كالإنسان.. الإسلام ابن بيئته

فاطمة بنت ناصر

ما الذي كان موجوداً عند قدوم الإسلام على جزيرة العرب، وما الذي كان مفقوداً حينها؟.. في المجتمع آنذاك كانت القبائل: قوام المجتمع، قوته ويد قوته. بكل ما بها من عصبيات مُتناحرة، وأخرى مُتعاضدة، وكلها يجمعها المصالح المشتركة. جاءت الدعوة المحمدية التي أسندتْ لمن ليس له سند، وزادت صاحب القدر قدراً. فحين نتكلم عن الدين والقبيلة، نحن في الواقع لا نتكلم عن جدلية كما وصفها الباحث التونسي مُحمَّد بن موسى حسن في مقال "القبيلة والدين في الدراسات التاريخية الأنثروبولوجية"، والذي سنتطرق إليه بالتفصيل في القادم. ولكن أظن أنَّ "الجدلية" فرضية مُحدثة لواقع مُتحضر، إلا أنَّ الماضي بحضريته المحدودة لم يكن ليرى هذا الجدل. بل إنَّ العلاقة حينها كانت كما أراها أقرب إلى "التكاملية" التي سندت فيه المكونات بعضها البعض. رغم تركيز الباحث على دور القبيلة في الحيز الذي يعرفه وينتمي إليه ألا وهو أرض المغرب العربي، فإنَّ للقبائل سماتًا مُشتركة تتقاطع مع غيرها؛ حيث إنَّ أسباب نشأتها واحدة ولو اختلفت أماكنها. كما أنَّ دورها عند قدوم الإسلام وفي التعامل معه لم يكن فيه تباين كبير.

 ابن خلدون: ثنائية العصبية ودعوة المُلك

كتب الباحث عن ثلاثية استنبطها مما كتبه ابن خلدون في توصيف القبيلة مساراتها؛ وهي: العصبية، والدعوة، والمُلك، إلا أنَّني رأيتُ تداخلاً كبيراً بين الدعوة والملك يكاد يحيلهما لشيء واحد -فلم أشأ فصلهما- كما أنَّ الكاتب نفسه رغم فصله لهما لم يتحدَّث عن أيهما بمعزل عن الآخر.

لنبدأ بالعصبية؛ فهي -كما يرى ابن خلدون في مُقدِّمته- لا يكون للملك وللدولة شأن ووجود إلا بالقبيلة وعصبيتها. وقد استعرضَ الكاتبُ أمثلة لهذا: في انتصار القادسية على الفرس، والاستماته في العصبية رغم قلة العدد لدولة الموحدين في المغرب العربي، وكيف أنه لولا هذه العصبية لغلبتهم كثرة الآخر وقوته. العصبية نفسها قد تفتر في جانب الدعوة الدينية وتنتصر لغيرها فتحقق النصر أيضا كما حدث عندما انتفضت زناته في العهد الموحدي حين زالت منهم الصبغة الدينية فثاروا وغلبوا وانتزعوا الملك.

وأمَّا الدعوة الدينية، فهي التي مكَّنتْ العرب من الملك، ولولاها لما ذاقوا طعمه. ويرى ابن خلدون السببَ في ذلك عائدا إلى طبع العرب وصعوبة انقيادهم وميلهم للغلظة والأنفة وبُعد الهمة والمنافسة في الرئاسة. ونرى من هذا أنَّ الدعوة الدينية ما كان ليكون لها كلمة وما كانت ليتحقق لها مُلك لولا العصبية. غير أنَّ الكاتب يُعارض رأي ابن خلدون في أنَّ مفهوم الدولة القائمة على العصبية يمكن تعميمه على سائر المجتمعات العربية، ويقول بفرضية وجود تفاعل قائم بين هذه المكونات خاصة في المجالات البدوية في البلاد العربية الإسلامية. غير أنَّ الكاتب لا يذكر كيف يكون هذا التفاعل لنفهم اختلافه مع ابن خلدون.

 

- مقاربة النص الخلدوني بالواقع والدراسات

يذكُر الكاتب أمثلة من التاريخ؛ حيث كانت العصبية مُلازِمة للدعوة الدينية.. مُتعقِّباً استناد الدولة الأموية على عصبية قريش ومذهب الجماعة، والدولة العباسية واستنادها على عصبية الموالي ومذهب الاعتزال. أمَّا إمارات المغرب، فقد انشقت -كما يقول الكاتب- عن المركز فتبع بعضهم مذهب الخوارج الصفرية كما هي الحال في إمارة بني مدرار، وأخرى تبعت الإباضية كالدولة الرستمية، ومنها من تبع الشيعة اليزيدية كدولة الأدارسة بفاس. وهنا يتجلَّى التلازم بين القبيلة والدين مستثنياً بعض الصراعات التي أقصي فيها الدين وكانت رغبة خالصة لحيازة المُلك: كصراع الجماعات القيسية واليمانية في الأندلس. ونلحظ في المقابل وجود فترات ذابت فيها التكتلات القبلية لصالح العصبية الدينية كنشوء الدولة الفاطمية ذات المذهب الشيعي، والدولة المرابطية ذات المذهب المالكي. وأرى أنَّني خلصت من كل الأمثلة التي استعرضها الكاتب إلى أن السعي للملك والسلطة يغير مطاياه فتارة يستخدم العصبية القبلية وتارة يستخدم العصبية الدينية المذهبية. إلا أنَّني لاحظتُ أنَّ نتائج العصبية المذهبية للسعي إلى الحكم أكبر من نتائج العصبية القبلية؛ حيث إنَّها حين تجتمع توحِّد أعداداً كبيرة قادرة على تشكيل دول أكبر من ناحية المساحة العدد. كما ذكر الكاتب وجود الإقصاء للفكر المغاير في الدول التي تقوم على العصبية المذهبية، كما حصل من حرق كتاب "إحياء علوم الدين" للغزالي من قبل فقهاء المالكية. وتلتها سلسة من الإقصاءات الفكرية في العصر الموحدي.

ولا أظن أنَّنا نتحدَّث عن أمور خلت، فما يحصل اليوم من إقصاء سني للشيعية والعكس، هو امتداد لذات الصراع الذي يظهر بجلباب ديني، بيد أن حقيقته صراع على المُلك السلطة. وما يخفف وطأة هذا الإقصاء هو انفتاح العوالم وعدم جدوى الاتلاف والحرق ضد الأفكار المغايرة فهي اليوم تسرح بحرية بيننا.

 ويذكر الكاتب أن مرافق الجيش الفرنسي في الجزائر عند الاحتلال دي سلان قام بنشر الأجزاء المتعلقة بالبربر من مقدمة ابن خلدون، معنوناً إياها بتاريخ البربر. ويقول الكاتب إنَّها نالتْ الاستحسان والإشادة لالتقائها بالأفكار التي يحاولون الترويج لها. والكاتب وللأسف لا يكتب ما هي هذه الأفكار!!

 

- الحقبة الاستعمارية والدراسات الإنسانية

يُخصِّص الكاتب نقاشَه عن الحقبة الاستعمارية للمغرب العربي، مُستعرضاً أهمَّ من تولُّوا الدراسات الإنسانية في تلك الحقبة. ويعوِّل الكاتب على عدم موضوعية ما كتبوه ورغبتهم في التشويه، إلى كونهم جنرالات وخلفيتهم سياسية. إلا أنَّني لا أرى هذا السبب كافياً؛ حيث إنَّ أغلب الدول الاستعمارية أوكلت لجنرالاتها وسفرائها هذه المهمة في تدوين طبائع السكان وأوصاف المكان والحياة، ولكن يبقى الاحتكام إلى النص المكتوب. فهل وصف مونتالي الجمهوريات البربرية بما فيها من سلطة الشفهي والعرف وعدم احتكامها للدولة على عكس المدينة التي تعتمد على الحضارة الكتابية والتشريعات الفقهية أمر به مؤامرة أو شك أو حتى خطأً! فإن كان كذلك لوضع الكاتب ما يثبت العكس.

 

- المتقابلات: بربر-عرب / سنة-إباضية / الحضر-البدو

يتعمَّق الكاتبُ في وصف الحال المغاربي كما جاء على لسان الغرباء من مستعمرين وغيرهم -ككتابات جاك بارك، وجلنر، ومونتاني، وتافيز ليفسكي- ذاكراً موضوعية بعضهم كجاك بارك تحيز بعضهم كمونتاني.

ورَغْم الاختلاف الجلي الذي يذكره الكاتب بين أنماط العرب والبربر في تعاملهم مع الدين الحياة، فإنه ضد التقسيم القائل بدين بدوي وآخر حضري وإسلام سني وآخر شيعي. وأخالفه الرأي؛ حيث لا أعني بقولي الإسلام البدوي إسلاماً مختلفاً، وإنما نمط مُختلف للتعاطي مع الدين. كما لو تبعت الكاتب وتحدثت عن الإسلام بالعموم والمطلق لم أنصف ولم أعدل. خاصة حين نود التركيز على الجانب الإنساني والاجتماعي الذي يتناوله الكاتب؛ حيث لا يوجد سياق متطابق بينهم، ولا عيب في هذا حيث لكل بيئة ناسها وإسلامها يجمعهم "لا إله إلا الله، محمد رسول الله".

أخبار ذات صلة