الإرهاب والعولمة مقاربة تاريخية

غلاف الارهاب والعولمة.jpg

لجيني رافليك

سعيد بوكرامي

تنطلق الباحثة جيني رافليك من حقيقة دامغة بأنَّ الإرهاب أصبح ظاهرة عالمية وبذلك فهي لا تُسلِّط الضوء على تاريخ الإرهاب في حد ذاته، ولكنَّها تقدم مُقاربةً تحليليةً ونقديةً للروابط الوثيقة بين الإرهاب والعولمة منذ منتصف القرن التَّاسع عشر وحتى الوقت الحاضر، مُبرزة أنَّ استخدام الوقائع التاريخية والتحليل المُقارن ستمكننا من اكتشاف أنَّ أوجه الاختلافات بين الإرهاب هي فوارق شكلية وواهية؛ لأنَّ الإرهاب ينتمي إلى ثلاث فئات مُتشابهة من حيث الجوهر والمبدأ: الإرهاب المستلهم من المرجعية الثورية (مثاله الفوضويون، اليسار المُتطرف لسنوات 1970-1980...)، الإرهاب العرقي القومي (مثاله البلقان ثم أنحاء العالم جميعه مع تصفية الاستعمار...)، إرهاب الهوية، في كثير من الأحيان مصدره من الفئة الثانية (مثاله كو كلوكس كلان، النمور السود، داعش...)

ثمّ تحدد الكاتبة فيما بعد السياق التاريخي الذي ظهر فيه الإرهاب منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كما تبرز أنَّ أنواعه تتميز منذ البداية بأبعادها على الصعيد الدولي، والقومي والعالمي. ومن الوهم أن نتصور أن الإرهاب الدولي لن ينتقل تدريجياً من بعد إلى آخر من هذه الأبعاد. إن ما يُميزه منذ البداية، هو قدرته على اللعب على مستويات مختلفة.

تعود الكاتبة إلى فترة انعقاد المؤتمر الدولي الأول لمكافحة الإرهاب الفوضوي في عام 1898، حينما حاولت الدول، دون نجاح، أن توحد صفوفها لوقف التهديد الإرهابي. وإلى يومنا هذا، يبدو أنَّهم غير قادرين على تجاوز مصالحهم الفردية لتحقيق تعريف مشترك للإرهاب، وإيجاد إستراتيجية موحدة لمحاربته. وفي هذا السياق "يلعب البحث التاريخي دورًا هامًا من خلال اقتراح عودة مزدوجة تاريخية ونقدية حاسمة لمواجهة ظاهرة راهنة في مجتمعاتنا منذ أكثر من قرن ونصف " ص 5.

وتهدف المؤرخة والباحثة جيني رافليك ، المحاضرة في جامعة سيرجي بونتواز، إلى "جعل قضية الإرهاب موضوعاً مستقلاً في تاريخ العلاقات الدولية" (ص. 7). ومن هنا تجعل الإرهاب موضوعًا مشروعًا للدراسة من قبل المؤرخ، مشيرة إلى أن الموضوع لم يدخل بعد إلى حيز الاهتمامات الأكاديمية في الجامعة الفرنسية، حيث ينظر إليه على أنه ظاهرة يصعب الإلمام بها بدقة، كما يعد من الأحداث التي تتجدد باستمرار ولا تتوقف عن ارتداء أثواب ملتبسة؛ لهذا السبب تؤكد الكاتبة أننا نحتاج لترسيخ دراسة الإرهاب في الحقل الذي سيكون على الأرجح مناسبًا لاستعادة الخصائص الأساسية لتطوره منذ القرن التاسع عشر، وهو "تاريخ العلاقات الدولية"، من أجل تقديم صور مُتعددة عن تدويل هذه الظاهرة منذ قرن ونصف القرن.

تلح الكاتبة على شرعية مشروعها الدراسي، فتخصص الفصل الثاني من الكتاب، لمجموعة من الانتقادات للدراسات التي تناولت مفهوم الإرهاب التي تعوزها المرجعية الكافية وفي هذا السياق تُندد بـ "تفوق" (ص. 44) الأعمال الأنجلو أمريكية على دراسة الإرهاب، وتتحدث جيني عن "استيلائهم" على الأبحاث (ص 46) التي من شأنها أن تُقدم معرفة جيدة في هذا المجال. وتلح الكاتبة على ضرورة التأكيد على دور المؤرخ ومهمته التي تتمثل في "استبدال الظواهر في الوقت المُناسب، وأحياناً لفترة طويلة، وأن يُنجز مقارنات بين المجتمعات والعصور المختلفة" (ص 50). تقترح جيني رافليك تقاطعًا بين مقاربة جنيالوجيا الإرهاب مع فهم لدينامية العلاقات الدولية في العصر الحديث (من القرن التاسع عشر إلى القرن الحادي والعشرين)، مع التركيز على الصعود القوي لظاهرة العولمة عامة والعولمة الاقتصادية خاصة.

تعترف الكاتبة بأنّ هناك صعوبتين تحيطان بمفهوم الإرهاب. الأولى تتعلق باستحالته تقريبًا، ويشار إليه بشكل مُنتظم، منذ دخوله الأول إلى قاموس الليتري (1860-1876) ثم في القاموس العالمي الكبير لبيير لاروس (1863-1876)، إلى غاية اتفاقيات القانون الدولي والأوروبي الأخيرة، التي بينت جميعها عدم القدرة على الإمساك بمفهومه وتحديده. أما الصعوبة الثانية فتكمن في رغبة البعض أن يجعل الإرهابيين ضحايا سياسة داخلية وخارجية ثم وضعهم في جبهة المقاومة وبالتالي تورط هؤلاء فيما بعد في قضايا تمويل الإرهاب. هذا التناقض في التوصيف يفتح الباب أمام أسئلة عديدة حول شرعية استخدام مصطلح الإرهاب في بعض القضايا السياسية والعاطفية العالقة ذات الطابع الاستعماري.

ونتيجة لذلك تؤكد الكاتبة أن الإرهاب دائمًا ذو طابع "سياسي"، فتقدم المؤلفة اثنين من أبرز التعريفات: )الإرهاب يؤكد نفسه بأنّه "مشروع سياسي على المدى الطويل" ويتميز بـ" استخدام العنف الشديد، الذي يعتبره الإرهابي فعلاً مشروعًا( ص 41

تاريخياً، الإرهاب الدولي ومكافحة الإرهاب، هو نتيجة للعلاقات الدولية المعاصرة، وتأكد ذلك بالتوازي مع بناء الدولة الوطنية في أوروبا. إن دراسة وصفية للإرهاب المعاصر، تدفعنا إلى تأمل ثلاث صور متلازمة. أولها أن الإرهاب الذي سمي بـ "القومية" ويتحدد في المطالبة بإطار جغرافي وطني لكن وفقا لمنطق دولي وقومي، وظهر هذا التوجه منذ أواخر القرن التاسع عشر (ص 67). أما ثانيها فهو الإرهاب "الفوضوي"، الذي نشط منذ 1870 إلى 1930 والذي تميز بالاستخدام التدريجي لـ"دعاية الفعل" بحيث عمل بمنطق التدويل ليظهر حركته ذات طابع أممي. أما الصورة الثالثة فيمثلها إرهاب الهوية الملقب بـ"الإرهاب التوفيقي" الذي ظهر منذ 1970، واستمر إلى يومنا مع الإرهاب الإسلامي، الذي توحد وتقوى على ازدراء وكراهية الديمقراطيات الغربية (ص 85). ونتيجة لتدويل الإرهاب ظهر ما يسمى بـ "الإرهاب الدولي"، لكن نتائج البحث حول المفهوم كانت هزيلة وترد الكاتبة السبب، لعدم وجود تعريف متفق عليه دولياً حول الإرهاب. وبالرجوع إلى أوَّل الجهود لمكافحة الإرهاب الدولي منذ مؤتمر روما في عام 1898، المخصص لمحاربة حركة الفوضويين والذي أظهر رغبة في التنسيق والتعاون، لكنه لم يتحقق على أرض الواقع والسبب يعود إلى المصالح الوطنية التي تتسيّد على محاربة الإرهاب مما أدى اليوم إلى تفاقم مواجهة الإرهاب الدولي. تقدم الكاتبة مثالاً بالحلف المقدس الذي جاء بعد 11 سبتمبر 2001 الذي لم يكن سوى "قوس" أغلق بسرعة بعد مغامرة غزو العراق في عام 2003. ومن هنا تفحص الكاتبة قضية الإرهاب انطلاقاً من نظريتين للعلاقات الدولية الرئيسية المقترحة في عام 1990، أولها "نهاية التاريخ" لفرانسيس فوكوياما والثانية "صراع الحضارات" لصمويل هنتنغتون، كي تظهر كيف تحطمت هذه الأفكار مع حدث تاريخي غير العالم ما بعد يوم 11 سبتمبر عام 2001. ولتفنيد مزاعمهما تستعمل جيني رافليك مجموعة من المقابلات التي أجراها يورغن هابرماس وجاك دريدا باللغة الفرنسية بعنوان "مفهوم 11 سبتمبر" في محاولة لفتح طريق جديدة بين التفسيرات النموذجية الصادرة عن اثنين من علماء السياسة الأمريكيين، والتي ظهر أنها استنتاجات تنبؤية خاطئة من خلال الحدث نفسه وما تلاه من نتائج عن المغامرة العسكرية الأمريكية، والتي يمكن استخدامها على نحو أدق كمعيار يُفسر الحالة الراهنة للعالم. يمكن القول إنَّ جوهر الكتاب يكمن في المواجهة بين المنطق الدولي للإرهاب ومنطق العولمة وهذا سيفضي إلى المساءلة حول الحدود الوطنية وإعادة تحديد مفهوم الإقليمي، الذي أدى إلى توزيع غير عادل للثروة، والهيمنة التقنية والتكنولوجية التي تمنح الامتياز والاحتكار لشعوب دون أخرى. والنتيجة الطبيعية ظهور عولمة مبكرة، وعلى دربها استمر الإرهاب في تجاوز الحدود، مقدما منطقاً "لاستعادة" الفضاء ووضع الخطط والتغلغل في مواقع محددة في منطقة ما، سواء كان ذلك بالطريقة العملية أو بتكتيكات حرب العصابات سواء في المدن أو البوادي أو من خلال إعداد معسكرات وقاعدة عمليات للتخطيط لهجمات محتملة، وإعادة تشكيل البيانات التقليدية للدولة/ الأمة. وظهر أنَّ هناك روابط وثيقة بين المنظمات الإرهابية عبر العالم في مظهرها "الأيديولوجي والمادي والعملي" (ص 157). وعلاوة على ذلك، فإن منطق الإرهاب يقترح استعادة الاستقلال والدعوة إلى تجاوز المنطق الجغرافي التقليدي لخلق سيادة جديدة، بحيث يُمكن عبر الحدود الوطنية، توحيد الأمة (ص 164) لتصبح - جماعة المؤمنين المسلمين – المصطلح الذي يفضله الإرهاب الإسلامي. ولتحقيق هذه المرامي سيستخدم فكرة أنَّ العولمة العامل الأساسي للامساواة في العالم، لتكون العامل الحاسم للاستقطاب وتوطيد الكراهية وأيضًا مبررا للعنف في عصر ما بعد الاستعمار. ومن خلال الإحصائيات والتقارير فإنَّ العلاقة بين الإرهاب والفقر حاسمة ويظهر ذلك في الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية المتردية للأسر التي ينحدر منها الإرهابيون. وتذهب جيني رافليك إلى تحديد الصورة النمطية للإرهابي كنتيجة للامساواة التي أفرزتها العولمة الاقتصادية. )ص 209( .

في الفصل ما قبل الأخير تدرس الكاتبة ما سمّي بـ"الخيار الصعب" (ص 298) ما بين الأمن والحرية، بين الحرب وتدابير الشرطة، وبين الأحكام التشريعية العادية والاستثنائية في قلب سياسات مكافحة الإرهاب. مع تسليط الضوء على المزايا المزعجة لديمقراطية التطبيع التدريجي لأجهزة الدولة من أجل تكريس منطق الاستثناء الأمني. وتشير الكاتبة إلى أنَّ هذا ساهم في سيطرة الدولة وإضعاف المجتمع المدني، إذ أصبح ما يفصل بين الديمقراطيات والأنظمة الاستبدادية خيط رفيع لا يمكن تبينه (ص 309). وأخيراً تتساءل في الفصل الأخير على ضوء التاريخ عن فاعلية الإرهاب كوسيلة من وسائل العمل هدفها التوصل إلى تحقيق بعض المرامي السياسية، داعية إلى الأخذ بعين الاعتبار عامل الزمن الطويل خلال تحليل سياقات أعماله في" تقدير نجاح "للإرهاب أو فشله (ص 345). في الواقع، لم تتحقق الأهداف المنوطة فقط بواسطة أعمال الإرهاب نفسها، ولكن احتاج الأمر إلى إستراتيجيات أخرى للتعبئة التي تندرج ضمن أطر زمنية محددة (ص 341). قد يتعلق الأمر بإستراتيجية إعلامية نظرًا لطبيعة الأفعال المهولة التي اقترفها الإرهاب بأشكال مختلفة وبطرق جريئة.

تبين جيني رافليك أنَّ هناك استمرارية ربما أكثر من الانقطاع بين الحرب الباردة والإرهاب الإسلامي الحالي، على الرغم من البُعد الديني الحاضر في كل مكان في ما يعرف بـ "إرهاب الهوية " السؤال الذي تطرحه الكاتبة في استنتاجها لماذا الفكرة المقولبة التي تسيطر على ذهنية الإرهابيين هي: "الجهاد في سبيل الله" التي حلت في جميع أنحاء العالم، وبشكل حصري تقريباً، محل الشعب - سواء كان بروليتاريا أو يجسد هوية وطنية - في الدوافع الإرهابية؟ ولماذا أصبح التطرف الديني - وليس فقط عند المُسلمين- التعبير الوحيد عن ثقافة مضادة بالنسبة للأفراد الذين لم يجدوا في الآيديولوجيات العلمانية فرصة للتعبير عن رفضهم للعالم؟.

"تشهد الرهانات العالمية، وشبكة الإنترنت، والبعد التنظيمي، والدعم العاطفي المُتشدد المتواجد وبشكل أخطر ضمن الجاليات المسلمة في الغرب، أن الإرهاب يرافق ويجسد صيرورة العولمة وإجراءاتها في المعاملة "(ص 363). تنهي جيني رافليك كتابها بالتأكيد على فكرة أن الإرهاب هو شكل من أشكال صراع العولمة، المبدأ الجديد للهيكلة الدولية. لكن المفارقة الصارخة، أنَّ هذه الفوضى أنتجت أيضاً نظامًا جديداً من خلال عودة الدولة مرة أخرى إلى المنطق الإقليمي ومراقبة الحدود والاقتصاد، ورصد تدفقات رؤوس الأموال، والتَّحولات الاجتماعية؛ مما ساهم في التضييق على الحريات وارتهان الديمقراطية.  يبدو في الختام أن الكاتبة سعت إلى جعل الإرهاب موضوعًا تاريخياً، فوضعته في سياق تاريخ العلاقات الدولية، متسائلة عن علاقته بالعولمة وهي بذلك تحاول وضع أسس منهجية لمقاربة جديدة لهذا الموضوع الشائك، لكن ما سقطت فيه الكاتبة أنّها خلطت بين الحركات التحررية مثل المُنظمات الفلسطينية التي كانت تسعى لتصفية احتلال وليس إلى تخريب دولة. وهذا التحريف التاريخي في مقاربة القضية الفلسطينية يلازم عددًا من الدراسات التي تناولت موضوع الإرهاب، إذ تجعل من الإرهاب الديني المقرون بالإسلام امتدادا للمقاومة الفلسطينية وهذه مغالطة معرفية لا تغتفر للدارسين للعلاقات الدولية إذ تدل على استسهال للموضوع وقصور في المرجعية على اختلاف أنواعها ومشاربها.

---------------------------------------

عنوان الكتاب: الإرهاب والعولمة: مقاربة تاريخية

المؤلفة: جيني رافليك

الناشر: دار غاليمار. فرنسا

السنة : 2016

اللغة: الفرنسية

عدد الصفحات: 408

 

أخبار ذات صلة