عاطفة المسكرية
يقول ابن خلدون إنَّ "الإنسان مدني بطبعه"، وفي مقولته هذه دلالات على صعوبة عيش الإنسان الطبيعي الفطرة مُنعزلا عن باقي أفراد المجتمع؛ حيث تفرض طبيعته ذلك؛ كونه لا يستطيع تلبية كل احتياجاته الأساسية بمفرده. فيبدأ بتكوين علاقات اجتماعية لتحقيق مصالحه التي قد تتعارض في بعض الأحيان مع مصالح الآخرين؛ فيؤدي ذلك إلى حدوث نزاعات قد تضرُّ باستقرار الأفراد أو المجتمع ككل.
وقد أوجد القانون بكونه عنصرا أساسيا في تنظيم العلاقات بين البشر؛ حيث يعمل كخط أحمر في أحيان كثيرة لمنع حدوث التجاوزات التي قد تضر بمصالح الآخرين في أي مجتمع. ويرتبط هذا المفهوم بعناصر أو مفاهيم أخرى مساعدة. فإن كان القانون يمثل القاعدة التي يتوجب على الأفراد اتباعها، فلا بد من وجود رقابة على ذلك، وإلا فلن تكون هناك ضمانات على الالتزام.
وهو ما وَرَد في مقال لمحمد المالكي حول ضمانات استقلال العدالة في الأنظمة السياسية المعاصرة. ونجد فيه توضيحا لعلاقة بعض المفاهيم؛ مثل: القضاء، والعدالة، التي تعد مرتبطة بالقانون، وتشكل عناصر مهمة في مختلف الأنظمة السياسية في آن واحد. وأؤكد على ما جاء في المقال الأخير من كون العلاقة بين مفهوم القانون والقضاء والعدالة هي علاقة وطيدة ومتلازمة، إلا أنَّه يبدو لي -وفقا لما هو مطبق في الواقع- أن القانون يُعدُّ القاعدة أي الأساس، بينما القضاء هو الوسيلة التي يتم اللجوء إليها لتحقيق العدالة. وتتطلب العدالة نظرة حيادية لتحقيقها من قبل القضاء، ويصعُب الوصول إليها إذا كانت هناك تدخلات أو وسائل ضغط من قبل من في يده السلطة على القضاء بهدف تحقيق المصلحة الشخصية على حساب المصلحة العامة، أو أيًّا كانت الأهداف؛ لذلك كان هناك مبدأ الفصل بين السلطات لضمان استقلالية القضاء وأداء دوره على أكمل وجه.
وتقوم أنظمة ديموقراطية كثيرة على هذا المبدأ، وعلى مستويات مختلفة، لكن وردتْ خلافات وانتقادات حول درجة الفصل بين هذه السلطات، وما إذا كان على المبدأ أن ينطبق بفصل تام بين السلطات أو بوجود رقابة متبادلة فيما بينها، وأمور مشتركة أخرى. عندما يردُ ذكر السلطة القضائية من بين السلطات الثلاث واستقلالها، فهناك أمور تتعلق باستقلال القضاء كسلطة وأخرى تتعلق باستقلال القضاة كأفراد وحقيقة اختلفت نصوص الدساتير فيما يتعلق بذلك. وهناك نماذج لدساتير عربية نصَّت على مبدأ الفصل بين السلطات؛ مثل: الدستور الجزائري الحالي -1996- حيث مرَّ بمراحل عديدة قبل أن يصل إلى المستوى الذي هو عليه اليوم. نصَّ الدستور الجزائري على هذا المبدأ منذ حوالي قرن تقريبا، إلا أنَّ الفجوة بين النص الدستوري والواقع الذي كانت تعيشه الجزائر حال دون تحقيق ذلك، ولا يزال للأسف. حتى مع تغيير الدستور الذي كان أكثر واقعية نتيجة المرحلة السياسية التي عاشتها الجزائر. وهذه حال العديد من الدساتير العربية فيما يتعلق بهذا المبدأ تحديدا. وينطبق ذلك على السلطات الثلاث بما فيها القضائية؛ حيث يصعب تحقيق ذلك بغياب السياق المجتمعي الحاضن للعدالة. ومن جهة أخرى، نجد دولا مثل فرنسا ابتدأت تاريخها بنظام قضائي حامٍ للملكية، إلا أننا نجد القضاء اليوم مستقلا عن السلطة التنفيذية فيها، وحاميا للحرية الفردية.
لا بُدَّ أن تكون هناك ضمانات وعوامل مساعدة تدلِّل على استقلال القضاء في مختلف الأنظمة السياسية المعاصرة إذا ما طبقت عليها. أولا: من الضروري أن يحتوي الدستور تحديدا على مادة تنصُّ على استقلال القضاء. وأشير إلى الدستور هنا -الذي من المفترض- كونه الوثيقة الأسمى في كافة الدول، وتأتي بعدها القوانين الأخرى التي لا بد أن لا تحمل في نصوصها أو مضمونها شيئا مخالفا للدستور لسموه، وإن لم يرد ذلك نصٌّ فيه. لأنه يُعدُّ من المبادئ المسلَّم بها في كافة الدول التي لديها دستور أيًّا كان شكله؛ فهنا تكمُن أهمية وجود مادة تتعلق باستقلال القضاء في الدستور. ومن الجدير بالذكر في هذا السياق ما حدث في سوريا في العام 2000م، في اليوم الذي تلي فيه وفاة الرئيس السوري السابق حافظ الأسد، وما تلاه من تغيير نص دستوري من الفصل الثاني في جزء السلطة التنفيذية تحديدا فيما يتعلق بعُمر من يرشح لرئاسة الجمهورية. تعدُّ هذه الاستثناءات نماذج نستدل منها على عدم كفاية نص واحد يُنظم مسألة ما بشكل عام؛ فالتحايل على الدساتير يحدث أحيانا لظروف ملزمة. فلا بد أن تذكر بعض التفاصيل على هيئة نصوص. وخير مثال على ذلك الدستور الألماني في جزئه المتعلق باستقلال القضاء، حيث ورد ذكر أنه لا يمكن إقالة القاضي لأسباب مرتبطة بتمكينه من ممارسة عمله دون أن يخشى على مستقبله المهني نتيجة حكم ما، وإن لم يكن يتوافق مع إرادة إحدى السلطتين التشريعية أو التنفيذية. خاصة وأنه غالبا ما تهيمن الأخيرة على أجزاء كبيرة من السلطة في العديد من الدول. ومن الضمانات التي تعدُّ مُهمة كذلك: الضمانات السياسية؛ حيث الاستقرار وقبول فكرة دولة القانون، وأنه فوق أي سلطة في الدولة. إضافة إلى مبدأ الفصل بين السلطات الذي سبق وذكرنا صعوبة الوصول إليه في الواقع لأسباب تتعلق بالفجوة بين النصوص والواقع، وكذلك بسبب مركزية السلطة التنفيذية في دول كثيرة. حتى فرنسا التي تعدُّ نموذجا ناجحا في تطبيق هذا المبدأ صارعت للوصل إليه وتحويله لواقع مطبق في الدولة؛ فنجد القضاء لديهم مستقلا. حقيقة لا يقتصر الاستقلال على عدم تدخل السلطات الأخرى في القرارات التي تصدر من السلطة القضائية فقط أو استقلال الجهة التي تدير القضاء. إنما يشمل ذلك الأمور التي خولت السلطة القضائية لتولي أمرها.
وأخيرا.. تعدُّ ضمانات الاستقلال المهني عنصرًا أساسيًّا للاستدلال على مدى استقلال القضاء، ونعني بذلك كلَّ ما يتعلق بتعيين القاضي وأمور النقل والتأديب والترقية. ففي عملية اختيار وتعيين القاضي، أو أيًّا كان المسؤول في أي مؤسسة، من المفترض أن يعمل وينظر للأمور بحيادية، دون أن يشعر بأنه مدين للجهة التي عينته، أو أنَّ لشخص ما فضلًا عليه؛ فتترتب نتائج عمله بما يتوافق مع مصلحة تلك الجهة. هذا ينطبق على القضاة كذلك؛ حيث إنَّ هناك أساليبَ مُعينة لتعيينهم لتقليل فرص حدوث ذلك. ويترتَّب هذا الشيء على النقل والتأديب كذلك؛ حيث يوجد مجلس خاص يُسأل أمامه القاضي في حالة وجود تجاوزات. وعموما يقيه مبدأ عدم قابلية القضاء للعزل من انحيازه لجهة ما للأسباب الواردة سابقا، كما جاء في مقال المالكي حول ضمانات استقلال العدالة في الأنظمة السياسية المعاصرة. إلا أنَّ الواقع يُشير إلى زاوية تمَّ تجاهلها فيما يتعلق بالنقطة الأخيرة؛ حيث من الممكن أن يكون هذا المبدأ سببًا للفساد مثلما حدث في بعض الدول؛ حيث إنَّ من يشغلون هذه المناصب يكون تأثيرهم كبيرا بالعادة؛ سواء أفسدوا أو أصلحوا.
... إنَّ ضمانات استقلال القضاء في الأنظمة السياسية المعاصرة -إن وُجِدت- تعدُّ مُؤشرات على تحقيق العدالة. لكن من المهم إدراك أن هذه المراحل المتقدمة من التطبيق الفعلي يصعب الوصول إليها، ولا يمكن أن يتوقع الشعب تحولا سريعا في أي من الأنظمة، خاصة وإن لم يتوفَّر شيء من الضمانات التي ذكرت في السابق أو بعض منها. كذلك لا يُمكن اتهام سلطة ما بتغييب العدالة لعدم وجود هذه الضمانات؛ فلربما يحدث التحول بشكل بطيء والأهم على خطى ثابتة.
