«الحداثة السائلة»

bn3357-1.jpg

لزيجمونت باومان

ماجد العلوي

سيجد القارئ مُبتغاه عن مفهوم الحداثة في هذا السفر، ربما حجمه الذي لا يتعدى 300 صفحة يشكل كتابا لا سفرا، ولكن زيجمونت باومان أعقبه بمجموعة كتب تشكل في مجموعها سفرا كبيرا، والذي بين أيدينا جزء منه، تتحدث في مجملها عن كلمة مفتاحية وهي "السيولة". وفي هذا الكتاب، يضعنا الكاتب أمام مفهوم الحداثة، وما بعد الحداثة؛ ذلك المفهوم المعرفي الذي تحول من المادية القديمة "الصلبة" إلى المادية الجديدة "السائلة"؛ لفهم التغيرات التي حدثت في المجتمعات الغربية على وجه الخصوص، وفي معظم أنحاء العالم، فلم يعد التغيُّر مرهونا بثقافة معينة، ولا ببقعة جغرافية محددة، والعالم بات قرية صغيرة كما تقول أبجديات العولمة.

لقد جاء هذا الكتاب بمحاولة تسعى لفهم التغيرات التي تطرأ على المجتمعات في زمن الحداثة، وأن الحداثة لم تتماسك هي ذاتها، بل طرأ عليها التغير؛ مما أغرى الكاتب تسمية هذا التغير بالسيولة بعدما كانت صلبة، بل يرى أن الحداثة عملية إذابة من البداية.. ويتساءل: "ألم تكن الحداثة -في الأصل- إذابة كل ما هو صلب؟ ألم  تكن هذه هي هويتها الأساسية ومهمتها الرئيسية من البداية وعلى مر الزمان ؟ ألم تكن الحداثة مائعة منذ نشأتها ؟".

 

سيبرِّر باومان في ثنايا دراسته مشروعية هذه الأسئلة، ومن ثمَّ سيرصد تمظهرات الحداثة التي كانت صلبة وأصبحت سائلة، كانت ترمي إلى الوصول إلى الحقيقة المطلقة، وانتهى بها المطاف إلى اللاحقيقة، بدأت بتوليد مفاهيم إنسانية تحرر الإنسان من كل شيء، تحرره من سلطة الغيب؛ وتزيد ثقته بالعقل الإنساني لكونه مركز الكون؛ فإذا بالإنسان الغربي يجد نفسه أمام سيولة حضارية كاملة، ولا يمكن فهم هذه الظاهرة إلا في إطار تحليل حضاري فلسفي عام كما سنجده في مقاربات هذا الكتاب.

وزيجمونت باومان.. عالم اجتماع بولندي (ولد في نوفمبر عام 1925). ومنذ العام 1971م، استقرَّ في إنجلترا بعدما طُرِد من بولندا من قبل حملة معاداة الساميّة، عمل أستاذا في علم الاجتماع في جامعة ليدز (منذ عام 1990م أستاذ متقاعد) عُرف باومان بسبب تحليلاته للعلاقة بين الحداثة والهولوكوست، وأيضاً ما يتعلق بالمذهبية المادية (الاستهلاكية) لما بعد الحداثة، صدر له مؤخرا مجموعة من الاصدارات تشكل نظرته حول مفهوم السيولة: الحداثة السائلة، الحياة السائلة، الأزمنة السائلة، الثقافة السائلة، المراقبة السائلة.

ويتناول الكتاب تجليات مفهوم الحداثة، وانتقال معالمها من الحالة الصلبة التي كانت تشكل هياكل، وأبنية، وتصورات، ومفاهيم مستقرة إلى حالة السيولة في ظل العولمة وثورة الاتصالات وتنامي تدفقات البشر والأموال والسلع عبر القارات؛ لذا رصد الكاتب هذه التجليات من خلال المحاور الآتية: مفهوم الحرية (الذاتية والموضوعية) ونمو الفردية وسط نظام الرأسمالية، وتعامل الرأسمالية مع الزمن والحركة الدائمة، ومن ثمَّ تأثير هذه التفاعلات على التجمعات الإنسانية. واستعمل باومان مصطلح السيولة لكونه أنموذجا تفسيريا لنقد منجزات الحداثة، وقد وجد القارئ العربي هذا المصطلح شائعا في كتابات المفكر الراحل عبدالوهاب المسيري، ويبدو أن المسيري هو أول من التقط هذا المفهوم وأخذ ينقد هو الآخر منجزات ما بعد الحداثة، وقد اتفقا إلى حد بعيد في المعالجة، ووصلا إلى توصيف صنيع الحداثة بأنها تقوم على فكرة أن العقل الإنساني له القدرة على تفسير ذاته وبيئته والكون المحيط به، وعليه فإن الميتافيزيقيا ليس لها إلا التراجع، وفسح المجال لهذا العقل أن يسود، ولكن هذه الفكرة التي ظن كلاهما أنها ثابتة سرعان ما أثبتت الدراسات الاجتماعية أنها تزعزعت، وأصبحت متغيِّرة بل ومفككة، كذلك اتفقا على أن أُولى المواد الصلبة التي قررت الحداثة إذابتها، وأُولى المقدسات التي قررت تدنيسها تتمثل في الولاءات التقليدية والواجبات والحقوق المعهودة التي تجعل الحركة الاجتماعية أكثر تماسكا، لكن قوى الفعل الجمعي تسير بهذه المواد الصلبة إلى السيولة.

في الفصل الأول: تناول مفهوم الحرية، الذي بات يزدهر إبان فترة ما بعد الحروب العالمية ازدهارا مشهودا في جميع مناحي الحياة، وهو يعني حرفيا إطلاق السراح للأشياء جميعها من القيود والأغلال التي تعوق الحركة أو تعترضها، ومن ثمّ الشعور بحرية الحركة أو الفعل.

بدأ بومان يعالج الموقف الحقيقي للناس تجاه الحرية من خلال تحديد موقف الجماهير من الحرية، فما كان مستقرا في الضمير الإنساني بأن الحرية مطلب جماهيري لا نزاع فيه، وأنها نعمة حضارية، أثبت الكاتب بالتحليل السيسولوجي أن الكثير من الناس يعتبرونها نقمة، وبات عصر ما بعد الحداثة يكشف لنا تصورا آخر بأن المزاج الجماهيري في مجمله -ببساطة- لا يريد أن يكون حرا خشية المصاعب والآلام التي ربما تجلبها استحقاقات الحرية وممارساتها، وفي هذه المعالجة يستحضر بومان كعادته ثقافته الموسوعية التي تحكي لنا ملحمة الأوديسا (أوديسيوس والخنازير: الحضارة وأوجاعها) بأن البحارة الذين سحرتهم سيرسي إلى خنازير استحبوا وضعهم الجديد، وتكيفوا مع سحر الساحرة التي سلبتهم كل معاني الحرية وهم في رضا تام، فهذه القصة يعدّها باومان دراما مصغرة عن قصة السيولة الحداثية وموقفها من الحرية.

أما الفصل الثاني، فتناول الفردية ومدى تأثير فلسفة الرأسمالية عليها، وأدرك بومان أن تأثير رأسمالية كان خفيفا على حياة البشر، وأصبح ثقيلا في ظل تسارع البشرية على الاستهلاك لتحقيق الرفاهية المزعومة، ويرى أن الرأسمالية الثقيلة ترتكز على اتساع الفجوة بين الفئة المنتجة المسيطرة وبين المستهلكين؛ ذلك الاتساع الذي يرسم تمايزا حادا يستغل فيه القوي شغف الضعيف بعيدا عن القيم الإنسانية التي تدعوا إلى العدل والمساواة ونيل الحقوق.

لقد حطَّت الرأسمالية من القيم الإنسانية، ولم تعير لها بالا، فسالت -من السيولة- تلك القيم جراء السلوك العقلاني الحسابي الذي لا يعترف إلا بوجود سلطة متحكمة في الحياة تدفع الناس نحو الاستهلاك، وكان الثمن عجز الناس عن الوفاء بمتطلبات الحياة الجديدة فحل القلق وساد اللايقين الدائم.

وفي الفصل الثالث تناول الكاتب (الزمان/المكان) وهما عنصران استقر في وجداننا الإنساني أنهما من الصلابة التي تعجز الأنظمة الإنسانية من التحكم فيهما، غير أن الحداثة استطاعت تغيير هذه النظرة، وأعادت تعريف الزمان والمكان لتمنحهما معاني أكثر اقترانا بالرأسمالية، التي تتكئ على المنفعة، هذا يعني توجه الإنسان نحو اشباع رغبات الذات، وتجاهل الحياة الاجتماعية العامة، وقد ناقش بومان هذه النقاط ببراعة مستحضرا عدته النقدية في النصوص الأدبية التي تنبأت بمثل هذه الإرهاصات، ومن أهم المفاهيم التي ناقشها في هذا المجال استلزامات بيئة الحضر التي فرضت على الناس نمطا من الغربة القائمة على اهتمام الفرد بشئونه، فيظهر الإنسان ذا البعد الواحد الذي تم ترشيده نحو الاستهلاك فقط.

لقد تحكم الإنسان بالزمن من خلال اختراعاته فائقة السرعة، فلم يعد الزمن مشكلة وسائل عضوية تفتقر إلى المرونة، إذ أصبح الزمن هو طرف التحول؛ أي الشريك الفاعل في العلاقة الزوجية بين الزمن والمكان حسب تحليل بومان.

بينما تناول في الفصل الرابع مفهوم العمل وطبيعته؛ ذلك المفهوم الذي اعتلى أفضل مراتب القيم الإنسانية؛ لأنه يحوي فضائل إنسانية فاعلة، فالعمل الإنساني لديه قدرة على تشكيل ما لا شكل له، واستدامة ما لا يدوم، وفيه الضمان لحياة إنسانية رغيدة خصوصا إذا أُضيفت له فضائل تسهيل الحياة على الناس كزيادة الثروة، والحد من بؤس الضعفاء.

لكنَّ الحداثة انتهكت تلك القيم، وأصبح نظام الرأسمالي يشجع على الثراء، ولكن ثراء الفرد لا ثراء الجماعة، هذا الانكفاء الفردي أخل بالنسق القيمي للعمل، وتحول العمل من عالم بناء النظام والتحكم في المستقبل إلى عالم الترشيد من أجل الفئة.

وفي الفصل الخامس تناول الكاتب العناصر المكونة للمفهوم الكلي للجماعة تحت عدة عناوين؛ من بينها: إشكالية القومية، والوحدة، والأمن، وثنائية الأمة والدولة...وغيرها، يرى أن مفهوم الجماعة تنازعته فلسفتان؛ هما: الفلسفة الليبرالية وأنصار النزعة الجماعية، وقد غلب على هذا النزاع الطابع السياسي لا الاعتبارات البشرية، وبين النزعتين بون شاسع، فالاعتبارات السياسية تقوم على المصالح، والنزعة الاجتماعية البشرية تقوم على الروابط الإنسانية الأخلاقية، ولكن هذا الأمر الأخير لا يستقيم في زمن ما بعد الحروب العالمية؛ إذ أصبحت الروابط الإنسانية أكثر هشاشة من ذي قبل، وأصبح الفرد مناطا بأعباء تدفعه إلى التفكير بالذات الفردية أكثر من التواصل الاجتماعي؛ فالروابط المشتركة التي تربط الجماعات كالتاريخ المشترك، واللغة المشتركة، والتراث المشترك، والمدراس الفكرية المشتركة لم تعد بذلك البريق الذي يرنو إليه أصحاب النزعة الجماعية، أو كما يقرر باومان أنها أصبحت موضة قديمة، وتفسير ذلك أنَّ هذه المشتركات ما عادت استحقاقا يهم الفرد، وهذا يعكس مدى تغير طبيعة الحياة في ظل الحداثة السائلة.

 

- الخاتمة:

وعود على بَدْء، استشرف الكاتب زيجمونت باومان مستقبل الحداثة وما بعد الحداثة من خلال استنطاق التغيرات التي يرصدها في الحياة اليومية، وكان يستشرف جل استنتاجاته من الأدب العالمي وخصوصا الروايات والأساطير؛ فكانت معظم إحالته من عالم الأدب، سرد للقارئ أسطورة "الأديسا"، و"ربنسون كروز"، و"موبي ديك" و "رجل بدون صفات...وغيرها؛ مما يُشعرك بأمرين مهمين؛ أولا: أن وظيفة الأدب الاستشرافية تحظى بقيمة معرفية لدى الكاتب، والأمر الثاني أن الكاتب اعتمد في إحالته على عالم الأدب تسهيلا وتشويقا لقضية فلسفية غاية التعقيد، ولم يكتف بومان بالأدب وحسب، بل استحضر عدته من المفاهيم الفلسفية والاجتماعية والاقتصادية والفيزيائية بشكل كبير.

وتذكُر مُقدِّمَة الكتاب الدكتورة هبة رؤوف عزت معايير تبدو غاية الأهمية تدعو إلى قراءة هذا الكتاب.. من أهمها:

- تحليلات الكاتب العميقة دون الإغراق في تفاصيل الحداثة الفلسفية المبهمة.

- معالجات الكاتب للحداثة في تمظهراتها الحياتية.

- رؤية الكاتب النقدية التي تقوم على إعطاء القارئ الأدوات المنهجية لفهم مجريات عصره وفك شيفرته وغموضه.

ومما يجب التنبيه إليه في نهاية المطاف أنَّ السيولة التي أطلقها بومان وصفا للحداثة لا ترادف الفوضى؛ بمعنى انعدام النسق الناظم لمجريات الحياة، وإنما يؤكد أن هذه السيولة تعني قدرة الإنسان للآن على كسر ما لم يكن مسموحا بكسره، وتحرر من القيود الإنسانية العامة، وخلق صيغ من الأفعال غير المنتظمة، لكنها في الوقت ذاته تتمكَّن من خلق أرضية سائلة تسمح بالمراوغة والتخلص من الالتزامات المبنية على ما هو سائد وشائع بين الجماعات. وعليه، فإنَّ المرونة هي الثبات الوحيد، والزوال هو الدوام الوحيد، والسيولة هي الصلابة الوحيدة، وهذا يعني في مجمله أن اللايقين هو اليقين الوحيد.

--------------------------

- الكتاب: "الحداثة السائلة".

- المؤلف: زيجمونت باومان.

- المترجم: حجاج أبو جبر.

- الناشر: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الطبعة الأولى، عام 2016م.

- الصفحات: 300 صفحة.

أخبار ذات صلة