«الجبهة الوطنية من جون ماري إلى مارين لوبان: اليمين الوطني الشعبوي في فرنسا»

غلاف كتاب الجبهة الوطنية.jpg

 لنيكولا جينجا

أمين منار

شهدتْ أوروبا إبان العقدين الأخيرين تحوُّلات عميقة في تشكيلاتها الحزبية الناشطة، لا سيما في مكونها اليميني المتطرف؛ فقد باتتْ الأحزاب اليمينية ذات التوجهات المغالية حاضرة بقوة في جل بلدان غرب أوروبا، نذكر على سبيل المثال: "الحزب الشعبي الدنماركي" و"عصبة الشمال" في إيطاليا، و"حزب الحريات" في هولاندا. وهو ما يشي بتحولات سياسية خطيرة على مستوى القارة في قادم السنوات. "الجبهة الوطنية الفرنسية" هي إحدى هذه التشكيلات السياسية الناشطة ضمن هذا التحوُّل العام. فقد مرَّت تقريبا ثلاثة عقود على طفوها على الساحة الفرنسية، وإن كانت في الواقع قد تأسَّست قبل ذلك في أكتوبر من العام 1972؛ لكن على مدى عشرية بأكملها كان حضورها خافتا. وما إن أُعلنت نتائج الانتخابات المحلية خلال الفترة (1982-1983)، وما تلاها من نتائج الانتخابات الأوروبية، حتى تسلطت الأضواء على الجبهة في الداخل والخارج وباتت محل متابعة من عديد الأطراف.

تناولت سيرة الزعيم المؤسِّس للجبهة جان ماري لوبان العديد من الأقلام. فالرجل محارب سابقٌ في حرب الهند الصينية، وضابط مشارك في جيش الاستعمار الفرنسي في الجزائر، لا يزال محل متابعة جراء ما اقترفه من جرائم تعذيب. حقق حزبه نقلة نوعية مع ثمانينيات القرن الماضي بدخول خمسة وثلاثين نائبا جبهويا تحت قبة البرلمان الفرنسي.

وخلال التسعينيات، تصدَّرتْ الجبهة الأحزاب العمالية في فرنسا، مع سيطرة مهمة على مجالس بعض البلديات. ومع تقدم السنوات، وتحديدا في الحادي والعشرين من أبريل من العام 2002، حصدت 4.800.000 صوت في الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية، مكَّنتها من إزاحة المرشح الاشتراكي ليونيل جوسبان. كان حدثا بازا وصول اليمين المتطرف إلى الدورة الثانية في الانتخابات، عبرت عنه "صحيفة لومند" الفرنسية "بحصول 11 سبتمبر سياسي"، ومنذ ذلك العهد طفت الجبهة على ساحة الأحداث.

كتاب الباحث السياسي الإيطالي نيكولا جينجا هو أحد المؤلفات القيمة التي تناولت هذا التشكيل السياسي اليميني بالدراسة والتحليل. وهو نتاج متابعة متواصلة غطت عشر سنوات -كما أورد الباحث- هدفت لتحليل ظاهرة الشعبوية الحزبية في النظام السياسي الفرنسي، لا سيما مع الجبهة الوطنية؛ حيث يصنف جينجا الجبهة الوطنية ضمن اليمين المتطرف؛ وذلك من خلال تتبع تشكل الأرضية التاريخية-الأيديولوجية، والسياق التأسيسي للحركة، والبنية التنظيمية، فضلا عن البرنامج السياسي، والديناميكية الانتخابية التي صعدتها إلى الركح السياسي.

يوزع الباحث جينجا كتابه على خمسة فصول؛ ففي الفصل الأول المعنون بـ"هل جون ماري لوبان زعيم كاريزمي؟" يعيد النظر في خاصيات الصلابة التنظيمية للحزب وعوامل تقدمه الانتخابي؛ من خلال تفحُّص مفهوم الكاريزما المضفى على الزعيم المؤسس للجبهة، بوصفه قيادة ملهمة كما يصوره الإعلام اليميني. ومن المعروف أن مفهوم الكاريزما، أو المهابة، يعود استخدامه في الأدبيات السوسيولوجية إلى عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر. فالشخصية الكاريزمية كما يحدد معالمها، هي حالة الشخصيات النبوية، التي تملك بحوزتها مشروعا إصلاحيا ونسقا خلقيا، وتبشر بخلاص الأتباع المتأسس على النقد الضمني للأعراف الشائعة والأوضاع السائدة. ولكن الشخصية الكاريزمية في الجانب السياسي هي بالفعل شخصية قيادية تبشر بوعود، وتدفع نحوها الناس. حيث بمقدور تلك الشخصية القيادية الإيحاء بأفكار جديدة، ورسم معالم نموذج سياسي بديل عما يسود في المجتمع. وفي المحصلة، يتمثَّل مفهوم الكاريزما في وجود زعيم تتلخص في شخصه شمائل القائد الفذ. وبالتالي تتضافر في الحالة الكاريزمية فرادة القيادة، ذات القدرات الخارقة، ومجموع الأتباع الذين تهفو أرواحهم إلى بعث اجتماعي مرتقَب.

لكنَّ جينجا بعد استعراضه خاصيات الشخصية الكاريزمية، كما تحدث عنها فيبر، يتساءل عن مدى تماثل تلك الخاصيات مع شخصية جان ماري لوبان. وإن يجاري مؤلف الكتاب فيبر في اعتبار الكاريزما عطية طبيعية، فهو يذهب إلى أنها تتشكل في الزمن وتمر عبر شروط اجتماعية سياسية. ليخلص إلى أن مفهوم الكاريزما المضفى على شخصية جان ماري لوبان مبالَغ فيه. فإن يكن الرجل بالفعل كما يُصور، وتنسحِبُ عليه مواصفات الشخصية الكاريزمية، فأين كان طيلة السبعينيات وهو يقود الجبهة؟ فلمْ يطفُ على الساحة الفرنسية سوى مع توافر شروط اجتماعية وسياسية: الأزمة الاقتصادية، وتفاقم آثار الهجرة، وفشل اليسار في السلطة. ويذهب نيكولا جينجا إلى أن سمة الكاريزمية التي أُضفِيت على جان ماري لوبان من قِبل بعض الكتاب، مثل نونا ماير، ليست نتاج "شمائل صوفية" للرجل، وإنما هي نتاج ما كان يضمنه من توازنات داخل حركته وما كان يجرؤ على التصريح به تجاوزا للمسكوت عنه.

وفي الفصل الثاني "سنوات الثمانينيات: تمعُّن في بنية النظام السياسي"، يستعيد جينجا بناء المسار الانتخابي الذي خاضته الجبهة بين سنوات 1981 و1984 وما حققته من نتائج باهرة، وهو ما فسره البعض بتبِعات ما حل باليسار من تفكك. لكن جينجا يبرز دور الحضور الإعلامي الحاسم للجبهة، لا سيما في تناول موضوعيْ الهجرة والأمن، في تشكيل صورة إعلامية للحركة في المشهد السياسي الفرنسي. وهو ما يُؤكده الباحث بترافق تصاعد شعبية الجبهة مع استفحال تأزمات بنيوية ألمَّت بالمجتمع الفرنسي. حيث اغتنمت الجبهة حينها حالة تعكر الأوضاع السياسية في معالجة قضايا مصيرية لتطرح وعودا مثَّلتْ إغراء للناخب الفرنسي. والجلي أن ما يذهب إليه جينجا بات متقاسَما بين العديد من المحللين في النظر لظاهرة الجبهة الوطنية كعَرَض لأزمة متعددة الأوجه، سياسية واقتصادية واجتماعية، احتدمت تفاعلاتها تحت تأثير فشل سياسة الهجرة. فقد اعتمد الفرنسيون التذويب القسري، المسمى ظاهرا بالاندماج، وطغى على مجمل سياسات الهجرة ضربٌ من اليقين، مفاده أن الوافِد سوف ينصهر ويتلاشى في ذلك المد الجارف، وشُبه للكثيرين أن الجموع المهاجرة، التي غدت في الحقيقة مستوطنة، سائرة في نسق من الذوبان لا مناص منه، وهو ما لم يتحقق.

وهو ما جعل جينجا يرجح أن تطور الجبهة يتصاعد قدما باتجاه الإمساك بالسلطة، تحت دفع الشعبوية الجديدة وجراء تنامي ظاهرة اليمين المتطرف التي تجتاح أوروبا، لا سيما وأن خطاب الجبهة يتمحور حول مسائل تغري الشارع الفرنسي.

الفصل الثالث المعنون بـ"هل الجبهة الوطنية حالة شعبوية؟"، يركِّز على التحليل النظري للظاهرة الشعبوية من خلال تبين مدى تماثل تلك الظاهرة مع طروحات الجبهة. حيث يسعى جينجا لتفكيك الثقافة السياسية للحزب والتمعن في مقولة "الشعب" لديه بوصفها مقولة محورية في خطابه السياسي. الشعبوية كونها توظيفا براغماتيا لتطلعات الناس الملحة من أجل استغلالها حزبيا وأيديولوجيا لغرض سياسي. يعتمد الباحث أدوات علم الاجتماع السياسي في تحليل الظاهرة الجبهوية في فرنسا، فضلا عن تحليل الخطاب الإستراتيجي للزعيم المؤسِّس ولابنته وريثة القيادة في الحزب من بعده، والمقارنة بين نهجيْ قيادة الجبهة. كما يسعى إلى تفحص أنواع اليمين بأطيافه، من اليمين المحافظ مرورا باليمين البراجماتي وصولا إلى اليمين المتطرف.

فالجبهة الفرنسية تحقق رواجا في أوساط العمال، على ما يرصد جينجا، جراء تبني الجبهة لسياسة مغرية في حل أزمة البطالة، لا سيما حالة العمال المؤقتين والمسرَّحين التي تؤرق ملايين العاملين، والتي لا تجد في السياسات الهشة للحكومات المتعاقبة حلا مرضيا. اعتمدتْ في ذلك الجبهة خطابا دراميا عن الأوضاع الاجتماعية، استطاعت من خلاله جلب شريحة واسعة من الناخبين الساخطين على الوضع القائم وإن كانوا متنوعي المشارب السياسية.

أمَّا الفصل الرابع "اليمين الفرنسي بين النظرية والتطبيق"، فهو يتفحَّص الأرضية الأيديولوجية والتاريخ السياسي اللذين يقف عليهما الحزب؛ وذلك باعتماد منهج المقارنة السياسية بين الجبهة والإرث الفاشي الإيطالي، من خلال تتبع ذلك في مقولات الحركة الفكرية لليمين الجديد الفرنسي ومقولات الفاشية الإيطالية. فالجبهة الوطنية الفرنسية تتماثل من حيث موقفها من اليسار واليمين مع موقف الزعيم الإيطالي موسوليني، باعتبار كلاهما يزعم خيانة التوجهين، اليساري واليميني، للمشروع الوطني سواء الفرنسي أو الإيطالي. لِيصلَ الكاتب إلى معالجة كيف تتنزل ظاهرة لوبان داخل بانوراما الديمقراطية الأوروبية اليوم التي بدأت تشكو ترهلا. فالظاهرة اليمينية الفرنسية ليست ظاهرة قاصرة على فرنسا، بل هي ظاهرة أوروبية تتشابه مولداتها الاجتماعية وتتماثل خطاباتها السياسية.

تُقابِل ذلك وعودٌ من الجبهة الوطنية بتحقيق "دولة رفاه شوفينية" ترفع شعارَيْ "الأولوية والأفضلية للفرنسيين" و"فرنسا للفرنسيين"، وهو ما يجعل فرنسا من منظور الجبهة "جمهورية حكرا على الفرنسيين" وليست تلك الجمهورية المنفتحة المتولدة عن مبادئ الثورة الفرنسية. وحتى مفهوم اللائكية الذي تلوح به الجبهة فهو مفهوم حصْري، ولا يُحيل إلى حياد الدولة في مقابل سائر الأديان، بل هو عبارة عن صراع بين مختلف الأنماط الحضارية. حيث نجد من جانب الغرب المسيحي المعلمَن. ثمة خاصيات فاشية في الخطاب السياسي للجبهة يسعى جينجا لإبرازها، سواء من حيث الإلحاح على أولوية الفرنسي، أو من حيث إلقاء التهمة على الآخر الدخيل. فهناك مميزات "قومية وطنية" لافتة ذات طابع فاشي في الأيديولوجيا السياسية للجبهة.

وفي الفصل الخامس والأخير المعنون بـ"التقليدية الجمهورية لمارين لوبان"، يُجري الكاتب مقارنة بين النشاط السياسي لقيادتيْ الجبهة، الأب والابنة، لمعاينة الاتصال والانفصال بين الزعامتين. لا سيما مع اقتراب الجبهة من الرئاسة الفرنسية وتشكلِ خطاب حول مراجعة الإرث الجمهوري من خلال الاستحضار الدائم لموضوعي العلْمنة والأسْلمة لفرنسا. مبرزا ما يتميز به خطاب الجبهة من وصاية على العلمانية واللائكية أمام ادعاء زحف الأسلمة. إذ يرصد جينجا رؤية مفارقة للهوية الوطنية لدى الجبهة بوصفها هوية متعالية، وهو ما يتناقض مع الواقع الفعلي كون الهوية متحركة وخاضعة للتشكل الدائم. وهذا التصور الجامد للهوية هو ما يميز التيارات اليمينية في قراءتها للمسألة بكونها خارج التغير التاريخي، وبالتالي من السهل توجيه إصبع الاتهام للمهاجرين باعتبارهم نقيضا لتلك التصورات المفارقة.

فقد شكَّلتْ الأزمة المركَّبة، الديمقراطية والسياسية والاقتصادية، التي تمرُّ بها "الجمهورية الخامسة" دافعا لفوز الجبهة في الانتخابات الأوروبية 2014، وكذلك في الانتخابات البلدية الداخلية. ويعتبر جينجا التحول من جان ماري لوبان إلى مارين لوبان هو تحولٌ على مستوى المشهد والصورة، وليس على مستوى الجوهر، حتى وإن لاح مع مارين لوبان انفتاحٌ على نسجِ تحالفات مع اليمين الجمهوري ومع الليبراليين المحافظين. يبقى هناك تواصلٌ في خطاب القيادتين في المعاداة الصريحة لليسار، يتمحور بالأساس حول رفض الجبهة مفهوم "المساواة والعدالة للجميع" مع "التنكر للبعد الكوني لمبادئ الثورة الفرنسية". وهو ما يجعل الجبهة أقرب للمقولات الطاردة للأجانب في معالجة القضايا الوطنية. يتغذى ذلك بالأساس من انتشار ظاهرة الإسلاموفوبيا، التي وجدت في خطابات الجبهة سندا سياسيا فاعلا، تعضدها وطأة الأوضاع الاقتصادية المستفحلة مع توالي السنين.

حيث يسود مناخ سياسي عام في أوروبا، الإسلام فيه مدان، وليس من الهين تحويله إلى مدين، أو الحديث فيه عن مظلومية، يمتد من التغاضي عن ظاهرة الإسلاموفوبيا إلى التبخيس من شأنها. تقول الإيطالية أناماريا ريفيرا في مؤلفها: "غرباء وأعداء.. الميز والعنف العنصري في إيطاليا" (2003): "لا تشكل مسائل كره الأجانب ولا العنصرية مواضيع ذات شأن في الخطاب العمومي في إيطاليا. وهي عادة مواضيع خاضعة للرقابة الضمنية من قِبل وسائل الإعلام والمؤسسات؛ بل حتى في فضاء الدراسات المختصة فهي تُعَد غير ملائمة وغير لائقة".

وبشكل عام، يُطالعنا في كتاب جينجا تحليلٌ سياسوي مُفرط في تناول الظاهرة الجبهوية، دون إيلاء اهتمام للأوضاع الاجتماعية بما يكفي، وهي التي تدفع الجبهة إلى سطح المسرح السياسي الفرنسي. والحال أن الجبهة هي نتاج أزمة اجتماعية مستفحلة في المجتمع تتقاطع مع البطالة ومع سياسة الهجرة التي وصلت إلى طريق مسدود. فهناك فشلٌ في استيعاب شرائح واسعة من المهاجرين خلفت طروحات سياسية أحيانا تقليدية ومحافظة وأخرى ديماغوجية، دون طرح حلول اندماجية واقعية. لكن رغم الطابع السياسوي للكتاب، يبقى من الأبحاث الجريئة والدقيقة التي تستشرف مستقبل أوروبا على ضوء التحولات الراهنة.

*****

نبذة عن المؤلف:

نيكولا جينجا.. باحث إيطالي يهتم بالخطابات السياسية والإعلام، متعاونٌ مع عدة مراكز أبحاث في إيطاليا وفرنسا. تتركز أبحاثه في المجال السياسي الفرنسي. من أعماله الصادرة: "خطابات الرؤساء الفرنسيين من جيسكار ديستان إلى ساركوزي" (2012)، و"الأساطير والواقع في الجمهورية الثانية" (2013).

--------------------------------

- الكتاب: "الجبهة الوطنية من جون ماري إلى مارين لوبان: اليمين الوطني الشعبوي في فرنسا".

- المؤلف: نيكولا جينجا.

- الناشر: روبتينو (كاتنزارو-إيطاليا)، باللغة الإيطالية، 2015.

- عدد الصفحات: 202 صفحة.

 

* باحث إيطالي من أصول مغاربية

أخبار ذات صلة