سعيد بوكرامي
تتجلى أهميّة كتاب المجتمعات والمدن العمانية وتطورها في العصور الإسلامية والحديثة في أنّه بحث مستفيض يكشف أهم التطورات التي عرفتها المعالم الحضارية العمانية منذ العصور الإسلامية إلى العصور الحديثة.
الكتاب من تأليف الدكتورة صباح إبراهيم الشيخلي ) باحثة عراقية مختصة في الدراسات الإفريقية في العصر الوسيط( والدكتور طارق نافع الحمداني ) باحث عراقي مختص في التاريخ المعاصر( .
صدر الكتاب عن منشورات الوراق بداية 2016. وهو بذلك أحدث كتاب يدرس المجتمعات والمدن العمانية دراسة شاملة لا تركز على جوانب أو موضوعات وإنما تغوص في مكوّنات الحضارة العمانية بدءا بالعصر الإسلامي الذي تخصص له الباحثة صباح إبراهيم الشيخلي القسم الأول والأهم من الكتاب بحيث يمتد من الصفحة 11 إلى الصفحة 150.
وقد قسمته الباحثة إلى أربعة فصول خصصت الفصل الأول للصلات التجارية بين عمان وشرق إفريقيا في العصر الوسيط أبرزت فيه العوامل التي تتحكم في صلة العمانيين التجارية بشرق أفريقيا، مبرزة أنّ لمنطقة الخليج العربي بصفة عامة وعمان بصفة خاصة صلات عريقة بشرق أفريقيا ترجع إلى ما قبل الإسلام، بحيث يعتبر العمانيون من الأوائل الذين وصلوا إلى ساحل أفريقيا الشرقي، ومارسوا تجارة مزدهرة مع سكانها بل واستقروا بعوائلهم في هذه البلدان ممارسين أنشطة تجارية. وبذلك أصبحت بين البلدين خاصة وبلدان الخليج عامة صلات تجارية وخارطة ملاحية دقيقة يسهر عليها ملاحون وجغرافيون وتجار عمانيون مهرة.
ترجع الباحثة مصادر هذه المعلومات إلى القرن الرابع الهجري/العاشر ميلادي وبالتحديد من كتاب المسعودي المعروف "مروج الذهب ومعادن الجوهر" الذي خبر أسرار التجارة العمانية وأبعادها في شرق أفريقيا. من كتابه المذكور وصلتنا معلومات دقيقة عن حجم التجارة وأطرافها وأمكنتها. وقد تواصل هذا النشاط التجاري في القرن الخامس والسادس والسابع والثامن بالازدهار نفسه؛ بحيث تورد الباحثة معلومات عنه وردت في رحلة ابن بطوطة الذي استكشف العالم الإسلامي. وسبر مسالكه ووصف الرحلات التجارية ونظمها الملاحية من عمان إلى شرق أفريقيا. كما تحيل الباحثة على ما ألفه الملاح الشهير أحمد بن ماجد من مؤلفات ملاحية تساعد على تبين العلاقة التجارية العمانية ليس بشرق أفريقيا فحسب بل المحيط الهندي أيضا.
كانت العوامل التي تحكمت في صلة العمانيين التجارية بشرق أفريقيا هي الرغبة الجامحة للعمانيين في الاستكشاف والمتاجرة بالمواد التي يتوفرون عليها، والبحث عن المواد التي يحتاجونها. تتساءل الباحثة في هذا السياق عن السبب الذي دفع العمانيين إلى توجيه دفة مراكبهم نحو شرق أفريقيا. ترجع الباحثة السبب إلى ست عوامل هي: دور عمان العريق في الملاحة التجارية البحرية والموقع الجغرافي لموانئ عمان وغناها والعلاقة المكانية بين عمان وشرق أفريقيا كما تعد هذه الأخيرة نقطة جذب للعمانيين وأيضا الطبيعة المناخية لشرق أفريقيا، ثم الدوافع الدينية والسياسية التي ازدادت إثرها الهجرات والمعاملات التجارية العمانية بعد ظهور الإسلام. تقول الباحثة عن العامل الأخير "منذ ذلك الوقت، فإنّ النزاعات السياسية والعقائدية التي شهدتها عمان في العصر الوسيط أخذت تدفع بالكثير من العمانيين إلى ترك أوطانهم والتوجه صوب الشرق الإفريقي للاستقرار فيه ومزاولة نشاطاتهم الحياتية، ومنها التجارية طبعا. وكانت أول الجماعات العمانية التي اتخذت من شرق أفريقيا مهجرا لها، وسجلت لنا أخبارها التواريخ العمانية هي أسرة آل الجلندى التي سيطرت على منطقة عمان حتى نهاية القرن الثاني الهجري/ الثامن الميلادي ص 19 " ثم توافدت عوائل أخرى إمّا للاستقرار والاتجار أو الاتجار فقط. وساهمت هذه العلاقات بين العمانيين وشرق أفريقيا في تحويل المنطقة إلى مراكز تجارية ذاع صيتها محققة نجاحًا وازدهارا".
في الفصل الثاني المخصص للطريق التجاري بين عمان وأفريقيا ومحطاته تقترح الباحثة أنّه من الضروري العودة إلى مدونات البُلدانيين والملاحين العرب التي تبين أنّ العمانيين وضعوا طرقا بحرية بين عمان والزنج زادت من النشاط التجاري وأنعشت حركة التجارة العربية. وتبتدئ الرحلة عادة من عمان إلى المهرة الشحر، ومن هناك إلى عدن ومنها تأخذ السفن طريقها نحو الجنوب الغربي مارة بجزيرة سقطرى لتصل إلى أول منطقة في أفريقيا الشرقية وهي "بلاد بربرا" وخليجها البربري أي الساحل الشمالي و الشرقي من الصومال. وقد أوردت مصادر عديدة تفصيلات عن الخرائط الخاصة بأوائل الجغرافيين ولعل أبرزها ما أنجزه في هذا السياق المستشرق الإنجليزي سبنسر ترمنغهام. وتحيطنا الباحثة علما في الفصل الثالث بأنواع السلع التجارية المتبادلة بين عمان وشرق أفريقيا. وفي مقدمتها الذهب فهو أهم بضاعة يسعى التجار العمانيون للحصول عليها في السواحل الإفريقية ثم يليه العاج والحديد وجلود الحيوانات وأنواع من الخشب الثمينة كالأبنوس والصندل والصاج وغيرها. بعد ذلك تنتقل الباحثة في فصلها الرابع إلى الحديث عن بعض النظم البحرية والتجارية في الرحلة من عمان إلى شرق إفريقيا التي اقتضت من الملاحين العمانيين معرفة واسعة ملاحية ومناخية وفلكية للمناطق التي يبحرون فيها.
في القسم الثاني المخصص للعلاقات التجارية بين الخليج العربي وشرق أفريقيا على ضوء تجربة البلدانيين خلال العصر الوسيط تبرز الباحثة أن هذه العلاقة المتمثلة في صلاتهما القديمة كانت قوية منذ ما قبل الإسلام. وقد ساعد على ذلك الطبيعة المناخية لشرق أفريقيا والتي يسرت الملاحة مع الخليج العربي. وهذا ساعد أيضا على تدفق هجرات متعاقبة لعرب الخليج إلى شرق أفريقيا. ونجد تفصيلات عن هذه العلاقة في كتب البلدانيين التي وثقت لها وفي مقدمتها كتاب عن رحلة سليمان في القرن الثالث الهجري. ويليه كتاب المسعودي في القرن الرابع الهجري. والاصطخري في القرن نفسه والمقدسي و أبو عبيد البكري في القرن الخامس الهجري. أما مصدر المعلومات الثاني فنجد كتاب " نزهة المشتاق في اختراق الآفاق" للإدريسي في القرن السادس الهجري وفي القرن نفسه نجد مصدرا آخر هو ياقوت الحموي في مصنفه "معجم البلدان". أمّا في القرن الثامن الهجري فنجد تحفة النظار لابن بطوطة كأهم مصدر عن المعرفة العربية بشرق أفريقيا وهي بالتالي خاتمة المدوّنات الرحلية التي سجلت بدقة أسرار وتفاصيل العلاقات بين العرب وشرق أفريقيا.
ثم تنتقل الباحثة للحديث بتفصيل عن حركة التجارة بين الخليج العربي وشرق أفريقيا وتبدؤها بالطريق التجاري بين الخليج وشرق أفريقيا التي حدد البلدانيون أقاليمها الجغرافية في بلاد الزنج إلى أربعة أقسام هي: بربرا وبلاد الزنج وسفالة والواق واق. كانت هذه المسالك تختلف بحسب أزمنتها ومرتاديها ومقاصدهم كما أنّ أهميّة المناطق التجارية تتغير بحسب البضائع المتوفرة فقد كان الذهب مصدر جذب بحيث يجعل من مناطق مقصدا أكثر أهمية من أخرى. فتارة نرى مقاديشيو تزدهر وتستقطب وتارة أخرى تتحول مدينة البصرة التي يصفها اليعقوبي" مدينة الدنيا ومعدن تجارتها وأموالها". ومن هنا تظهر أهميّة هذه العلاقات التجارية بين الطرفين التي ساعدت أيضا على نشر العقيدة الإسلامية في بلاد الزنج.
في الفصل الثالث تتناول علاقات عمان بشرق أفريقيا حتى بداية القرن العاشر من خلال البحار ابن ماجد ومؤلفاته التي قدمت معلومات ملاحية وتاريخية هامة عن هذه العلاقة بحكم أن ابن ماجد وريث تاريخ ملاحي طوره ونوعه ودونه في أرجوزته الحجازية. وكتابه النثري الوحيد " الفوائد في أصول علم البحر والقواعد". وما سيلي في الفصل الرابع مكمل لأهمية ابن ماجد في التعريف بمدن الساحل العماني في القرن التاسع الهجري. ومن خلالها نتعرف على جغرافية المدن العمانية ثم نشاطها التجاري عبر طرقها البحرية من موانئ الخليج العربي وجزره وعلاقتها بسواحل وموانئ المحيط الهندي وشرق أفريقيا بين إقليم بربرة وإقليم الزنج وسفالة.
ينبري الدكتور طارق نافع الحمداني في القسم الثاني من الكتاب للبحث عن المجتمعات والمدن العمانية في العصر الحديث منطلقا في الفصل الأول من التطور التاريخي الذي عرفه الساحل العماني في القرنين السادس عشر والسابع عشر. ويعيد الباحث عوامل التطور التجاري أو الركوض إلى عوامل متعددة من بينها الموقع الجغرافي المهم للمدن العمانية عامة والموقع الطبيعي لعمان خاصة. بحيث تحتل موقعا استراتيجيا؛ فالبحر يحدها من ثلاث جهات. في الشمال الخليج العربي وفي الشرق خليج عمان وفي الجنوب البحر العربي وهو ما يعني أنّ للعمانيين علاقة وطيدة بالبحر ومنذ أقدم العصور. يشير الباحث إلى هذا الأمر قائلا: "لا يقدم البحر العربي ولا الخليج العربي قواعد تجارية أفضل من موانئ عمان، إذ أنّها تقع ما بين الخليج العربي وسواحل الهند وأفريقيا. وقد أدرك البرتغاليون، وقبلهم الفرس وحكام هرمز، أهمية الموقع المتوسط لهذه الموانئ، بوصفها أفضل الأماكن لتجارة الخليج العربي ص 155". ثم ينتقل الكاتب لإبراز العوامل الديموغرافية التاريخية لمدن عمان الساحلية التي تشكلت بحسب الباحث من الهجرات العربية من اليمن ومن وسط الجزيرة العربية رغم صعوبات المسالك من المناطق الداخلية إلا أنّ العمانيين تمكنوا من التدفق إلى السواحل خاصة في أوقات الأزمات عامة وأثناء تعرض بلادهم للغزو الرهيب من طرف البرتغاليين على الخصوص. وبعد تحرير الساحل العماني من البرتغاليين عام 1650 عرفت هذه المناطق إمدادات سكانيّة من القبائل العربية لاستئناف النشاط الملاحي البحري والتجاري الذي استعاد حيويته. ثم لا يغفل الكاتب الحديث عن أوضاع عمان السياسية وتطورها التي لم تكن مستقرة في القرنين السادس عشر والثامن عشر بحيث تنازعت أطراف متعددة خارجية وداخلية للسيطرة على مناطق معينة من عمان وقد انعكس ذلك على الحياة الاجتماعية والاقتصادية. فعرفت الموانئ العمانية فترات مد وجزر بين تدهور وانتعاش. خاصة وأنّ البرتغاليين كان يفعلون كل ما في وسعهم لشل الحركة الملاحيّة العمانية عبر حرق مراكبهم ويستدل الباحث بوصف للمؤرخ ديللا فال يقول: "لم يترك البرتغاليون أيَ إنسان حي في المدينة، ولم يستثنوا من ذلك لا الجنس ولا الحجر، فأيُ تصرف وحشي هذا؟ ص 172" لكن الأئمة اليعاربة ضمنوا بعد ذلك نوعا من الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي في منأى عن أي صراع مع القوى الأجنبية. هذا الاستقرار السياسي ساعد على حياة اقتصادية في مدن الساحل العماني ومن أبرز مظاهره: الزراعة التي نمت وتطورت في المدن الساحلية خاصة في عهد الإمام سيف بن سلطان ((1711-1681 بحيث بلغت ذروتها فتحسنت الزراعة وتنوعت وانتشرت وشقت الأنهار. وأمّا المظهر الثاني فهو التجارة التي انتشرت في المدن العمانية الداخلية والساحلية وتأسست على حركتها مواقع تجارية نمت باضطراد حتى قبل الوجود البرتغالي. ويذكر الباحث أهمها: "ظلت كل من قلهات ومسقط وصحار وصور من المراكز التجارية على ساحل عمان، فازدهرت فيها الحياة الاقتصادية بفضل ما كانت تجنيه هذه المراكز من أرباح، إلا أنّ ذلك الازدهار الاقتصادي قضى عليه البرتغاليون منذ أوائل القرن السادس عشر، فتراجعت المدن العمانية عن دورها السابق ص 180" وكان التدمير البرتغالي الشامل للموانئ والمدن حاسما في توقف هذا النشاط التجاري المزدهر. ولم يعد الانتعاش التجاري إلا بعد عودة الاستقرار في عهد دولة اليعاربة.
في ختام القسم الثاني يسرد الباحث مجموعة من كتب الرحلات والوثائق الأوروبية المنشورة خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلادي معترفا بافتقار الباحث في هذه الفترة إلى "مصادر عربية لتوثيق تاريخ الخليج عامة وعمان خاصة، لذلك تأتي المدونات الأوروبية-سواء أكانت رحلات أم تعليقات أو وثائق- في طليعة المصادر التي يمكن الاعتماد عليها لتدوين أحداث المنطقة ص 188" ويذكر الكاتب معضلة أخرى تخص هذا التوثيق تتمثل في عزوف المؤرخين العمانيين عن كتابة: "تاريخ بلادهم بصورة مفصلة حقبة الغزو البرتغالي 1507 -1650 بوصفها حقبة غير مضيئة في تاريخ عمان، ولم تظهر المؤلفات العمانية إلى الوجود إلا في منتصف القرن السابع عشر ص 188". ولهذا تعتبر الرحلات الأوروبية أهم المصادر لدراسة تاريخ الخليج العربي وعمان خاصة.
يسوق الباحث أسماء أهم المؤرخين وفي مقدمتهم مارتن فرناندو فيغويرو، ودورات باربوسا وفرانسيسكو ألفارز، وبيدرو تيكسيرا، وبيترو ديللا فاليه، وجان باتيست تافيرنيه، ومانوئيل غودنهو، وجون شاردن، والأب كاريه. كما يمكن الاستفادة من مذكرات البوكيرك وروي فريي ردي اندرادي ومانوئيل فريا دي سوسا. ثم تأتي الوثائق المستمدة من وثائق الخليج العربي ووثائق الوكالات الإنكليزية في الهند وحوليات الآباء الكرمليين في فارس. اتفقت المصادر جميعها أنّ المدن العمانية عامة والمدن الساحلية خاصة عرفت تطورا مذهلا قبل الغزو البرتغالي الذي سعى في آن إلى الهيمنة المطلقة بالتقتيل والترهيب وأحيانا أخرى بالترغيب حينما يتعلق الأمر بدعواتهم للتنصير ورغبتهم في توطين الطوائف المسيحية، لكن مشاريعهم باءت بالفشل الذريع.
لهذا الكتاب مزايا تاريخية ومعرفية عديدة من بينها شمولية البحث التاريخي وتعدد مصادره حول ما عرفته مدن الساحل العماني من ازدهار اقتصادي وعمراني كبير، ويظهر ذلك في تطور الموانئ ومدنها واتساع رقعة تجارتها نحو شرق أفريقيا والهند. كما تبرز قيمة البحث في جدته وجديته التي تعقبت المصادر المعروفة والمجهولة منذ فترة ما قبل الإسلام وصولا إلى فترة الاستقرار والتطور في القرن الثامن عشر. كما يضيء البحث جانبًا مهما من الصراعات التي عرفتها منطقة الخليج عامة وسواحل عمان خاصة وما عرفته من تدمير ممنهج من طرف الاحتلال البرتغالي. يتميّز الكتاب برؤية تاريخية وتحليلية تجعله في صدارة الأبحاث الصادرة عن المجتمعات والمدن العمانية في العصور الإسلامية والحديثة.
------------------------------------------------------------------------------------------------------
الكتاب: المجتمعات والمدن العمانية وتطورها في العصور الإسلامية والحديثة.
تأليف: أ.د صباح ابراهيم الشيخلي و أ. د. طارق نافع الحمداني
الناشر: دار الوراق للنشر. الطبعة الأولى.
تاريخ النشر: 2016
عدد الصفحات: 256
