أزمة بناء الدولة العربية المعاصرة

N13520375A_1.jpg

هيثم مزاحم

 يتناول هذا الكتاب إحدى أهم الإشكاليات السياسية التي واجهها العالم العربي‏ في ظروفه المُعاصرة بعامة، ونظمه السياسية بخاصة، منذ الحرب العالمية الثانية، وخلال المرحلة التاريخية التي رافقت بناء نموذج الدولة العربية المعاصرة. وهي إشكالية الإصلاح وبناء الدولة العربية المعاصرة. هي إشكالية وطنيـة وقوميـة ودوليـة في آنٍ معاً، وهي قضية آنية مُلحة بقدر ما هي قضية مُسـتقبلية، بالنسبة إلى الدولة والنظام السياسـي‏ والمصالح القومية العليا.  

يتضمن الكتاب ثلاثة فصول إلى جانب الخلاصة التنفيذية والمقدمة والتوصيات. الفصل الأول بعنوان: "مُقدمات الإصلاح في العالم العربي"، والفصل الثاني: "النظام العربي والنظام الدولي الجديد: الإصلاح وإستراتيجية المصالح الدولية"، والفصل الثالث: "الأبعاد الإستراتيجية للإصلاح في العالم العربي ودورها في التكامل العربي العالمي".

تقول المؤلفة عباس إنّ حصيلة التجارب النظرية والعملية الإصلاحية في العالم العربي تشير إلى أنّ أغلب الإشكاليات الكبرى التي تناولها فكر النهضة، وبالأخص ما يتعلق منها بالنظام السياسي الأمثل، قد ظلت دون حلول جذرية، بل إن العالم العربي لم يفلح حتى الآن في تأسيس نظم سياسية قادرة على مواجهة التحديات التاريخية الكبرى للعالم المعاصر، كما لم يستطع تذليل الهوة بينه وبين العالم الصناعي المتطور، بل على العكس فإنّ الفجوة في ازدياد مستمر، مما يعني أّنه لم يزل في ''عالم ثالث'' أو أدنى منه. 

وترى عباس أن المشاريع المقدمة من قبل مختلف القوى العالمية للإصلاح السياسي في العالم العربي لم تعد قضايا نظرية بحتة، بقدر ما أصبحت تلامس الأبعاد الوجودية للدولة نفسها. فالأزمة البنيوية الشاملة للدولة العربية الحديثة لم تعُد خافية على العيان، كما أنّ تفاقمها أصبح يُهدد كَل جوانب الأمن الحيوية للدولة والمجتمع والقومية.  

مفهوم الأزمة وجذورها

تذهب الباحثة عباس إلى أن إحدى الإشكاليات النظرية المعقدة لأزمة بناء الدولة العربية وطابعها المفارق يقوم في أنها حالة واقعية، وكثيرة التردد في الفكر السياسي والإعلام، إلا أنها الأكثر تعقيداً بالنسبة للتحديد العلمي الدقيق. بمعنى أننا نقف أمام حالة الوصف المتنوع والمتعدد لمظاهرها، بينما تندر الصياغة الدقيقة لمضمونها بشكل عام والسياسي بشكل خاص. 

ورغم تعدد التعاريف التي تناولت ماهية الأزمة، إلا أنها تشترك في الفكرة العامة القائلة، بأنّ الأزمة تنشأ من رفض أطراف الصراع الواقع القائم، ورغبة كل طرف في تغييره لصالحه. وقد دَرَج المتخصصون في إدارة الأزمات على تعريفها بأنّها ''لحظة حرجة وحاسمة، وقد تكون مفاجئة تواجه صانع القرار، ويتوقف على كيفية التعامل معها سلامة الكيان الذي أصابته الأزمة'' ، في حين عرّف أوران يونغ الأزمة بأنها ''أحداث سريعة تؤدي إلى زيادة عدم الاستقرار في النظام القائم إلى درجة غير عادية تزيد من احتمال استخدام العنف''.

ويذهب كورال بيل في تعريفها إلى أنها ''ارتفاع الصراعات إلى مستوى يهدد بتغيير طبيعة العلاقات بين الدول. أما مايل بريتشر فيعرفها بأنها ''مجموعة التفاعلات المتعاقبة بين دولتين أو أكثر تعيش حالة صراع يصل أحياناً إلى احتمال عالٍ لنشوب الحرب ووقوعها، وفيها يواجه صاحب القرار موقفاً يهدد المصالح العليا للوطن، ويتطلب وقتاً قصيرا للتعامل مع هذا الموقف باتخاذ قرارات جوهرية''.

تصب هذه التعريفات في اتجاه تحديد ماهية الأزمة في العلاقات الدولية، بمعنى أنها تشير إلى الحالة المميزة لاحتدام الصراع والمواجهة التي تنذر بعواقب تمس العلاقة بين الدول لكنها لا تمس مضمون الأزمة المرافقة لبنية الدولة. فالدولة هي جهاز أكثر تعقيداً من نوعية العلاقات بين الدول، وذلك بفعل طابعها المركب. فهي الكيان الحاوي لكل مكونات النظام والمجتمع والثقافة، بمعنى أنها الكيان الذي يحوي في ذاته الماضي والحاضر والمُستقبل في كافة المستويات والميادين. 

وتعتبر عباس أنّ الأزمة التي تعانيها الأنظمة العربية ليست حديثة العهد، إذ يربطها البعض بظروف ومعطيات نشأة الدولة العربية الحديثة كما هي، ومن ثم بطبيعة النخب السياسية الحاكمة بعد الاستقلال، والتي يرجعها البعض الآخر إلى ما قبل ذلك.

وترى الباحثة أن هناك إجماعاً نسبياً عند أغلب الباحثين على صياغة بعض المفاهيم التي تصور طبيعة الدولة العربية الحديثة ونوعيتها. ومن خلال هذه المفاهيم جرت محاولات كشف طبيعة أزمتها السياسية. ولعل أكثرها انتشارا هي مفاهيم الدولة التسلطية، والدولة التابعة أو الاستتباعية والدولة الريعية، والدولة الرخوة، ودولة ما بعد الاستعمار، والدولة الأبوية، والدولة البيروقراطية، وغيرها. يقسم الباحثون تاريخ الدولة العربية الحديثة إلى ثلاث مراحل كبرى. المرحلة الأولى هي مرحلة التكون والنشوء، ومن ثم بداية أزماتها. أما الثانية والثالثة فهي مجرد استكمال واستفحال تفاقُمها اللاحق.

في المرحلة الأولى، ركز الباحثون على دراسة ظروف نشأة الدولة العربية، وتحديد أبرز العوامل التي أثّرت بشكل مباشر أو غير مُباشر في عملية تشكّلها. يذهب أصحاب التيار الأول في تفسير نشأة الدولة، بوصفها كياناً سياسياً، صنعه الاستعمار، باعتباره القوة التي رسمت حدودها وصنعت مؤسساتها بعد تجزئتها بالشكل الذي يخدم مصالحها وأهدافها، دون الأخذ بنظر الاعتبار حقائق الجغرافيا والتاريخ. وهو ما جعل الدولة ثمرة هجينة تمثل في شكلها الخارجي سيادة الثقافة السياسية الأوروبية الحديثة. أما مضمونها فلا يزال مطبوعاً بصبغة محلية، وهو ما يعني أنّ السبب الأساسي للأزمة العربية يعود إلى التناقض بين شكل الدولة العربية (الذي هو من صنع الاستعمار)، وبين محتواها ومضمونها المحلي.

أما التيار الثاني فيذهب إلى أنّ أغلب الدول العربية الموجودة حالياً لها جذورها السابقة على مرحلة ما قبل الاستعمار الأوروبي في المنطقة. يقول الباحث إيليا حريق إن إلقاء ''نظرة سريعة على تاريخ الدول العربية القائمة حالياً يدل بوضوح على أنها دول قديمة إضافة إلى كونها مجتمعات قديمة. وكانت هذه الدول في مراحلها الأولى تقليدية دون شك، إنما هذا لا يعني أن ننكر عليها كيانها السياسي''. ويوضح حريق  أن ''خمس عشرة دولة من الدول العربية الحالية قد ظهرت تدريجياً كحصيلة لعوامل داخلية أصيلة لا علاقة لها بالاستعمار، ومعظمها سابق لظاهرة الاستعمار الأوروبي في منطقتنا. معظم تلك الدول كانت ذات أصل محلي، وتتمتع بشرعية مسلّم بها في المجتمع القائمة فيه. كما كان لكل من تلك الدول حدود جغرافية، أو على الأقل نواة جغرافية تشكّل قاعدة حكمها'' مثل مصر وتونس والجزائر والمغرب. 

ولا ينفي في المقابل أنصار هذا الاتجاه أن هناك دولاً عربية أخرى نشأت نتيجة للخطط والسياسات الاستعمارية. ومن ثم لا ترتبط أسباب نشأتها بمعطيات تاريخية محلية، كما هو الحال بالنسبة لسوريا والعراق ولبنان وفلسطين والأردن.

وترى عباس أن هذه العوامل المتعلقة بنشأة الدولة العربية الحديثة قد حددت خصوصية مشاكلها الذاتية، وذلك لأنّ إقامة الدولة العربية الحديثة، ورسم حدودها الجغرافية كان في الأغلب نتاجاً للسياسة الاستعمارية للغرب الكولونيالي. وبالتالي لم تتسق مع معطيات التاريخ والجغرافيا والثقافة والاجتماع. وفي هذا يكمن الكثير من الأسباب والمقدمات التي جعلت منها بناءً يحتوي في ذاته، برغم ظهورها المستقل، على العديد من المشكلات الداخلية والإقليمية. ومن بين أهم هذه المشكلات مشكلة الاندماج الوطني والإقليمي والاجتماعي داخل الدولة الواحدة، إضافًة إلى مشكلات نقص الموارد الطبيعية والبشرية، وأخيراً المشكلات المفتعلة ''للحدود'' العربية – العربية، والعربية – غير العربية.

 

تطور الأزمة البنيوية خلال مرحلة ما بعد الاستقلال

ركزت بعض الدراسات على تقويم ممارسات وإنجازات الدولة في مرحلة ما بعد استقلالها، من خلال تحليل مصدر وأبعاد الأزمة التي تعانيها في الوقت الراهن. وتوصلت إلى أنّ الأزمة البنيوية التي تعانيها الدولة العربية الحديثة، هي النتيجة الطبيعية لتفاقم المشكلات التي ورثتها عن مرحلة ما قبل الاستقلال من جهة، وتزايد حدة المشكلات التي نجمت عن التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي حدثت في مرحلة ما بعد استقلالها من جهة أخرى. وترى عباس أنه لا يغيّر من حقيقة هذا الاستنتاج تفاوت حدة الأزمات وخطورتها من دولة لأخرى.

وتشترك الآراء المختلفة بصدد طبيعة وتاريخ الأزمة البنيوية في الدولة العربية الحديثة، في الاتفاق على تقرير العجز الفعلي للدولة العربية الحديثة عن صياغة وتنفيذ سياسة واقعية وعقلانية وفعالة لتذليل أزماتها. وهي أزمات ازدادت حدتها وتأثيرها المتنوع على خلفية الضعف الهيكلي للدولة ومؤسساتها، وتعدد مصادر الخلافات والصراعات العربية – العربية، وزيادة الضغوط والتدخل الأجنبي في الشؤون الداخلية للدول العربية.

وتعتبر الباحثة أنَّ الطابع المركب للأزمة البنيوية في الدولة العربية الحديثة يقوم أيضاً على استمرار مصادر الأزمة وتعميقها وتوسيع مداها، مشيرة إلى أن هناك إجماعاً آخذاً في النمو لدى الباحثين على أهمية مشكلات الهوية، وأزمة التكامل السياسي والاجتماعي، والأزمة الاقتصادية، وأزمة الشرعية، إضافَة إلى مختلف مصادر توسيع وتعميق الأزمات بسبب العوامل الإقليمية والدولية.

 

مظاهر الأزمة البنيوية في الدولة العربية المعاصرة

ترى عباس أن الأزمة التي تعانيها الدولة العربية أزمة مركبة، أي معقدة ومتنوعة المستويات، بحيث اتخذت فيها صيغة الأزمة المنظومية. وهو الأمر الذي يجعل من دراسة مظاهر الأزمة البنيوية في الدولة العربية المعاصرة قضية غاية في الأهمية من الناحيتين النظرية والعملية، من أجل تأسيس بديل واقعي وعقلاني لأزمتها الحالية، ومن ثم إمكانية اشتراكها الفعال في التكامل العربي من جهة، وفي تحديات الصراع العالمي المعاصر من جهة أخرى.

 ومن بين أهم هذه المظاهر المؤثرة بصورة مباشرة وغير مباشرة على نوعية نشاط الدولة، ومستوى إدارتها للأزمة الداخلية، وعلاقتها بالعالم الخارجي، تجدر الإشارة إلى قضايا الشرعية والبناء المؤسسي، والعلاقة المتبادلة مع المجتمع، ونمط الإدارة العامة والخاصة لمختلف جوانب الحياة الهامة في المجتمع، وأخيراً طبيعة علاقتها بالعالم الخارجي ومستوى اندماجها فيه، ونوعية تمثيلها للمصالح الوطنية والقومية. 

وتحدد الباحثة سبعة مظاهر كبرى لأزمة الدولة العربية الحديثة هي:

أولاً: ضعف مصادر الشرعية وإشكالاتها السياسية، إذ تُعدُّ أزمة الشرعية من أهم وأعمق وأخطر الأزمات التي تعاني منها الدولة العربية المعاصرة. وليس اعتباطاً أن تنمو وتتراكم مختلف نماذج الولاء الجزئي والتقليدي، بمعنى تنامي ذهنية الولاء الفردي والاجتماعي لكيانات ما قبل الدولة، مثل الانتماء الجهوي والطائفي والقبلي والديني. فهي مظاهر تشير من الناحية العامة إلى وجود خلل في شرعية الدولة العربية الحديثة. فهذه الأزمة تشمل كلاً من النظام السياسي والدولة وهي تجد تعبيرها في نمو مختلف مظاهر الاحتجاج تجاهها من السلمي إلى العنيف.

وثمَّة اتجاه يرى أن ضعف الشرعية مرتبط أساساً بظروف نشأة الدولة العربية المعاصرة ذاتها. في حين يذهب اتجاه آخر إلى أنّ السبب الرئيس يعود إلى عجز الدولة العربية عن أن تكون وعاءً لسياسة تعكس المصالح الوطنية العامة، وكذلك عجزها عن إشاعة مفهوم الدولة الديمقراطية والقانونية، كإطار لتنمية مفهوم المواطنة، وتجاوز مختلف أصناف الولاء الجزئي والتقليدي إلى مصاف الولاء للدولة والقانون. وذلك يعود إلى إخفاقها في تحقيق الاندماج السياسي والاجتماعي والتنمية الاقتصادية والعدالة في توزيع الثروة والسلطة.

وقد توصلت إحدى الدراسات إلى أنّ ما تشترك فيه الدول العربية، ولو بدرجات مختلفة، هو تشرذم أساسها الاجتماعي واغترابها، بسبب وجود عجز في الشرعية السياسية، والأساس الأبوي للسلطة السياسية. وخلصت إلى أن أزمة الدولة العربية الحديثة تتعدى نظامها السياسي إلى نمط علاقاتها الاجتماعية القائمة على ثقافة سياسية أبوية.

ثانياً: ضعف البناء المؤسسي للدولة

تستمد مظاهر ضعف الشرعية أصولها من الضعف التاريخي الذي لازم ظهور الدولة العربية الحديثة. كما أنها تمده بطاقة جديدة. بمعنى أننا نقف أمام تداخل مركب لأزمة الشرعية والضعف البنيوي لمؤسساتها. إذ لم تستطع الدولة العربية الحديثة استكمال مقوماتها، سواء فيما يتعلق ببنائها المؤسسي، أو باستقلالها الذاتي عن شخص الحاكم، أيّاً كانت صفته وطريقة وصوله إلى السلطة. وهو الأمر الذي لعب دوراً هاماً في عرقلة استقرار مفهومها كدولة في الوعي الاجتماعي، وثباته في الوعي السياسي، وقانونيته في الوعي الحقوقي.

لقد أدى عدم استكمال البناء المؤسسي للدولة العربية الحديثة، إلى ظهور إشكاليات عدة على مختلف الأصعدة، يأتي في مقدمتها تحول الدولة إلى وسيلة وأداة لضمان استمرار الأنظمة الحالية دون تغير ولا تبدل. بمعنى انعدام إمكانية التداول الحر والديمقراطي والاجتماعي للسلطة، مما أدى إلى تحجر أنماط تقليدية، مثل الحكم العائلي والقبلي والديني، أو الديمقراطي الشكلي. وليس مصادفةً أن يتحول القمع السافر والمبطن، وانعدام أبسط مقومات الحرية السياسية والاجتماعية، إلى الأسلوب الوحيد والفعال في ضمان استمرار واستقرار الأنظمة الحاكمة. وهو ما ذهب إليه محمد جابر الأنصاري بأن حالة التشوه التي شابت نمو الدولة العربية الحديثة، إنما تعود إلى عدم معرفتها الفصل أو الحدود بين السلطة والدولة خلال صيرورة تكوّنها ونموها التاريخي. بل ذهب إلى أن الدولة العربية لم تقم بدور الحاضنة للسلطة كما يفترض وينبغي، بل مارست السلطة دور الحاضنة للدولة. وهو ما يعني أنّ القضاء على هذه الحاضنة يتضمن بداخله تهديد وليدها بالخطر وربما بالموت.

ثالثاً: ضعف وهشاشة الدولة

ينقسم نموذج الدولة العربية الحديثة، لاسيّما خلال النصف الثاني من القرن العشرين إلى قسمين:

­ الأول:  الشكل الخارجي لهذا النموذج، وأبرز معالمه التضخم الكبير في أجهزة الدولة أفقياً وعمودياً وكذلك ازدياد عدد العاملين فيها، وضخامة إنفاقها العام، وتوسع الدور الذي تمارسه على صعيد الاقتصاد والمجتمع.

­ الثاني: يتعلق بالمضمون الداخلي لهذا النموذج، الذي يتصف بالضعف والهشاشة في أدائها العام والخاص تجاه الدولة والمجتمع. ولعل أهم مظاهره هو عجز الدولة عن إرساء أسس العلاقة الطبيعية مع المجتمع على أرضية الشرعية والقانون. وبالتالي عجزها عن إدارة وتعبئة مواردها بفاعلية واتخاذ وتنفيذ السياسات السليمة لمواجهة المشكلات الداخلية والتحديات الخارجية. أما النتيجة فهي عدم قدرتها على تحقيق الاستقلال الوطني الفعلي والدفاع عنه، ومن ثم الحد من تبعيتها للعالم الخارجي، إضافًة إلى فشلها في تحقيق إجماع وطني واجتماعي وسياسي. 

تخلص عباس إلى أن المفارقة الكبيرة التي تظهر بين تضخم أجهزة الدولة العربية الحديثة، وتطاول دورها في الاقتصاد والمجتمع من جهة، وضعف أدائها في مختلف ميادين الحياة العامة من جهة أخرى، تعكس حالة الاغتراب الفعلي بين شكل الدولة ومضمونها، ما يفسّر تدني إنجازاتها، في قضايا العدالة الاجتماعية والديمقراطية السياسية والتنمية الاقتصادية والتقدم العلمي والاستقلال الوطني والوحدة، وضعف شرعيتها المحلية والدولية. 

 

استشراء الفساد السياسي والإداري

إن ما يميز ظاهرة الفساد السياسي والإداري في الدولة العربية الحديثة، هو أّنها أصبحت جزءاً من بنية النظام السياسي نفسه، وتأطره بآلية خاصة به، ترتقي إلى مصاف ''المؤسسة'' القائمة بذاتها، وتحولها إلى قوة سياسية واجتماعية وأخلاقية فاعلة تمارس ضغوطها المباشرة وغير المباشرة على الدولة ومؤسساتها والمجتمع وقواه السياسية. إن الآثار السلبية المترتبة على انتشار هذه الظاهرة كثيرة، أهمها هو إفشال التراكم التنموي الحقيقي والفعال وتوقف أو تراجع المشاريع التنموية، أو فشلها في تحقيق الأهداف التي أنشئت من أجلها. وعليه، تشير الكثير من الدراسات السياسية والسوسيولوجية إلى أنّ فشل مشاريع التنمية العربية هو أحد الأسباب الجوهرية في صنع بيئة ملائمة لتنامي ظواهر التطرف والعنف والجريمة. 

وتخلص الباحثة إلى أن الأزمة البنيوية الشاملة في الدول العربية الحديثة قد بلغت ذروتها وتحولت إلى أحد المصادر المؤثرة في استثارة العنف الداخلي والخارجي. بعبارة أخرى ،إنّ ''تصدير العنف'' للخارج، الذي أخذ يتجسد بمختلف مظاهر الإرهاب ليس إلا الوجه الآخر لمظاهر هذه الأزمة.  

----------------------------------

الكتاب: أزمة بناء الدولة العربية المعاصرة

المؤلف: د. أشواق عباس

الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية  - بيروت – 2016

 

أخبار ذات صلة