«العالم متناهٍ والرغبة غير متناهية»

51C9f6lE9DL._SX321_BO1,204,203,200_.jpg

لدانيال كوهين

مُحمَّد الحداد

منذ أن طُرح مفهوم النظام العالمي الجديد، مع نهاية الحرب الباردة وانهيار الكتلة الاشتراكية، والباحثون منهمكون في تحديد معالمه، ولكن دون جدوى. فكأن هذه المعالم ممتنعة على التحديد والضبط رغم طول الفترة الفاصلة عن هذا التحوّل.

ولقد سيطرت في البداية شبكة تفسيرية متفائلة، كانت تعد باطراد النمو وازدهار البشر، وصدرت عشرات الدراسات في هذا الاتجاه، منها الكتاب المشهور لفرانسيس فوكوياما "نهاية التاريخ والإنسان الأخير". ثم أعقبتها نظرة متشائمة تحذر من تحول الاستقطاب الأيديولوجي السابق إلى حروب غير متناهية بين المجموعات البشرية، تتخذ شكل حروب ثقافية ودينية، وارتبط هذا التوجه بأطروحة صدام الحضارات التي طرحها صمويل هنتجنتون ونسجت على منوالها عشرات الدراسات القطاعية الأخرى.. ويمكن القول إن عالم الاقتصاد جوزيف ستيجلز -الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد سنة 2001- قد افتتح مرحلة ثالثة عندما أعاد الربط بين المواجهات العسكرية والاقتصاد، من خلال كتابه عن التدخل العسكري الأمريكي بالعراق وتكلفته في الاقتصاد الأمريكي، كما أعاد الاعتبار لنقد الرأسمالية والليبرالية، بعد أن كاد يختفي بسبب أفول الماركسية.

وقد دشن ستيجلز، ولم يكن الوحيد في ذلك، النقد الليبرالي لليبرالية، لأنه نقدها من الداخل وبالتسليم بصحة مبادئها الكبرى مثل اقتصاد السوق، معتبرا ما يحدث حاليا خيانة لهذه المبادئ. ولئن تفاعل الفكر العربي مطولا مع نظريتي "نهاية التاريخ" و"صدام الحضارات"، وحبرت في ذلك عشرات المؤلفات والترجمات، فإنه قد بدأ يهتم في السنوات الأخيرة بأعمال ستيجلز خاصة، ويتعهدها بالتعريف والترجمة، وبنظرية الحيف عامة، أو ما يدعوه ستيجلز نظرية الواحد بالمائة (سيطرة واحد بالمائة من كبار الأثرياء على الجزء الأكبر من الثروة العالمية)، وقد أصبحت توجه قطاعا مهمًّا من الأبحاث في الاختصاصات المختلفة، وتطبق لتفسير مظاهر كثيرة من الأزمات الحالية. ولعل تعريب كتاب "عالم اللامساواة" الصادر حديثا (يراجع تقديم الكتاب في ملحق مراجعات شهر فبراير الماضي) يقدم رؤية تأليفية جيدة عن التطبيقات المختلفة لنظرية الحيف (أو اللامساواة).

وقد أردنا من خلال تقديم كتاب دانيال كوهين، عالم الاقتصاد وأحد مؤسسي ما يعرف بمدرسة باريس الاقتصادية، عرض نظرية ثانية تنافس نظرية الحيف، تعود أصولها إلى اقتصادي أمريكي آخر هو روبرت جوردون، وبقطع النظر عن إمكانية التداخل أو التكامل أو التعارض بين وجهتي النظر، فإن المهم هو تحقيق تفاعل الفكر العربي مع مختلف شبكات القراءة المطروحة حاليا للوضع العالمي.

تتمثل وجهة النظر الثانية في اعتبار أن الوضع العالمي الحالي لا يترتب فقط على الاختلال والحيف في توزيع الثروات ونتائج النمو وإنما في أزمة النمو ذاته. يرى أصحاب هذا الطرح أن العالم مازال يعيش على وهم نشأ أثناء ما يدعى بالثلاثين سنة المظفرة، أي الفترة الممتدة من نهاية الحرب العالمية الثانية (1945) إلى سنة 1975 . لقد شهدت الاقتصاديات الغربية آنذاك نسب نمو مرتفعة مكنت من رفع مستوى الطبقة الوسطى وتمتيع العمال بامتيازات متنوعة مثل التغطية الصحية والتقاعد والعطل السنوية. وقد بدا آنذاك أن الفترة السابقة الممتدة من الأزمة الاقتصادية الكبرى سنة 1929 إلى الحرب العالمية الثانية كانت مجرد قوس عابرة في تاريخ البشرية، وأن مخيال التطور المطرد الذي بشرت به الحداثة وفلسفة الأنوار قد بدأ يتحقق، بعد فترة عابرة من الاضطراب والخيبة. وبعبارة أخرى، ظن الناس أن ما حدث سابقا كان الشاذ الذي يحفظ ولا يقاس عليه، وأن القاعدة هي ما حصل منذ نهاية الحرب، أي النمو المرتفع والمطرد. وقد تزامن ذلك مع الإصلاحات الديمقراطية المهمة التي شهدتها المجتمعات الغربية؛ إذ أعطت الانطباع بأن الازدهار أصبح نعمة متاحة للجميع، كما تزامن مع تحرر المجتمعات غير الغربية من الاستعمار، بما أعطى  الانطباع بدوره بأن هذا الازدهار سيتجاوز الغرب ويصبح حالة عالمية.

وفي منتصف السبعينيات من القرن العشرين، بدأت تبرز المصاعب الاقتصادية، وقيل آنذاك إنها ناتجة عن حرب 73 في الشرق الأوسط والحظر النفطي الذي استعملته البلدان العربية سلاحا ضد المساندة الغربية لإسرائيل. وكان هذا التفسير في ذاته مشبوها؛ إذ حجب حقيقة أخرى أكثر عمقا وهي أزمة النمط الاقتصادي العالمي، فقد وقع اختزال هذه الأزمة في قضية النفط، مع أنها كانت أزمة أعمق بكثير، والدليل انهيار النظام النقدي في الفترة ذاتها.

ويمضي أصحاب هذا الطرح إلى أبعد من ذلك، فيتساءلون عن وجاهة الحديث عن "أزمة" لوصف أوضاع مستمرة من سنة 1975 إلى الوقت الحاضر، أي على مدى أربعين سنة، ويرون أن من الضروري عكس الصورة، واعتبار أن فترة الثلاثين المظفرة (1945-1975) هي الاستثناء. وأن ما قبلها وما بعدها يمثل القاعدة، وأنه لم يعد ممكنا للاقتصاديات الغربية أن تعيش نسب نمو شبيهة بتلك التي حققتها في الثلاثين المظفرة. فبدل مواصلة الحديث  عن أزمة وانتظار الخروج منها، ينبغي الإقرار بأن مستقبل الاقتصاديات الغربية لا بد أن يتلاءم مع نسب نمو محدودة وضعيفة، وهذا الإقرار ليس قرارا اقتصاديا وإنما هو قرار حضاري وأخلاقي، إذ يترتب عليه تغيير جذري في نمط الحياة. فإذا اقتنعنا بأن نسب النمو ستكون ضعيفة على مدى طويل جدا، فلا بد من الخروج من هيمنة الاستهلاك والحد منه كي يتناسب مع الأوضاع الاقتصادية الحقيقية، والتصدي للفقاعات المالية التي تبرز بين الحين والآخر وتعطي انطباعا كاذبا باستعادة النسق السريع للنمو، ثم تنهار بعد سنوات قليلة، محدثة بدورها أزمات متواصلة، مثل الأزمة المالية الأخيرة سنتي 2007 و2008 المعروفة بأزمة الرهن العقاري.

ويرتكز هذا الطرح على فكرة أساسية هي أن الانتقال من العصر الصناعي إلى العصر الرقمي لن يحقق طفرة اقتصادية مهمة، وأن هذا الانتقال لا يمكن أن يقارن بالطفرة الاقتصادية الهائلة التي حدثت مع الثورة الصناعية. وهذه مسألة مهمة جدا ينبغي التعمق في أسبابها ونتائجها.

يقدم دانيال كوهين الصناعي الأمريكي الشهير هنري فورد مثالا عن الازدهار، كما كان ينظر إليه في العصر الصناعي. كان طموح هذا الصناعي تحويل السيارة من بضاعة خاصة بالأغنياء إلى بضاعة شعبية يمكن للطبقة الوسطى اقتناؤها، وقد نجح في ذلك، واقتفى أثره صناعيون آخرون، وأصبحت السيارة متاحة فعلا للجميع، بما في ذلك خارج المجتمعات الصناعية، فهذا مثال جيد عن تجسيد فكرة الازدهار الذي يتحول من النخبة إلى شرائح واسعة من المجتمع ويبلغ كل أصقاع العالم.

وكي تصبح السيارة متاحة للجميع، كان ينبغي أولا أن تصنع بكميات أكبر، كي تقل تكلفتها وتباع بأثمان أرخص، وهذا ما حققه فورد عندما أدخل نظام التصنيع المجزء أو التسلسلي، فبدل أن تقوم مجموعة من المهندسين أو العمال بصناعة السيارة من أول مراحلها إلى آخرها، يقسم هؤلاء إلى مجموعات صغيرة تتولى كل مجموعة مهمة إنجاز مرحلة من مراحل صناعة السيارة. هكذا نشأت الصناعة الحديثة التي تنسب لمخترعها الأمريكي وتدعى أحيانا بـ "الفوردية".

ويتذكر الجميع النقد اللاذع الذي وجهه شارلي شابلان إلى هذه الصناعة في شريطه المشهور "أضواء المدينة"، إذ اتهمت الفوردية بأنها حولت الإنسان إلى ما يشبه الآلة، وحكمت على العامل بأن يقضي عشرات السنين وهو يعيد بوتيرة جنونية مجموعة من الحركات الرتيبة. واعتبر الفلاسفة الفوردية وجها من وجوه اغتراب الإنسان في العصر الصناعي الحديث، لكننا قد ننظر اليوم إلى الفوردية بأقل قسوة، بل قد نتعامل معها بنوع من الحنين. فالنظام الصارم للعمل في المصانع الضخمة كانت له أربعة إيجابيات متأكدة، أولها أنه مكن من تحقيق نسب نمو اقتصادي مرتفعة على مدى طويل، وكان سببا رئيسيا في الازدهار الذي شهدته المجتمعات الغربية، وثانيها أنه مكن من تحويل المخترعات الحديثة من مواد كمالية وبضائع ترف مخصوصة بالنخبة إلى بضائع شعبية متاحة لعدد كبير من الناس، في المجتمعات الغربية وخارجها أيضا. وما حصل للسيارة حصل أيضا للكثير من المخترعات الأخرى مثل الراديو والتليفزيون والهاتف وآلة التصوير. وثالثها أنه مكن من توسيع الطبقة الوسطى ورفع المستوى المعيشي للعمال، ذلك أن توفير المخترعات الحديثة بكميات كبيرة في السوق يعني أن شراءها لن يتم فقط من قبل الأغنياء وإنما يصبح متاحا أيضا للطبقة الوسطى، لذلك قرر فورد مضاعفة أجور عماله كي يصبحوا بدورهم مستهلكين لما ينتجونه، وأصبحت فكرة توسيع الطبقة الوسطى لتوسيع الاستهلاك أحد أساسيات الاقتصاد. ورابعها أنه جعل المؤسسة الصناعية قطب الرحى في المجتمع الحديث، أخذت مكان الكنيسة في المجتمع القديم، كما يقول دانيال كوهين، كما أخذ المهندسون مكان الرهبان. فالعامل متعلق بالمؤسسة لأنها تحميه من الفقر وتضمن له الدخل طول حياته وتجعله يستفيد من مجتمع الاستهلاك، والمؤسسة متعلقة بعمالها وبتحسين مستواهم المعيشي لأنهم يحققون لها الأرباح ويساهمون في توسيع مجتمع الاستهلاك (إضافة إلى سياسة في رفع أجور العمال، كان فورد معروفا بامتناعه عن تسريح العمال حتى في حالات تراجع مبيعات المؤسسة). وقد ساهم هذا الدور الاجتماعي للمؤسسة في تحديث المجتمع ونقله من أشكال التضامن القديمة إلى الحداثة القائمة على استقلالية الفرد.

الخبر السيِّئ هو أن الثورة الإعلامية التي أخذت مكان الثورة الصناعية، ودشنت العصر الحالي الذي يطلق عليه الجميع تسمية العصر ما بعد الصناعي (postindustriel)، لا يمكن لها أن تحقق أي واحدة من هذه الإيجابيات الأربعة. يكفي أن نتوقف مثلا على هذه الحقيقة التي يقدمها الكاتب: أن المؤسسات العملاقة الثلاث، جوجل وفيسبوك وتويتر، توفر مجتمعة عددا من الوظائف لا يتجاوز العدد الذي توفره وحدة إنتاج عادية في صناعة السيارات! إن الصناعات الإعلامية العملاقة، فضلا عن الصغيرة، لا تحتاج إلى الكثير من اليد العاملة. وليس ذلك فحسب، إنها لا تحتاج أيضا إلى ارتفاع مستوى المعيشة في المجتمعات لتحقق مستويات أفضل من المبيعات، وذلك لسبب بسيط، فهي تقدم خدماتها مجانا أو بمقابل زهيد! إن طبيعة نشاطها يجعلها من غير حاجة إلى مصانع، يكفيها مهندسون أكفاء يمكن أن يكونوا منتشرين في كل أنحاء العالم ومرتبطين بين بعضهم البعض بواسطة الإنترنت.

باختصار.. تحقق الصناعات الإعلامية والرقمية مرابيح ضخمة لمالكيها، لكنها لا تساهم إلا مساهمة محدودة في تطور النمو الاقتصادي العام، لأنها لا تحتاج إلى عدد كبير من العمال ولا إلى مستوى معيشي مرتفع للمستهلكين. فاقتناء حساب على تويتر أو فيسبوك متوفر مجانا، ويكفي لذلك امتلاك هاتف ذكي أو حاسوب بسيط، ولا يمكن مقارنة ذلك بشراء سيارة، وأولى أن لا يقارن بتكاليف اقتناء مسكن أو تعليم الأبناء. في حين أن حاجيات الإنسان حسب الأولوية هي على عكس هذا الترتيب، فالإنسان يحتاج إلى مسكن وقد أصبح ثمنه في غاية الارتفاع، ثم يحتاج إلى سيارة وقد أصبحت متاحة للطبقة الوسطى ولكن بشرط أن يجد الشخص فرصة عمل، أما حاجته إلى تويتر الذي أصبح متاحا له مجانا فهي حاجة أقل إلحاحا.

بل إنَّ مطالعة الكتاب تكشف عن وقائع أخرى أكثر خطورة. فالارتفاع المطرد في أسعار البيوت، سواء للتملك أو الكراء، هو نتيجة من نتائج الاقتصاد الرقمي؛ لأن هذا الاقتصاد يوفر كمية من الأرباح والسيولة أعلى بكثير من قدراته على إعادة استثمارها في مشاريع منتجة، مما يجعل جزءا من السيولة يتجه إلى النشاطات القائمة على المضاربة مثل شراء العقارات، وقد قدمت أزمة الرهن العقاري الأمريكية سنتي 2007 و2008 المثال على ذلك: لقد أحدث الاقتصاد الرقمي فقاعة كاذبة عندما ضارب على العقارات وأنشأ مشاريع سكنية تتجاوز الطلب، ثم قام بالرفع من الطلب بتقديم قروض مغشوشة للفقراء ومتوسطي الدخل كي يساهموا في شراء مساكن لا يسمح لهم دخلهم الحقيقي باقتنائها، وأخيرا انفجرت الفقاعة بعجز هؤلاء عن تسديد القروض، فلم يرتفع مستوى معيشتهم بل ازدادوا فقرا، كما لم يُساهم القطاع العقاري في رفع النمو الاقتصادي بل تسبب له في أزمة جديدة.

قد يُحاجج البعض بالقول إنَّ هذه الوضعية تخص الغرب، وإننا إذا انتقلنا إلى مجتمعات أخرى، مثل الصين والهند، وجدنا نسب النمو مرتفعة؛ فالأمر قد لا يعدو مجرد انتقال المركز الاقتصادي للعالم من الغرب إلى بلدان غير غربية. هذا الطرح له العديد من الأنصار، لكن دانيال كوهين وأمثاله من المحللين يتجهون إلى تفنيده، من منطلقات مختلفة. فالسؤال بالنسبة إلى الصين أو الهند لا يدور حول القدرة على تحقيق ما حققه الغرب في العهد الصناعي، وإنما على ما سيترتب من عواقب إذا ما تحقق هذا الافتراض. لنتأمل الأمثلة التالية: لو أن الصينيين اعتمدوا نفس العادات الاستهلاكية للغرب، فإنهم سيحتاجون بحلول سنة 2030 إلى ثلثي الإنتاج العالمي للحبوب، وإذا ما أصبحت الأسر الصينية تمتلك سيارتين لكل بيت، كما هي الحال في الولايات المتحدة، فإن المساحة الضرورية لإيواء هذه السيارات ستعادل سنة 2030 مساحة كل حقول زراعة الأرز في الصين. وإذا استهلك الصينيون الورق بنفس الكمية المستهلكة في الغرب، فإن ذلك سيتطلب تدمير كل الغابات الموجودة في العالم.

باختصار.. إن النموذج الاقتصادي الغربي المعولم لا يمكن أن يطبق في بلد سيبلغ عدد سكانه سنة 2030 حوالي المليار ونصف الميار، وقس على ذلك الهند والبرازيل وبقية الاقتصاديات الصاعدة.. وكما يقول الكاتب، إن المشكلة في النهاية هي ذات طبيعة ثقافية لا اقتصادية، وكذلك يكون حلها... أو لا يكون.

------------------------

- الكتاب: "العالم متناه والرغبة غير متناهية".

- المؤلف: دانيال كوهين.

- الناشر: باريس، ألبان ميشال، 2015.

أخبار ذات صلة