التسامح: شعلة التنوير

غلاف كتاب التسامح شعلة التنوير.PNG

 فاطمة بنت ناصر

يقع هذا الكتاب في 130 صفحة. قام بترجمتها عن اللغة الفرنسية الدكتورة كارولين وارمان من جامعة أكسفورد بالمملكة المتحدة، وقد اشترك معها أكثر من 100 من تلاميذ الجامعة. نشرت نصوص هذا الكتاب بعد أحداث شارلي إيبدو في فرنسا عام 2015، بجهود عدد كبير من الأكاديميين بفرنسا، وهو يضم مجموعة مختارة لأبرز وأهم ما قيل عن: التسامح وقبول الآخر، وحرية التعبير، والمساواة، ونبذ التمييز العنصري، وحقوق المواطنة، ومساواة الأفراد. ولأن الكتاب يحتوي على مختارت واقتباسات، فهو لا ينقسم إلى التقسيم التقليدي من أبواب وفصول. كما أنه لم يبدأ ككتاب أصلا، بل بدأ كملحق وزعته الصحف بعد أحداث فرنسا الدامية عام 2015، ونال شعبية كبيرة. وبمناسبة مرور عام على الأحداث، قامت الدكتورة وارمان وعدد من طلبة جامعة أكسفورد بترجمة محتوياته وإصداره ككتاب.

أهمية الكتاب:

تأتي أهمية هذا الكتاب من حساسية الوقت الراهن، ومن تداعي الأحداث السريع الذي يشتت أفكارنا. فلا نحصل على وقت كاف لفهم وتحليل واقعة بعينها، حتى تباغتنا واقعة أخرى أبشع منها وأشد فظاعة. إن هذا الهجوم الشرس الذي نشهده من مجموعة بشرية ضد أخرى، لا يكون إلا بوجود كم هائل من الغضب وعدم القدرة على تحمل الآخر. ولعل أحداث شارلي إيبدو ليست بالغريبة (علينا)، وأقول علينا لسبب، لأن لها تاريخا محسوبا شئنا أم أبينا على الإسلام والمسلمين؛ فمن أهدر دم سلمان رشدي، ومن قتل مخرج فلم " فتنة"، واغتال فرج فودة، ومن حاول اغتيال نجيب محفوظ، ومن كفر نصر حامد أبو زيد وحرم زوجته عليه.. والقائمة تطول.

إن أحداث شارلي ليست سوى امتداد طبيعي لفكر لم نتصدَّ له و قصرنا نحن كمسلمين في الوقوف أمامه . بل إننا تعاملنا معه بسلبية كبيرة .فإن كنا حقا لا نراه يمثل الإسلام، فلم إذن لم نتكاتف وقتها ضده للدفاع عن الإسلام. لِمَ لم نقم بإنتاج فكري يخاطب ضحايا هذا الفكر المريض؟ فنرى أن التعاطف ـ إن وجدـ يخرج من ألسنه مشتتة،غالباً ما يخونها ويكفرها أخ لها في العقيدة. لقد كان مصطلح ( تجديد الخطاب الديني ) في وقت من الأوقات يقابل وكأنه رجس من عمل الشيطان و دعوة للردة، وُصِم دعاته بالكفر والزندقة. واليوم وبعد فوات الأوان وبعد تجالهنا لكل الاستغاثات بحماية الإسلام من عبث الجهلة،نرى علماء الدين قبل غيرهم ينادون بالسماحة والتذكير بها. ولكن وللأسف لازالت مواجهة التطرف تنفذ بحياء شديد؛ فلا ترى حتى الآن إجماعاً بعدم تكفير الفكر المختلف، سواء عبّر عنه بقلم أو لحن أو رسمة ريشة. إن التراث الإسلامي ـ به ما به من نواقص وقصور العقل البشري المنتج له ـ والتعامل مع التراث بمبدأ ( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه) هو ما سيزيد هذا الطين بلة. أقول هذا، بعد أن قرأت هذا الكتاب، ورأيت كيف تكاتف مثقفو فرنسا أمام موجة الغضب الشعبي التي أعقبت أحداث شارلي إيبدو؛ فوحدتهم المصيبة وتذكروا أن واجبهم الإنساني هو تذكير الفرنسيين بقيمة التسامح ومبادئ الحرية، التي قامت عليها دولتهم الحديثة. وذلك في سعي لكبح جماح الغضب، الذي قد يعميهم من رؤية هذه المبادئ. فهم لايتعاملون بمبدأ العين بالعين، هذا المبدأ الذي قال عنه غاندي بأنه إن عملنا به سيجعل العالم بأسره أعمى.

 لهذه الأسباب كلها سنقف أمام هذا الكتاب، متذكرين أمامه نسياننا في كثير من الأحيان حكمة الرحمن حين قال : " وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ".

محتوى الكتاب ومضمونه :

يتضمن هذا الكتاب اقتباسات لمؤلفات لأكثر من 40 مفكرًا ويحتوي على ٥٩ نصاً بدءا من فولتير، ومونتسكيو، ودنيس ديدرو، وجون لوك، وإيمانويل كانت، وصولا إلى ديديروت وغيرهم الكثير ممن لم يترجم لهم بالعربية. لسنا هنا بصدد ترجمة ماقد كتب، وإن وددنا ذلك، ولكن سأكتفي هنا بالعرض والنقاش، آملة أن يقتنيه القارئ بنسخته الإنجليزية أو الفرنسية المتاحة حاليا أو تلك المتوفرة بصيغة إلكترونية مجانية عبر موقع مؤسسة النشر. كما أدعو أهل الترجمة بأن ننقل مثل هذه الكتب إلى العربية، وعدم السعي وراء إرضاء السوق وتحقيق الربح من مادة قد لا تفيدنا كثيرا في الوقت الراهن الذي يتطلب منا نقل ما يجمع الناس وإن اختلف دينهم لا ما يشتتهم وينفرهم.

كقارئة للكتاب، إن أكثر ما أثار حماسي هو التنوع؛ فهو يتضمن نصوصا من كافة المشارب والأصناف، فلا ملل ولا رتابة تلقاها بصحبته. يبدأ الكتاب بنص قانوني وهو إعلان حقوق الإنسان والمواطنة الصادر في سنة 1789، والذي يعد الوثيقة الأهم للثورة الفرنسية والتي تعلي من قيمة الفرد و سلطة القانون ومكانة الحرية والمساواة وعدم التعرض لآراء أي شخص وإن كانت دينية. يعقب هذا النص القانوني نصوص من النثر والشعر لمختلف رواد حركة التنوير في أوروبا. وقارئ الكتاب يلاحظ أن عنوان كل نص في الكتاب يكتب بجانبه تاريخ مولد ووفاة كاتب النص، بالإضافة إلى تاريخ كتابة النص نفسه. وهذا ليس من قبيل الحشو دون مغزى أو غرض، وإنما هو للتذكير أن كل هذه الأفكار الداعية للتعايش والتسامح والانسجام، هي متأصلة في المجتمعات الأوروبية وذات جذور عميقة. ونلاحظ أن أقدم النصوص الواردة في الكتاب يعود إلى عام 1686. ولا يحتوي الكتاب على نصوص من القرن الثامن عشر مثلا. وهذا أيضا لتذكير الفرنسيين خاصة والأوروبيين عامة، بأن ماضي التعايش وقبول الآخر قديم لأبعد مما يظنون، وإن كانت نصوص القرن الثامن عشر وما تلاه هي الأكثر تداولاً، فإن الماضي يزخر بنصوص عديدة لا يعرف الكثيرون عنها. وهاهم يجمعونها لهم في كتاب موجز ومهم، مذكرين به الأمم كافة أن ثقافة قبول الآخر وصون الحريات التي يتمتعون بها اليوم لم تأتِ بسهولة، بل أريقت في سبيل هذا المسعى النبيل دماء كثيرة، وأن عليهم في هذا الوقت العصيب أن يضبطوا أنفسهم ويسيطروا على غضبهم، وأن يذكروا هذا الإرث التعايشي وتلك الدروس العظيمة، لكي لا يعميهم الغضب الذي تسببت به الهجمات الإرهابية عليهم.

تقنيات العرض في الكتاب:

وللمتعة البصرية مكان أيضاً، فعلى الرغم من اختزال النصوص وقصرها، فقد طُعمت صفحات الكتاب بلوحات فنية عريقه، تنوعت بين بورتيريهات لكتاب النصوص، وصور لأغلفة الإصدارات التي وردت فيها النصوص، وصور لمخطوطات قديمة، بالإضافة إلى لوحات فنية قديمة تعبر عن روح الكتاب ومضمونه.

والجميل أيضاً في الكتاب أنه قد فهم اللغة المثلى لإيصال الرسالة في زمن أحداث سريعة، وردات الأفعال فيه أسرع، وأجساد قليلة الصبر، وأعين بؤبؤها في عجل على الدوام .هذا الزمن الذي يعتمد على الاختزال، فترى النكته القصيرة، والعناوين الموجزة، والوجبة السريعة . فإن ضاقت الحال عن إجراء تغيير بهذا الزمن فعلينا فهمه، لنتمكن من إرسال رسائلنا. وقد فهم الفرنسيون ذلك. ولم ينجحوا في تسويق الكتاب وحسب، وإنما نجحوا في تحبيب الناس به . وما شدني حقاً، أن هذه النصوص رغم قدمها فإنها مبهرة. ولم يغفل المؤلفون هذه النقطة، بل ختموا كل نص، بمعلومات عن النص الأصلي، وكيفية الحصول عليه. بل سهلوا الأمر أكثر، ومهدوا الطريق، فلم يكتفوا باختصار مهمة البحث وإرشاد القارئ إلى كيفية الحصول على النص الأصلي، بل وضعوا أسفل كل نص ( رمزا إلكترونيا) يمكن مسحه بواسطة الهاتف، ليزودك بكامل تفاصيل الكتاب و أماكن بيعه كذلك. إن هذا الذكاء في تسويق المنتج الفكري القديم، نحن في العالم العربي في أمس الحاجة إليه. فكم من كتب قيمة لم نقرأها ولم نفكر حتى بقراءتها. والنفور من القديم هو داء العصر، الذي يمكن التغلب عليه كما برهن لي هذا الكتاب.

مقتطفات مترجمة من الكتاب :

  • مما قيل في حرية العبادة وقبول الأديان:

"وإن وجد شخص بلغ جنونه للحد الذي يعبد فيه ثمرة ويبني لها مذبحاً ليتعبد فيه، كما فعل قدماء المصريين بعبادتهم (للبصل) فلا ينبغي علينا أبدا أن نقف في طريقه ونمنعه، لأنه لم يخالف القانون. والأمر ذاته ينطبق على اليهودي والمسلم والبوذي، فلا ينبغي أن نؤذيهم في معابدهم ومساجدهم، فحق عبادته لما يراه قد خلقه وأنشأه هو حق مقدس ومصون". (آبي جريجويري ـ ١٧٩٤ ـ في حرية العبادة)

  • مما قيل في نصرة الدين بجهالة:

"الخالق ليس بحاجه لأن تدافع عن رسالته، أفبسبب تدافعك تشرق هذه الشمس أو تضيء تلك النجوم؟ لتعلم أن للحقيقة نورها الذي تسطع به. أما ما يتم حرقه عنوة فلا يضيء درب أحد.( جان فرانسوا ميرمونتل ـ ١٧٦٧ـ لن تنير العقول بما يحرق من حطب الإعدامات)

 

  • مما قيل في الحقيقة:

"وبقدر ما يظهره الله لنا من حقيقة ينطق بها كونه، إلا أنه يطالبنا بذات القدر إلى التفكر واكتشاف الحق من الباطل بأنفسنا".( بيير بايلي ـ ١٦٨٦ـ في التسامح )

 

  •  مما قيل في التعصب:

"وإن الذي يضطهد شخصاً آخر ويعامله كحيوان بسبب ما يؤمن به، فهو قد نسي أن أصلهما واحد وكلاهما إنسان".( لويس دي جاكورت ـ ١٧٦٥ ـ التعصب )

 

  • مما قيل في التعليم:

"لا يولد المرء وهو يفكر. التفكير كأي حاسة أخرى يتعلمها المرء. والفرق يكمن في أن تعلم التفكير أكثر صعوبة من غيره. وإن صح لنا تقسيم الجنس البشري، لكان التقسيم الأمثل أن نقسمه إلى مجموعتين : تلك التي تفكر، وأخرى التي لا تفكر. والفرق بين الإثنين يعتمد أولا وأخيرا على نوعية التعليم الذي حصلا عليه" ( روسوـ ١٧٤٤ ـ عن التعليم)

 

  • مما قيل في العنف الديني:

"ماذا تظنون بتلك الفئات أو الدين الذي ينشر التعصب والعنف؟ إن هؤلاء وأمثالهم ممن يعتقد أن العنف قد يزلزل إيمان المرء، لهو يسلط الأنظار عليه وحده، وعلى مشاعره الدينية المهزوزة و اللامتزنة". ( عن اللائجين ـ ١٧٥٦ ـ من الموسوعة )

 

  • مما قيل في تعدد الأديان:

"وأنا أعلم بأن الحروب بين الأديان، قد وجدت منذ قديم الزمان . ولكن علينا أن نقف قليلا عند هذه النقطة. فليس تعدد الأديان كان السبب وراء هذه الحروب، ولكن ضيق النفس عن قبول الآخر وعدم التسامح كانت وراءها. وكل اللوم يلقى على الفكر المتعالي الذي يبشر بنفسه . لقد أخذ اليهود هذا الفكر من قدماء المصريين، وبعدها انتقل كوباء إلى المسلمين واليهود. وما نعيشه الآن من اختلال في الاتزان الفكري، لهو نتيجه هذا الوباء، الذي يقتل المنطق في البشر ويتسبب في خسوفه شيئاً فشيئا". (رسالة من أوسبك إلى ميرزا ـ هذا الجزء تضمنه كتاب مونتسكيو عنوانه: رسائل فارسية - ١٧٢١)

ما أختم به :

بعد أن قرأت هذا الكتاب، ازداد يقيني بأن تراثنا قد ظلم. فإن نبشوا فيه، أخرجوا لنا ما يفرق وليس ما يجمع. وفي المقابل يخجل الأوروبي اليوم، أن يظهر من تاريخه ذلك الجزء الظالم والعنصري. على الرغم من أنه يحتوي على أمور لا تقل وحشية عن تلك التي يحتويها تراثنا. نرى الأوروبي يعمم الحسن من تاريخه ويتبرأ من المعيب فيه ويعترف بأخطاء من سبقوه. يُخشى اليوم منا، كأننا حيوانات ضارية أطلق سراحها على الحضارة. وكيف لا يخشون على الحضارة من وحوش خرجت من رحمنا، دمرت حضارتنا ولن تتوانى في تدمير حضارة الغير. ويجب أن نعترف أن جزءا منا وليس الكل به مرض. وعلينا ألا نكتفي بالبراءة من هذا الجزء ومن أصله، لأن هذا سينعكس بالضرر البالغ علينا. وما قول الرسول عليه السلام : (مَثَلُ المؤمنين في تَوَادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم: مثلُ الجسد، إِذا اشتكى منه عضو: تَدَاعَى له سائرُ الجسد بالسَّهَرِ والحُمِّى)، لدلالة على لزوم التكاتف وعدم لفظ من يسيئون وإن كانوا من جلدتنا . فمن يتبرأ من وحوش داعش وغيرها، لا يتجرأ على تكفيرها فهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله. وسواء أكانوا مسلمين أم من أي ديانة كانت، فهذا الفكر المدمر يجب أن يقابل من البشر أجمعين، بفكر إنساني تلاحمي، ضد أي شخص أو فكر يضيق ذرعاً بالمختلفين عنه، ولا يرى سوى نفسه داعياً ومخلصاً للبشرية.

فكرت بجدية بأن أترجم هذا الكتاب، ولكن تراجعت لفكرة أخرى .أن نقابل هذا الكتاب بكتاب آخر من اقتباسات العرب؛ فنحن أيضا نملك من التراث الفكري نثرا وشعراً، ما نلم به شتاتنا وما نوحد به راياتنا أمام هذا المد الأعمى من العنف. نعم للعنف جذور فينا، يجب أن نقطعها. فإنسان اليوم ليس كإنسان الأمس. من أكل اللحم نيئاً قبل أن يعرف النار، ليس كالذي عرفها. فما الذي جعل وحوش اليوم تحرق بالنار أجساد أخوة لها، إلا بسبب نبش القبور. الذين يخرجون من رحم التراث الجماجم والجثث. وهؤلاء لن توقفهم الطائرات وحربها، بل توقفهم عقول تنبش التراث باحثة عن الكنوز، وحين تعترض طريقها جثة قتلها ظالم، تذكرت قول ربها (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ).

------------------------------------------------------------------------------------

اسم الكتاب: Tolerance : The Beacon of Enlightenment

المترجم: Caroline Warman وآخرون

اللغة: الإنجليزية

الناشر: Open Book Publishers

السنة: 2015

 

 

 

أخبار ذات صلة