العلاقة الإشكاليَّة بين المفسِّر والنص القرآني

أم كلثوم الفارسي

يقولُ جمال الدين الأفغاني: "القرآن، القرآن! وإني لآسف إذ دفن المسلمون بين دفتيه الكنوز، وطفقوا في فيافي الجهل يفتشون عن الفقر المُدقع... وكيف لا أقول وا أسفاه! وإذا نهض أحدٌ لتفسير القرآن، فلا أراه إلا يهيم بباء البسملة، ويغوص ولا يخرج من مخرج حرف الصاد في الصراط، حتى يهوي هو ومن يقرأ ذلك التفسير في هوة عدم الانتفاع بما اشتمل عليه القرآن من منافع دنيوية وأخروية".

فيسعى الكاتب الدكتور أحميدة نيفر المتخصص في الدراسات الإسلامية، في مقاله "العدل بين الخطاب القرآني والتراث التفسيري: الرازي والقرطبي أنموذجان"، إلى إجابة عن أبرز الأسئلة المتعلقة بالتراث التفسيري والقاعدة المنهجية التي ينبغي اعتمادها في التعامل مع النص القرآني. ليكون المفسِّر قارئا مُتفهِّما للنص، حريصا على معناه ومقصده، وليس مُتسلطا عليه مُتعسفا معه.

وعليه، يكون الخطاب القرآني حيًّا في المقاربة التفسيرية، مُستدلا على ذلك بما ورد  على لسان جمال الدين الأفغاني حين حدَّد موقفا واضحا من التراث التفسيري.. قائلا: "القرآن وحده سبب الهداية والعمدة في الدعاية، أما ما تراكم عليه وتجمَّع حوله من آراء الرجال واستنباطهم ونظرياتهم فينبغي أن لا نعوِّل عليه".

فإذا كان القرن الرابع عشر الهجري قد تميَّز ببروز مشروع نهضة سياسية واجتماعية في البلاد العربية الإسلامية، صاحبها تطوُّر واضح شمل البناء الفكري الذي ما كان للمشروع السياسي الاجتماعي أن يتجسَّد ويتواصل في البلاد العربية الإسلامية لولاه. ولو حرصنا على متابعة مسيرة هذا التوجه الفكري في نموه المتدرج لتبيَّنت جُملة من الأسئلة الكبرى التي سعت إلى تحريك الأنساق المعرفية المتوارثة التي لم تقع مراجعتها طوال قرون. وما لحق ذلك من نمو الوعي بضرورة مراجعة المنظومة الفكرية التي يعتمدها المسلمون في التعامل مع تراثهم.

لكنَّ مُعضلة هذا المشروع التحديثي ظلَّت دون أساس منهجي مُحدَّد خاصة في مجال تفسير القرآن الكريم. بعبارة موجزة، يُمكن القول بأنَّ إشكالية القرن الماضي كانت في أساسها عجزا عن تجديد البناء المنهجي الذي يُحْكِم العلاقة بين المفسر والنص القرآني. فلا غرابة بعد ذلك إنْ آلت التفاسير القديمة على تنوعها المذهبي باعتمادها على إطار معرفي ثابت إلى إعادة إنتاج نفس الأفهام للأسئلة التي لا بد أن يطرحها المفسر الحديث من خلال معالجته الموضوعية للقرآن الكريم. هذا التباين في التكوين المعرفي والأفق الفكري والرؤية للعالم يجعل إقرارَ ما نصَّت عليه التفاسير القديمة ذات المنحى التجزيئي أمرًا مُتعذِّرا لا يرى فيه المفسِّر الموضوعي سوى صدى لإطار معرفي مُختلف قدم المدلولات القرآنية في محاورها الكبرى، وفق ذات البناء وذات الرؤية، وكأنه وقع الإقرار بالتوصل الأمثل لمعنى كلام الله تعالى.

إنَّ غاية ما قَصَدنا إليه في الفقرة السابقة من تأطير تأريخي عام هو تحديد لبعض التساؤلات المنهجية المطروحة على الدراسات القرآنية في الفضاء العربي الإسلامي.. هذه التساؤلات تكشفُ لنا من جهة طبيعة التطور الحديث الذي شمل "علم التفسير" وما عنته تلك التساؤلات من ضرورة إعادة النظر في القواعد المنهجية وما يرتبط بها من "مسلمات علمية". اهتمامنا بالسؤال المنهجي في المقاربات التفسيرية الحديثة يرتبط من جهة أخرى بالتحديات الفكرية والحضارية التي يُواجهها الفكر الإسلامي المعاصر. والتي على تنوُّع مقارباتها تلتقي في مقولة مشتركة هي ضرورة اعتماد مناهج تحليلية جديدة تختلف نوعيا عمَّا ساد لدى قدماء المستشرقين الغربيين.

ومن الجدير بالذكر ما حدَّده الباحث الباكستاني فضل الرحمن عن "الافتقار إلى المنهج الصالح لفهم القرآن نفسه"؛ حيث حدَّد مُنطلقين لمعالجة العلاقة الإشكالية بين المفسر والنص القرآني. لقد أثبت أولا أنَّ الوحي والخطاب القرآني قد تحوَّل كلاهما عند المسلمين اليوم إلى نص، أي إلى مرجعية توحيدية لذلك، فإنَّ الذي يسعى إلى تغيير تلك المجتمعات والنهوض بها دون الاعتماد على القرآن كمرجع وذاكرة وهوية جماعية سيُسقط إمكانية أساسية في عملية النهوض. ثم فسَّر ثانيا تعثُّر الجهود العديدة في التعامل مع النص القرآني منذ عقود راجع إلى أننا نقرأ النص على أنه مُتعالٍ لا ينحصر في زمان أو مكان، أو أننا نقرأه في اتجاه مناقض، أي على أنه لا ينفك مرتبطا بالقرن السابع في الجزيرة العربية.

معنى ذلك أننا إذا قلنا إن القرآن يظل دوما صالحا للتطبيق، فعلينا أن ننظر كيف تم اعتماد خطابه وتفسير تعاليمه لتناسب الظروف المتغيرة في العصور الأولى للإسلام؛ الأمر الذي  يُحقِّق استيعابا للدلالة العامة للنص وإدراكا لتطبيقاتها المختلفة ووعيا بالظروف التاريخية التي صاحبتها، ومن هنا ينبغي على المفسر المجدد -كما يشير أمين الخولي- أن يكف عن "استنطاق" النص القرآني؛ أي أن يجعله ينطق بما يريد المفسر أن يجده فيه. مثل هذا التعسف "يُخرج القرآن عن وضعه ويناقض الحكمة الإلهية والغرض من وصله بحياة الدين والدنيا".

إنَّ ما نحتاج إليه اليوم فعلا هو الاستفادة من المنهج الدلالي الذي يُحوِّل المفسر إلى "قارئ" مُتفهِّم؛ مما يجعل النصَّ "حيًّا حاملاً للمعنى الذي لا ينضب". إنَّ مثل هذا التوجه الإصلاحي من قبل علماء المسلمين ومفكريهم قد يُحقِّق الارتباطَ الوثيق بين خلاص المسلمين من حالة الانهيار المهدد لكيانهم، وبين الحاجة المتأكدة لإجراء تغيير في التقاليد الثقافية؛ أي يُحدث تلازما بين عنصر التغيُّر الاجتماعي وبين النزعة العقلية في الإسلام التي تستدعي -من بين ما تستدعي- أسلوبا جديدا في تفسير القرآن الكريم. وهذا ما أكده  طه عبد الرحمن في أحدث مؤلفاته أنه "لا دخول للمسلمين إلى الحداثة إلا بحصول قراءة جديدة للقرآن الكريم؛ ذلك أن القرآن هو سر وجود الأمة المسلمة وسر صُنعها للتاريخ".

أخبار ذات صلة