السلطة والجمهور في التجربة العربية الإسلامية

أحمد المكتومي

إنَّ الفصلَ بين مقاصد الشريعة الإسلامية والسياسة الشرعية أمر قد يكون مستحيلاً لأنَّ كلا منهما له نفس الأهداف وهي حفظ الدين الإسلامي، وتوفير الراحة المادية والروحية لكل أفراد المجتمع. حيث يناقش رضوان السيد في مقاله في مجلة التسامح "الشرعية والمشروعية في التجربة العربية الإسلامية" بعض إشكاليات الشرعية والمشروعية في المجال العربي الإسلامي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي متخذًا بذلك منهج السوسيولوجي الألماني ماكس فيبر في تحديد أنماط الشرعية في مقولة له في الاقتصاد السياسي. ثم اتِّخذ من التجربة الإسلامية مدخلاً له ليقسم ظهر التجربة إلى جزءين وهما: الأول القضايا الرئيسية التي تُمثل الثوابت الكبرى والتطلعات مثل الاقتداء في التجربة، وهي ما تعتبر أساس مشروعية النظام. والثاني يتعلَّق في الأغلب بالعادات والتقاليد والأعراف في سائر مناحي الحياة العامة والخاصة.

ماكس فيبر ذكر أنَّ هناك ثلاثة أنماط من الشرعية وهي: أولاً النمط التقليدي وهو أن تحكم العادات والتقاليد والأعراف المستقرة في السلطة ويقصد بها الأنظمة الملكية التي تعتمد على مبدأ التوريث، ومن ثم يصبح كل أنظمة الحياة السياسية والاقتصادية تخضع لقوانين وأعراف كبرى للتصرف فيها. ومن يطمح للوصول إلى السُّلطة يجب عليه أن يتبع هذه العادات والأعراف. بصيغة أخرى يجب التصرف أو التعامل مع كل شخص أو هيئة أو منظمات بحسب ما تمليه عليك الأعراف والتقاليد. وأما النمط الثاني فهو النمط الدستوري أو الديمقراطي، حيث تتحدد الشرعية في طرائق الوصول إلى السلطة والتصرف السياسي بحسب النص الدستوري. وأما القضية التي واجهها ماكس فيبر في تسمية النمط الثالث فهي النمط الكارزماتي أو الشخصاني وإدراجه تحت أنواع السلطة؛ لأنّه يعتمد على الكفايات الشخصية والتي لا تتكرر للشخص الساعي إلى السلطة أو الوصول إليها عن طريق دعم الجماهير أو إيمانهم بها. ومن المعروف أنَّ فيبر توفي قبل ظهور الفاشية الإيطالية والنازية الألمانية، ولكنه نظر إلى شخصيات أخرى قديمة مثل نابليون وأنبياء بني إسرائيل الذين درس سلطتهم النبوية دراسة متأنية. لكن هناك تساؤلات: كيف قسم فيبر هذه الأنماط؟ وهل هي ثابتة في كل الأوقات؟ ثم إلى أيّ نمط تنتمي ثورات أو شرعيات شخصيات هتلر وموسوليني؟ ثم ما هو مصير شرعية أي نظام إذا حدث فيه اختلاط بين نمطين أو ثلاثة؟

لقد ارتأى الكثيرون تسمية النظام الإسلامي نظاماً نبوياً - خلفياً. لأنّه في نظرهم نبوي؛ فمؤسسة النبي صلى الله عليه وسلم. وفي نفس الوقت هو نظام خلفي لأنّ الصحابة خلفوا النبي صلى الله عليه وسلم في رئاسة النظام. ولكن هنا قضيتنا :أن الصحابة الذين تشكلت لديهم المعالم الكبرى لنظام لم يتم اعتبار سلطتهم نبوية أو كارزماتية، ولا النص الإلهي اعتبرهم معصومين بل إنّ جماعة أهل المدينة هم من نصبهم وهذا بخلاف ما قاله فيبر. والأمر الثاني أنّ المروي عنهم في فهمهم للنظام الذي يترأسوه هو التميز عن الأكاسرة والقياصرة. وقد كان الجيل المُعاصر لديهم من الأنظمة أو الأنماط، إن صح التعبير، ثلاثة وهي: الإمارة العربية، والنظام البيزنطي القيصري، والنظام الساساني الكسروي. وقد كانوا يعرفون أنّ النظام البيزنطي مرتبط بالمسيحية وأن النظام الساساني نظام عقلاني جبروتي، وأما الإمارة العربية، ورغم اقترابها من أخلاقهم، فقد اعتبروها نظاماً قبلياً وأنها ترتبط بالبطون القبلية لقريش وثقيف. إن المتأمل في التجربة العربية الإسلامية، حسب ما يقوله رضوان السيد، يجد أنها ليست نمطاً نبويًا؛ لأنه لا تتوفر فيها خصائص النبي، وليست نمطًا عربياً لأنّ الإمارة العربية ليس لها أبعاد عالمية ولا تحمل مشروعًا أيديولوجيا أو سياسياً عامًا. بمختصر القول إنّ التجربة العربية الإسلامية هي نظام خلفي كما سماه الصحابة رضوان الله عليهم.

إذن بعد هذه المباحث التي أعطانا إيها رضوان السيد، ما هي ثوابت النظام الجديد أو ما هي أسس مشروعيته؟ يتأسس النظام على ثلاث وحدات وهي: وحدة الأمة، ووحدة الدار، ووحدة السلطة. أما وحدة الأمة فهي معطى ثابت في القرآن الكريم في عشرات الآيات، حيث إنّه لا يستقيم حال أيّ نظام إلا بوحدة الأمة، وأما طابعها السياسي فهو ثابت في كتاب المدينة في السنة الثانية للهجرة، ولم تقتصر هذه الوحدة على شبه الجزيرة أو على قبيلة معينة بل امتدت إلى العالم بأسره. الأمر نفسه في وحدة الدار؛ إذ عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم كان الإسلام قد انتشر إلى ربوع شبه الجزيرة العربية وبذلك نشأ كيان جديد أو دار جديدة كما عبر عنه بعض الفقهاء من بعد. وهذا ما ينبغي فهمه من قتال أبي بكر الصديق لأهل الردة أو من سمو بذلك. فبعض منهم لم يرتد وإنما أدرك المعنى السياسي للأمة الجديدة. وهناك من يعتقد أنّ وحدة الأمة ووحدة الدار تقتضيان أيضًا وحدة السلطة؛ ولذلك قاتل أبوبكر مانعي الزكاة الذين أرادوا أن يتبعوا سلطة المدينة الجديدة دينياً وسياسيًا. لو تتبعنا مجريات التاريخ لوجدنا أن وحدة السلطة هي جانب مختلف ومنفصل عن وحدة الدار والأمة، وهذا كان متجلياً في عهد الخلفاء الراشدين حيث إنهم لم يقسموا المناطق جاعلين لكل منطقة سلطاناً، وإنما أدرجوها كلها تحت سلطة الخلفاء الراشدين. الأمر نفسه عندما سقطت الدولة الأموية حل محلها سلطة عباسية، ولم تحدث أيّ مشكلة في وحدة الأمة والدار، وهذا نفسه ما حققه الإباضية في عُمان والمغرب.

يناقش رضوان السيد قضايا الشرعية وإشكالياتها حيث إنّه إذا كانت الوحدات الثلاث من ضرورات النظام فإن هناك مسائل وأمور مثل قرشية الخليفة والشورى في الوصول إلى السلطة والعلائق بين النظام والشريعة الإسلامية كانت ضمن النقاشات التي دارت حول شرعية هذا الخليفة أو الرئيس، الأمر الذي جعل من قريش أصحاب السلطة حيث ظهر النبي صلى الله عليه وسلم من قبيلة قريش ليزيد قريشًا شرفاً على شرف، ثم تلاه الخلفاء حيث كانوا قريشيي النسب مما سوّغ أن يكون الحاكم من أهل قريش فقط.

أما الشورى فقد انتهك فعلها إلا في حقبة الخلفاء الراشدين وبعض الآيدولوجيات ودعوات المعارضين. وعلى أية حال فإن دور مسألة الشورى كان غامضا في المعنى والممارسة. فعمر بن الخطاب يقول عن بيعة أبي بكر إنها (كانت فلتة وقى الله شرها) وقد اختلف الفقهاء في تحليل ذلك فمنهم من قال إنّ أهل المدينة هم الذين بايعوه فقط. ونرى أنّ حقبة الخلفاء الراشدين لا تقول شيئاً واضحاً في مسألة الشورى ومدى أهميتها واعتبارها ما يحقق الشرعية للوصول للسلطة.

أخبار ذات صلة