ناصر الحارثي
يَسْعَى الباحثُ صابر الحباشة للقيام بمشروع مُقاربة في آليات تحليل الخطاب؛ وذلك باستخدام نموذج الحارث بن أسد بن عبدالله المحاسبي البصري، في موضوع العقل وفهم القرآن؛ من أجل دراسة بعض عناصر إنتاج الخطاب في مقاطع من نصوص المحاسبي، ومعرفة كيفية صياغة حد العقل، وتوظيف الاستعارة في توسيع الحد العقلي؛ لما يتمتَّع به المحاسبي من أفق معرفي وفكري، مع التزامه بمنهجه الصوفي. ولقد قام بالرد على المعتزلة ودافع عن الزهد، وله اجتهادات وتأمُّلات من خلال الكتب التي ألَّفها في القرن الثالث الهجري؛ مثل: "فهم القرآن ومعانيه"، و"مائية العقل وحقيقة معناه"، و"كتاب شرح المعرفة وبذل النصيحة".
ويُعدُّ الخطاب المرتبط بمنزلة العقل في الفكر العربي القديم والمعاصر -على حدٍّ سواء- أحد أهم أولويات الباحثين والدارسين؛ وذلك لدوره المهم في رهانات الوجود والبناء الحضاري، وهذا ما يجعلنا نُعيد النظر في الهوَّة الحاصلة بين العقل الفقهي والعقل الصوفي، والذي يُصور لنا وكأنهما يقعان في دوائر منفصلة، وهذا ما يُحاول الحباشة نفيه، مُبينا أنَّ القراءة التفكيكية الغربية تُعطِي صورةً مُغالطة؛ لذا وجب على الباحث السعي إلى توليد مناهج معرفية مناسبة، وليس الاقتصار على توريد المناهج الغربية. ولقد أوْضَح الحباشة أنَّ نموذجَ المحاسبي الصوفي يتميَّز بالأصالة، ويبيِّن حقيقة دور مفكري الإسلام الفلاسفة منهم والمتكلمين في التنظير للفكر، وليس كما يُصوَّر لنا بأنَّ الحضارة الإسلامية مجرد ناقلة للعقل الإغريقي والفكر الفارسي والحكمة الهندية ومطورة له، بل إنَّ لها ما يُميِّزها عن غيرها؛ فلقد أسهم المحاسبي في بداية القرن الثالث الهجري في التنظير حول ماهية العقل؛ من خلال كتابه "مائية العقل وحقيقة معناه"، والذي يقول في مقدمته: "سألت عن العقل ما هو؟ وإني أرجع إليك في اللغة والمعقول من الكتاب والسنة، وتراجع العلماء فيما بينهم في التسمية إلى ثلاثة معانٍ؛ أحدهم هو معناه لا معنى له غيره في الحقيقة، والآخران اسمان جوَّزتهما العرب إنْ كان عنه فعلا، لا يكونان إلا به ومنه، ولقد سمَّاه الله في كتابه وسمته العلماء عقلا، فأما ما هو في المعنى فهو في الحقيقة لا غيره؛ فهو غريزة وضعها الله سبحانه وتعالى في أكثر خلقه، ولم يطلع عليها العباد بعضهم من بعض، ولا اطعلوا عليها من أنفسهم برؤية ولا بحس ولا بذوق ولا بطعم، وإنما عرَّفهم الله إياها بالعقل منه". ونجد من خلال التعريف بالعقل استخدام الكاتب لمنهجية علمية؛ وذلك بطرح السؤال والإجابة عنه لغة واصطلاحا، وكذلك إرشاد المحاسبي لوجود معانٍ أخرى صادرة من الأصل، وهنا يظهر معرفة المحاسبي بتوسع اللغة وتعدد المعاني التي تصنع الترادف في الاستخدام، ولكن لا يثبته لأنه يرده للأصل؛ وذلك لتعارض الترادف مع منهجه الحدي في تعريف العقل.
ونجدُ في منهح المحاسبي حول حد العقل ذكر شروط ومقومات حد العقل؛ فلقد وضع للعقل بنية تركيبية باستخدام أدوات الإثبات والنفي والحصر، لقد أثبت أنَّ العقل غريزة وضعها الله في أكثر خلقه، ونفى عنها النقل والخبر فلم يطَّلع عليها أحد، ونفى أيضا الرؤية والذوق والطعم واللمس، وحصرها في الغريزة بعبارة "عرفهم الله إياها بالعقل منه"؛ وبذلك يكون العقل في منهج المحاسبي أداة وموضع إدراك بواسطة الذات الإلهية وحدها، وأوضح المحاسبي إمكانية الزيادة والتدرج في المعاني المكتسبة للعقل؛ وذلك لقوله: "فالعقل غريزة يولد العبد بها ثم يزيد فيه معنى بعد معنى بالمعرفة بالأسباب الدالّة على المعقول"، ولقد ردَّ المحاسبي على المتكلمين قولهم بأنَّ العقل هو صفوة الروح، في حين سرد القول الذي يقول بأن العقل نور في القلب، كما أنَّ البصر نور في العين ولم ينقده، ويبدو أنه استحسنه لأنها تدعم أحد فروع قوله وهو نفي الحسية؛ حيث يأتي هذا التعريف موازنا بين الحس والعقل، وهنا نجد أننا في موقف مهم وهو استخدام الاستعارة في الخطاب العلمي بشكل عام والمنطق بشكل خاص؛ فعلى الرغم من ابتعاد المحاسبي عن الاستناد إلى الاستعارة في تعريفه لحد العقل، إلا أنه لم يجد حرجا في الاستشهاد به؛ وبذلك يتجاوز في آلية خطابه الفصل التام بين لغة المنطق الصوري الصناعي -أحادية الدلالة- وبين لغة المنطق الطبيعي -والذي يتميز بتعدد الدلالة- كما أنَّ اعتماده على الاستعارة كأداة حجاجية يصنع جسرا في آلية الخطاب بين المجرد والمحسوس؛ وذلك بالتقريب بين الاثنين. وأما حول تداولية الخطاب عند المحاسبي والمقصود بالتداولية كما يوضح هيام بأنه العلم الذي يدرس تأثير المقام في معنى الأقوال وهدف القول وموضوعه وجنس الخطاب وقناة التعبير واللهجة المستخدمة فيه وقواعد توزيع الكلام، ونجد في النص التالي توصيفَ المحاسبي لتأثير العلاقة في تداولية الخطاب بين منتج الخطاب ومتلقيه واضحا جدًّا؛ حيث يقول: "نُحب قول الأخ والقرابة والعالم والشريف على قدر محبتنا له، ونجل قوله ونعظم ونردد ذكره ونتفهم معانيه على قدر حبنا وإجلالنا له؛ فكلام العالم عندنا أحلى وألذ وأرفع وأجل من كلام الجاهل، وكلام الشريف من كلام الوضيع وكلام من أحسن إلينا لا كمن لا إحسان له إلينا..."، ونجد في هذا النص استخدام المحاسبي لأفعل التفضيل والمقارنات بين العالم والجاهل والوضيع والشريف، وهذه الثنائية الضدية مُتناسبة مع فلسفة ذلك العصر، ولكن وعيه بظاهرة إنتاج الخطاب وعناصر القول وتأثيره يجعلنا نقف موقف تأمل حول أطروحته واستخدامه العامل النفسي في المقارنة بين رادت الفعل في تلقي الخطاب، وهنا يضع المحاسبي التفاتة مهمة جدا حول العلاقة بين منتج الخطاب والمتلقي، وأن التأثير غير مرتبط بالضرورة بقيمة الكلام المعرفية، بل بمعرفتنا السابقة لمنتج الخطاب ومقامه بالنسبة إلينا، وهنا نجد برهانا عجيبا للمحاسبي في إيضاح دور القرآن في نفس المؤمن، فتقبلنا للمخاطب ونصيحته يعتمد على قدر محبتنا له، كذلك تقبلنا للقرآن ومضمونه بقدر محبتنا لله، وهذه إحدى أدوات المحاججة في خطاب المحاسبي.
نجدُ في مشروع المقاربة للباحث التونسي صابر الحباشة نقاطًا مهمة تجعلنا نعيد القراءة في مضمون خطاب المحاسبي، وعلاقة الصوفية بالفكر الإسلامي؛ من خلال الاستعانة بنموذج العقل في فهم القرآن؛ فليست المسافة بين المتكلمين والمتصوفة مسافة مقطوعة، بل إنَّ في نموذج المحاسبي ما يُشير إلى وجود قواسم مشتركة في التعامل مع آليات الخطاب واستخدام الاستعارة كجسر في إستراتيجية الاستدلال من خلال توسيع الحد العقلي. ولقد أطال الكاتب في توضيح حجاجية الاستعارة، مع أنها لا تُعتبر أداة قوية في تقنيات الاستدلال في المنطق، وإنما فعل ذلك عامدًا ليخلق جسرا بين المجرد والمحسوس، وهو نوع من التكلف في إظهار رغبة المحاسبي في توسيع الحد، بينما لا يمكن التسليم بذلك؛ فلغته الحدية واضحة في ذكر ماهية العقل.
