الفيدرالي؛ كونه استطاع توفير ثروات لا حصر لها بالنسبة للبعض، وأحكام بالسجن للآخرين.

ويشير بوبر إلى أنَّه كانت هناك مشكلة واحدة متكررة لشركات البيتكوين المبكرة والتي يفتقر لها المؤسسون، جميعهم تقريبا إما يفتقرون للمهارات اللازمة لحماية شركاتهم من المتسللين، أو إدارة الموارد البشرية لديهم. والمدهش أن البيتكوين يزدهر بشكل مطرد. الأمريكيون متخوفون قليلاً عندما يتعلق الأمر بنقل الأموال؛ هناك الكثير من الخيارات المختلفة للاستثمار، وعدد قليل من ضوابط رأس المال في الولايات المتحدة. ولكن في دول مثل الأرجنتين والصين، حيث أخذ المال خارج البلاد هي عملية مقيدة نوعا ما، ولكن مع وجود البيتكوين تصبح العملية أكثر مرونة وحيوية. الأكثر إثارة للاهتمام هو الفرق بين المنظمين الولايات المتحدة والصين: على الرغم من أن الحكومة الصينية سمحت في البداية بسوق أكثر حرية للبيتكوين من الولايات المتحدة، لكن سرعان ما جاء منع تفاعل التكنولوجيا مع أنظمة المدفوعات. أما في الولايات المتحدة، فقد ذهبت النيابة العامة للأفراد بعد استخدامهم البيتكوين لكسر القانون، ومع ذلك فإن هذه التكنولوجيا تلقى قبولا متزايدا من قبل المنظمين والنظام المالي السائد. ويوكد بوبر على زيادة استخدام العملة في العالم النامي؛ مما قد يؤدي إلى أن تحل محل بعض الشركات من أمثال ويسترن يونيون. وتعتبر ألمانيا إحدى الدول التي تعترف بتداول هذه العملة؛ وبذلك هي تفرض بعض الضرائب في الأرباح الناتجة من المتاجرة بها. وفي المقابل، هناك دول عدة صرحت بعدم شرعية العملة كبنغلاديش وماليزيا. أما الولايات المتحدة، فلم تصرح رسميًّا حول موقفها من العملة متمثلاً في البنك الفيدرالي الأمريكي. والعجب يكمن في عملية برمجية البيتكوين، والتي أثبتت قوتها ضد هجمات القرصنة حتى الآن. ويرى البعض أن هذه العملة هي التكنولوجيا الجديدة الأكثر أهمية منذ الإنترنت؛ باعتبار أن لديها القدرة على تغيير الطريقة التي نؤدي بها أعمالنا إلى البعيد الآجل.

ويقدم بوبر في كتابه عدة قصص وأخبار حول استعمال عملة البيتكوين؛ فمثلاً يقدم لنا رجل الأعمال الأرجنتيني وينسيس كاساريس، الذي يرى في البيتكوين وسيلة لإصلاح النظام المالي في بلده التي شهدت فقدان الثقة من البيزو من قبل مواطنيها. ويرى كاساريس في البيتكوين أنها وسيلة جديدة وذكية تستطيع كسر الأساليب المتبعة حاليا في تحويل الأموال حول العالم. كما قدم بوبر قصة جيد مكالب الذي قام بإنشاء موقع (Mt.GOX)؛ حيث يستطيع الناس شراء البيتكوين وبيعها دون أي فهم رموزهم الخاصة؛ وبذلك أصبح الموقع أكبر بورصة للبيتكوين في العالم. بعد ذلك قام جيد مكالب ببيع Mt.GOX لمارك كاربليس Mark Karpeles، ولكن بعد مرور سنتين انهار (Mt.GOX) وتوجه للإفلاس في العام 2014 بسبب الإدارة السيئة للموقع. ولكن Mt.GOX ليس سوى واحدة من المواضيع الغريبة التي يطرحها بوبر في تاريخ البيتكوين. يقدم الكاتب أيضاً الجانب المظلم والسلبي من هذه العملة وذلك بطرح قصة روز ألبريتش Ross Ulbricht مبتكر موقع طريق الحرير للتجارة الغير الشرعية، حيث يستطيع الناس من خلال هذا الموقع الدخول في صفقات غير قانونية مثل السلاح والمخدرات وتوفير خدمات الاغتيالات...وغيرها تحت عملة البيتكوين؛ كونها تغطي عن هوية المتعاملين ويصعب تتبعهم. أصبح طريق الحرير أكبر موقع للسوق غير المشروع عبر الإنترنت. وبعد أن تم القبض على روز ألبريتش من قبل العملاء الفيدراليين، تم الحكم عليه بالسجن مدى الحياة. فالبيتكوين في نمو، كما أن كثيرا من الناس على استعداد لتقديم تنازلات الراحة من وجود شخص آخر للتعامل أمامهم دون معوقات. حيث يكتب بوبر "إن الخيار محصور بين الأمن والمبادئ من جهة والراحة من جهة أخرى".

والحقيقة أنَّ البيتكوين لم يجلب السكينة لعالم المال؛ حيث شجعت العملة الرقمية أسوأ التجاوزات المالية؛ فقد تظهر الفقاعات في كثير من الأحيان في فئات الأصول التي لديها قصة جيدة، كما أنها تحولت لتكون ألعوبة في يد المضاربة، وسعرها في السوق في تذبذب مستمر مع عدد من التغريدات ذات الصلة. كما أنها محدودة في العرض وتواجه صعوبة في التسعير. لا يزال البيتكوين يحتفظ ببعض العاطفة؛ فهناك الرافضون، الذين يشيرون إلى استمرار المخاوف الأمنية وعدم قبول الحكومة. ومع ذلك، يشكك الاقتصاديون ما إذا كانت الأموال على أساس الأصول، سواء الذهب أو النقد الرقمي، هي في الحقيقة حلول للمشاكل المالية التي لدينا.

البيتكوين قد يكون نتاج علم الحاسوب، وبوبر يريد أن يقول لنا كل التفاصيل الماضية في كتابه، ولهذا يصبح موسوعياً في بعض الأحيان. يقدم هذا الكتاب "الذهب الرقمي" قصة مع نهاية مفتوحة وموضوعية، لأن مستقبل البيتكوين مجهول في الوقت الحالي نتيجة لعمره القصير، ولكنها غير مرضية للبعض. البيتكوين لم يعد مدفوعاً من قبل التجارة غير الشرعية والمتمثلة في طريق الحرير، أو المواقع التجارية غير المرخصة. كما أن العملة بدأت تكسب ببطء بعض الاحترام من قبل بعض القادة ورجال الأعمال، وقد تكون عملة المستقبل كما يرى البعض على الرغم من صعوبة التنبؤ. إن الكتاب هو مثال على الكتابة الجميلة جدا وتقاريره مفصلة وهي نتيجة للصحافة الحقيقية، ويذكرنا أن الحقيقة قد تكون أغرب من الخيال. إنه ليس كتابا لتعلم كيفية تشفير البيتكوين أو كيفية شرائها ولكنه يعطي تفسيراً وافياً حول العملات التشفيرية ومدى تأثيرها على المدى البعيد.

------------------------

- الكتاب: "الذهب الرقمي".

- المؤلف: ناثانيل بوبر.

- عدد الصفحات: 416 صفحة.

الناشر: Harpe - 2015.

اللغة: الإنجليزية

أخبار ذات صلة