مرجعيات المجتهد المعاصر

أحمد المكتومي

في هذه الفترة من الزمن الغَامض يحتل المُجتهد المُعاصر مرتبة التَّقديس والتَّبجيل بغض النظر عن مرجعية هذا المجتهد ما إذا كانت تنصفه أم لا. نور الدين الخادمي يوضح لنا في مقالة بمجلة التسامح (المُجتهد المعاصر وحقوق الإنسان) مرجعية المجتهد المعاصر والتي يُراد بها المصادر المعرفية الإسلامية التي ينبغي عليه الرجوع إليها والانطلاق منها في مُعالجة حقوق الإنسان وتفعيل مسالكها وآلياتها. في حقيقة الأمر، أنَّ المرجعية تنقسم إلى ثلاثة أقسام: الأولى وهي المرجعية الشرعية المُتصلة بالوحي الكريم (الكتاب والسنة) وما يبنى عليها من قواعد ومقاصد وضوابط لضمان حقوق الإنسان فكان خير دليل على هذا مولانا جلال الدين الرومي الذي يرى الإنسان روحًا من الله يجب المحافظة عليها وإعطاؤها الحرية في الجانبين الروحي والمادي. الثانية، المرجعية اللغوية والتي تتصل باللغة العربية وقواعدها وأساليبها وحقائقها ومعهود العرب في التَّخاطب. وذلك لكون اللغة جزءا من ماهية الوحي الكريم ولا يُمكن لمُجتهد أن يُعطي أبعادًا مُعينة لقضية ما إلا بعد إحاطته بهذه المرجعية؛ لكونها تعطي قانون الدلالات وقواعد الألفاظ ومعانيها والقوالب ومحتوياتها. والثالثة، المرجعية التزكوية ومعناها الحالة التربوية للمجتهد ومدى تحليه بصفات التقوى والصلاح والمصداقية والأمانة والأخلاق المهنية.

فمصداقية المجتهد تكمن في الحفاظ على الحقوق الإنسانية وتتمثل في مصداقية أعماله وأقواله وتصرفاته وفي اتِّباعه لمنهج الموضوعية والأمانة والشفافية وابتعاده عن الازدواجية وأساليب المُجاملات والتَّطرف وتركه لعقلية التَّخوف والتَّذرع والتَّردد؛ بل عليه أن يحق الحق ويزهق الباطل وينتصر للمظلومين ويصد المعتدي وعلى هذا كله يبني مستوطنة أفكاره واجتهاداته وفقهه، وعلى مقولة الحق والعدل والإحسان في القول والعمل.

أما واقعية المُجتهد فيُراد بها الواقع الذي يعيشه هذا المُجتهد في جميع مجالات الحياة سواء كانت اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية. وهذا الواقع يُراد به مَعرفة مُنجزات المجتهد واكتشافاته وعلومه وفنونه ونظمه وغيرها. إنَّ الأحداث التي تدور في مجال الواقع لا يُمكن إهمالها من قبل المجتهد سواء كانت لها علاقة بحقوق الإنسان أم لا؛ لأنَّه فيما بعد ستكون كل الأحداث مُترابطة ومتشابكة. وعلى هذا التعايش الذي يكون بين المجتهد والأحداث يمكن أن يطلق تصوراته وآراءه بحيث تكون الجودة والأصالة في أفكاره. وبهذا يبتعد عن الأفكار الشائكة التي من شأنها أن تتخلى وتبتعد عن الحقوق الإنسانية. وفي هذا الصدد عليه أن يضبط ما هو أساس وضروري في حقوق جماعة من النَّاس أو طائفة من الدول وأن يضبط ما هو حق حاجي يفتقر إليه على وجه التأكيد وأن يضبط ما هو تحسيني وكمالي ويُتمم الحق الضروري والحق الحاجي وله أيضاً أن يقدم الأولى والأهم. ومن تفصيلات الواقع أيضًا أن يعلم بأحوال حقوق الإنسان ومظاهرها وتجلياتها ومجالات إخفاقها ومساحات ازدهارها حتى يتم رسم الخارطة الحقوقية للإنسانية المعاصرة محلياً وإقليميًا ودوليًا. إنَّ معرفة المؤسسات والهياكل والتنظيمات الحقوقية والقانونية والأهلية التي لها صلات مُحددة بإقرار الحقوق الإنسانية وتفعيلها واحترامها هي من إحدى تفصيلات الواقعية للمُجتهد المُعاصر.

بعد أن أطلعنا نور الدين الخادمي على مرجعية المُجتهد المعاصر وواقعيته يُطلعنا على جانب آخر وهو كيف يُطبق المجتهد المرجعية والواقعية على أرض الواقع وهذا ما يطلق عليه منهجية المجتهد المعاصر. حيث يجب على المجتهد المُعاصر تنزيل المرجعية على الواقع من أجل رسم المواقف والحلول والبدائل والصيغ العملية التي تُرسخ الحقوق الإنسانية وتفعيلها وتطويرها وتمنع عنها أيّ شوائب أو خدوش قد تشوش عليها. تبنى منهجية المجتهد المعاصر على ركيزتين الأولى : ركيزة التنسيق بين مفردات المرجعية الشرعية كالتنسيق بين العام والخاص والناسخ والمنسوخ والأصل والفرع والقواعد والاستثناءات. وطريق هذا هو النص والإجماع والاستقراء وملاءمة الفطرة واستقامة العقل. أما الركيزة الأخرى فهي التنسيق بين مفردات الواقع الإنساني والحياتي كالتنسيق بين العلوم الإنسانية والوقائع والحكايات وبين النظرات الاقتصادية وأزمات المال والديمقراطية والثوابت الدينية والعولمة والخصوصيات والهويات. والطريق للوصول إلى هذا التنسيق هو الإحصاء والاستبيان والاستطلاع والتجارب والخبرات وغيرها.

إنَّ تنزيل المرجعية إلى الواقع ليس بأمر سهل؛ حيث يجب على المجتهد أن يسلك عدة مسالك من شأنها أن تأخذه إلى عالم  الوضوح والاستبيان ومنها مسلك القياس والتَّخريج والتَّنقيح والتحقيق الذي تميز به الإمام أحمد بن حنبل والشيخ الجليل نور الدين السالمي. وأيضًا مسلك الاستقراء لتقرير الكليات ومسلك ربط الجزئيات ومسلك التحرير والتحقيق والتوثيق وغيرها العديد من المسالك. يقول الله تعالى في سورة التين (ولقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم). تشير الآية الكريمة إلى أنَّ احترام الحقوق الإنسانية هي الطريقة المثلى إلى إبقاء الخلق الإنساني في أحسن حالة وأفضل تقويم، ويكون هتك هذه الحقوق مُخالفة للإحسان التقويمي المذكور في الآية الكريمة. خطبة الوداع هي من إحدى الأقوال النبوية التي تخص حقوق الإنسان والتي دعا الرسول فيها إلى تقرير المساواة والكرامة الإنسانية وأن جميع النَّاس من آدم وأن آدم من تراب وأنَّ حقوق النَّاس محترمة ومرعية. وقول عمر بن الخطاب رضوان الله عليه (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا) أي بأيّ مسوغ أو مبرر يُستعبد الناس؟ ومعلوم أنّهم ولدوا أحرارا بموجب الخلق والحياة. إنّ المرجعية الجزئية يعتمد عليها المجتهد المُعاصر وغيره من أهل المعرفة والعمل في مجال الحياة الإسلامية ويمكنها أن تسعف المجتهد برأي الدين وسياسته في تقرير الحقوق الإنسانية وترسيخها ومراجعة تطبيقاتها وملاحظة ما يُعرض عليها من مشكلات واختراقات. بيد أنَّ هذه المرجعية الجزئية لا تكفي وحدها كي تؤسس لعمل حقوقي إنساني مُنظم وموثق، وقد تحتاج إلى إطار آخر معرفي شرعي يفصل هذا العمل الحقوقي ويضبط أحواله ويرشد أطواره ويستدرك هفواته ويكمل نقصانه وهذا المكمل هو المرجعية الكلية.

المرجعية الكلية والذي يعنى ببيان المفهوم العام والبناء الكامل لشرع الله تعالى والذي يتقرر بموجبه رؤية متكاملة ومنهجية متناسقة ومنظومة ترتبط فيها جميع مكوناتها وتتكامل فيها جميع العناصر والوسائل والثوابت والمُتغيرات. بهذه المرجعية يستطيع المجتهد المعاصر أن يطلق جميع الأحكام في إطار حقوق الإنسان وإبداء الملاحظة والاستثناء والاعتراض على بعض صورها وأحوالها. إنَّ هذا كله لا يتأتى إلا بإعمال المرجعية الكلية المُعضدة بالمرجعية الجزئية وهو ما يجعلنا نقرر مبدأ الأصولي الشرعي المعروف بربط الجزئيات بالكليات والوسائل بالمقاصد والمعقول بالمنقول وغير ذلك مما تقرر عند أهل التحقيق والتوثيق والذي يدرج معه تحقيق الحق وإدراك الصواب وتحصيل مراد الشارع ومقصوده.

 

أخبار ذات صلة