أمجد سعيد
تعدَّدتْ الأسبابُ في مقال بحثي بعنوان "النص والتأويل: إستراتيجيات القراءة المحدثة" للباحث التركي مُحمَّد زاهد جول؛ لكي تصلَ في نهاية الأمر إلى عِدَّة نتائج، نتائج قد تُعيد إلينا بعضَ الرُّشد لكي نكفَّ عن الكلام عن أمة النص، ونبدأ الاشتغال بهذا المفهوم. كل من يتناول قراءة النص وتأويله -سواءً أكان من المحدثين أم من الأصوليين- فهو ينوي بذلك الوقوف بواقع المجتمع العربي، الذي يعتمد اعتماداً كليًّا على النص وتأويله.
إنَّ المهتمين بهذا الجانب يَرَون أنَّ الحدثَ الفاصلَ الذي أعادَ التفكيرَ المنطقيَّ والعقلانيَّ إلى أذهان رواد العالم العربي وكبار علمائه، هو النكسة العسكرية في عام 67-1968م، أو كما يُطلق عليها "حرب الأيام الستة"، والتي تلتها انتفاضات عِدَّة؛ من بينها: التوجه القطعي نحو ربط النص بالواقع، وهذه النكسة أدَّتْ إلى الانحشار كليًّا في فوهة الثقافة الغربية بكل ما علينا من أسمال بالية، وهو ما أدَّى إلى أنَّ الاستيراد الحقيقي لتلك الثقافة تشوبه العيوب الكثيرة، ناهيك عن طريقة التطبيق التي أثمرت عن مجتمع عربي متأرجح بين الإخفاق الحالي والفجوة الماضية، وذلك أدى إلى المطالبة بالتجديد الديني، الذي من شأنه قد يعيد المجتمع إلى المكانة المناسبة.
ولكنْ هذه المطالبة واجهتْ العديدَ من الصعوبات العصيَّة على التحقُّق الكلي؛ من بين هذه الصعوبات: الأسئلة النهضوية، ومفهوم الهوية وطرق الإصلاح؛ فبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، ظهرتْ الفجوة الكبيرة بين الغرب والمجتمع العربي، والتي أصَّرتْ على تكرار هذا السؤال الذي لا يزال مطروحاً: لماذا نتفرَّد بالعنف كظاهرة إسلامية، ونقاوم الاندماج مع الحداثة العالمية؟
إنَّ الناهلين من الثقافة الغربية -كونها هي الحضارة العالمية في الوقت الحاضر- قد يرون أنَّ القطيعة مع التراث الإسلامي هي الحل؛ فنحن ما زلنا نبحث عن المكان والوقت المناسبين لكي نبدأ عصر التنوير الإسلامي والذي نستورد تطبيقه من الثقافة الغربية التي يشدد عليها رواد القطيعة؛ أمثال: حسن حنفي، وطه حسين حين قال بنص صريح: "في هذا العصر الحديث، نريد أن نتَّصل بأوروبا اتصالا يزداد قوة من يوم إلى يوم، حتى نصبح جزءًا منها لفظًا ومعنىً وحقيقةً وشكلاً".
وفي عصر النهضة، قامتْ تأويلية النصوص التراثية الإسلامية على مبادئ أساسية؛ منها: العقلانية النقدية، والعلمانية والحرية، فإن تأويلية القراءات الحديثة قامت على أساس مفهوم التقدُّم الذي انتشر في أوروبا في عصر النهضة، وقد أسهم هذا الأساس التقدمي في إدخال العديد من الجوانب على النصوص التي تم تأويلها، أو طرق تأويلها من حيث جوانب الفنون والعلوم؛ لذلك قامت هذه الثورات المعرفية لكي تفنِّد أيَّ قراءة اتصلت بالحداثة؛ منها: الثورة الأبستيمولوجية، والثورة اللغوية، وثورة التحلبل النفسي، والثورة البنيوية والثورة التاريخية.
إنَّ القراءة التي قام بها مُحمَّد أركون تجاه النص القرآني تُعدُّ من أهم القراءات؛ وذلك من خلال الهدف الذي وضعه أركون لهذه القراءة، والذي وصفه بالجدية والتعقيد، الذي يحاول فيه التطبيق الإسلامي من خلال النص القرآني -ويستند في ذلك إلى كتاب باستيد "التطبيق الأنثروبولجي أو الأنثروبولوجيا التطبيقية"- وتُعد هذه المنهجية الأولى لمحمد أركون في قراءة النص القرآني، المنهجية التي ترى أنَّ التطبيقات الإسلامية ينبغي أن تكون عبر المساهمة الإسلامية في نشأة الأنثروبولوجيا الدينية.
الإصرارُ على عدم التجديد في النص والتأويل، والإنصات المتكرر لأقوال السلف واتباع نهجهم، من غير أية تجديد أو تغيير يُضفي سمة تقدمية، قد تكون هذه الظواهر السبب الأول الذي جعل نصر حامد أبو زيد يتوصَّل لقراءته التي تُعتبر الأكثر تطرُّفاً، والتي يستخدم فيها المناهج الغربية في التحليل والدراسة، وينتهي أبو زيد إلى القول: إذا كانت هذه الحضارة هي حضارة نص -النص القرآني- وهذا النص هو عنوان هذه الحضارة، فإنَّ التأويل هو الوجه الآخر لهذه الحضارة، والذي يسهم إسهاما كبيرا بجانب النص في فهم الحضارة الإسلامية ومحاورتها.
الأحداث الفاصلة التي أحدثتْ بعضَ الكدمات في هيكل التصور الإسلامي، كان لها نصيب في تبديل النظرة وتحديث القراءات التي تستهدفُ النصَّ؛ فالسؤال الذي طُرح ولا يزال يُطرح، هو: "كيف استطاعتْ حضارة مبنية على النص أن يكون لها ذلك التاريخ الذي لا مثيل له في الماضي؟ وكيف لهذا النص الذي هو سبب ذلك التاريخ المهيب أن يكون سبباً أيضا في التأخر والرجعية والفشل الحالي؟ وهذه التساؤلات الجوهرية أدَّت إلى ظهور احتياج أساسي للرجوع إلى النص وطرق تأويله التي عفا عليها الزمان، وقد أسهمت بعض الأحداث في استحداث مقاربات تدعو للإصلاح في تأويل النص. أبرز هذه الأحداث: حدث الحادي عشر من سبتمبر الذي بدوره شكَّل تحدياً كبيراً في مثول هذا الحدث كرمز إسلامي وهو ما يمثل ظاهرة العنف. أما المقاربات الثلاث، فهي مقاربات منهجية للإصلاح في الرجوع إلى النص وتأويله؛ منها:
- الإصلاح من داخل المرجعية الإسلامية؛ كتجديد القراءات والأدوات في التأويل، وظهور قراءات تحتوي على آليات مستحدثه؛ كقراءة: طه عبالدرحمن ومحمد سليم العوا...وغيرهما.
- ضرورة مُعالجة النص القرآني؛ كتطبيق النقد والتأويل، اللذين تم تطبيقهما على الكتابين المسيحي واليهودي، وإخضاع هذه المناهج للتغلغل داخل النص كنوع من الانتماء للتقليد الكتابي.
- تطبيق مناهج العلوم الإنسانية المعاصرة؛ كاستخدام آليات التفكيك للنص، والتي طُبِّقت على معظم النصوص السابقة كخطابات لغوية تقبل الخضوع لهذه الآلية؛ كقراءات محمد أركون ونصر حامد أبو زيد...وغيرهما.
إنَّ التحدِّي الذي يُواجهه المجتمع العربي الإسلامي -في خضم التطورات الغربية الحاصلة، والدعوة للانضمام تحت جناح هذا التقدم الغربي- يكمُن في النظر إلى النص القرآني كنص ممتد عبر الزمان، وما يزيد التحدي عُمقاً وضراوة هو عدم الوقوع في التسليم نفسه، والبحث في الآيات القرآنية التي تُعنى بمسائل الماضي، بل يجب علينا أن نعي أنَّ للنص القرآني سمة الشمولية، وما يحتويه من آيات تُعنى بالماضي والحاضر والمستقبل؛ لذلك وجب التفتيش عن علامات قد تصنع لنا حاضراً منيراً، يُمهِّد لصناعة وتشكيل مستقبل منافس ومتقدِّم.
