بَيْن العدالة والحريَّة

فاطمة بنت  ناصر

في مقاله المنشور بمجلة "التفاهم"، والذي حمل عنوان "العدالة والحرية: تعارض أم تكامل؟"، يتتبَّع الباحث والأكاديمي المغربي مُحمد سبيلا هذين المفهومين من حيث النشأة والتطور، وأين وصلت بهما الحال اليوم. ولعلنا نجد تاريخاً حافلاً بذكرهما في فروع الفلسفة وتاريخها، خاصة ذلك المتعلق بالجانب السياسي؛ حيث نرى تداخلاً كبيراً بينهما. إلا أنَّ هذه الإرث الفكري قلما نجده جامعاً لهذا التداخل أو مفسراً لترابطية هذه العلاقة؛ فالعدالة في الغالب تمثلها المؤسسة وتتبع الشق السياسي. أما الحرية، فغالبا ما تنسب للإنسان سواء كفرد أو جماعة. وكلاهما يتطور وتتطور مفاهميه بمرور الزمن؛ فقد نجد اليوم أن قانون حمورابي الذي كان يضرب به المثل في العدالة هو قانون همجي يتعارض مع حقوق الإنسان، ولكنه كان ولا يزال يشكل نقطه فارقة في وقته وفي تاريخ تطور مفهوم العدالة.

وكذا الحال بالنسبة للحرية؛ ففي الوقت الذي كانت تفرق فيه التشريعات بين الحر والعبد حتى في الدم، تتطور الحرية اليوم لتشمل الجميع دون تفريق لعرق أو دين. ولعلَّ التفصيل في مسيرة هذين المفهومين أمر ضروري لفهم علاقة التلازم الحالية بينهما، وفهم علاقة الماضي الفاترة بينهما، وكذلك لاستشراف مستقبلهما.

أولا: العدالة

مرَّ هذا المفهوم بثلاث مراحل؛ هي:

العصور الأولى: ونعني هنا العصور التي سبقت بما يعرف الأديان الكتابية. كالعصر اليوناني. الذي اعتبر العدالة كما يقول الكاتب فضيلة أخلاقية ولم تتخذ حينها شكلاً قانونياً؛ حيث يكون منبعه القناعة ونبذ الطمع، ونجد ذلك يتجلى في وجهة نظر أرسطو حولها؛ حيث يشدد على أن لا يأخذ المرء أكثر من حاجته أو أكثر من حصته ونصيبه. وفي هذا العصر ارتبطت العدالة بمفهوم الطبيعة وحدها، التي تسند لطبيعة البشر وحدها مهمة إعلاء الشأن الأخلاقي ومهمته في صون العدالة وتفعيلها بين البشر.

العصور الوسطى: وفيه ربط مفهوم العدالة وتطبيقه بالإرادة الإلهية التي تمثلت في الشرائع السماوية والكتب التي جاءت بها. وهنا نرى ربط العدالة بالإرادة الإلهية؛ حيث يكون أمر التفاوت بين البشر في المنازل الاجتماعية المختلفة أمرا خاضعا لإرادة الذات الإلهية التي تستوجب الطاعة دون إبداء مبرر لانعدام العدالة في بعض المواضع. ويكون الناس في رضا بما قسمه الله بينهم وفي تفضيل بعضهم على بعض.

التحولات الإبيستيمية (1)  الكبرى: وبدأت هذه التحولات في القرن الخامس عشر، وكان محركها الأول العقل ونشاطه الفكري.  وهذا النشاط تجلى في جانبين؛ الأول مرتبط بالفيزياء التي نقلت العالم الطبيعي من نظامه المغلق إلى مجال الكون المفتوح واللانهائي. والثاني إنساني حيث تبلورت فكرة العقد الاجتماعي التي أتت لتنظم العلاقة الاجتماعية والسياسية وأعلت من شأن الإرادة الإنسانية التي غلبت في هذه المرحلة الإرادة اللاهوتية. فتقسيم ثروات الوطن قائم هنا على مبدأ التعاقدية بين البشر وهم أصحاب المصلحة الفعليين. وهنا نسفت فكرة أن الخيرات هبات الله وهو مُقدرها ومُقسمها بين الناس.

 

ثانياً: الحرية

لم تشذ الحرية في تطورها عن العدالة؛ فتطورت من حالة إيعازها للطبيعية ومن إرجاعها كمقدر إلهي إلى أنْ وصلت كحق ومكتسب إنساني. ونرى مثلا أن كانط وديكارت فصَّلا في تلك المرحلة بين الطبيعة والإنسان؛ فأصبحت الحرية في القرن الخامس عشر تعبر عن حرية الضمير وتتمثل في: حرية القرار وحرية الإرادة وحرية الاختيار. وهذه النظرة المثالية لمفهوم الحرية تغيرت كثيراً في القرن العشرين لتكون نظرة أكثر واقعية وشمولية. ولعل هذا ليس بالغريب؛ فالأمر يحتاج الوقت فقط ليتم اختبار تطبيقها ومن ثم الحكم عليها؛ فهل حقاً نمتلك حرية الاختيار والإرادة وغيرها؟ واقعيا، لا؛ فنحن محاطون بمجموعة من الحتميات والثوابت التي تحدد ممارستنا لحريتنا شئنا ذلك أم أبينا؛ فالحرية المطلقة ليست سوى "وهم" كما يقول الفيلسوف الهولندي سبينوزا، وعقبه نيتشه الذي أكد على هذا الوهم واعتبر حرية الإرادة مجرد أكذوبة أو زلة مفيدة كشفت عيوباً كثيرة لمفهوم الحرية المطلقة. ومن ذلك الزمن وحتى اليوم لا تزال الحرية تمثل مقاومة لهذه المحددات الحتمية.

 

ثالثا: الحرية والعدالة معاً

يُؤكِّد الكاتب تلازم هذين المفهومين كما يتضح في سابق المقال، غير أن هذا التلازم لم يكن له حضور حتى تم ربطهما بالليبرالية ومراحل تطورها. فالتطور الليبرالي كان مرتبطا بمفهوم الحرية ولكن ليس الحرية الفردية، وإنما الحرية المؤسسية التي ترتبط بالدول وأنظمتها. وهي تشمل ثلاث حريات أساسية: حرية الاقتصاد، وحرية السوق، والحرية السياسية. وفي المقابل، فإنَّ الليبرالية تقدم الفرد على السلطة التي -كما يقول الكاتب- لديها ميل تلقائي إلى الحد من الحريات. وانتصار الليبرالية للفرد يجعله محدد السلطات الأول؛ له حق انتخاب من يمثله وكذلك من يراقب ممثليه في السلطة. ويرى الكاتب أن الليبرالية تطورت هي أيضاً لتترك اعتدالها وموازنتها لتتحول إلى ما يقول عنه "الليبرالية المتطرفة" وتارة أخرى "الليبرالية المتوحشة"، وفي كلاهما يرى أنها تسمح للقوي بالتهام الضعيف. وهنا يجب التنويه بأن الليبرالية المتطرفة كما سماها الكاتب أصبغت على المصطلح شيئاً من السلبية، رغم أنها وردت في تعريفها الأجنبي في قاموس أوكسفورد: (An extreme laissez-faire political philosophy advocating only minimal state intervention in the lives of citizens)، ولعل الكاتب ترجم كلمة (extreme) بكلمة "متطرفة"، ولكن بمقارنة هذا التعريف بغيره من التعريفات نجد أن معنى (extreme) هي منح الفرد الحد الأقصى من السلطة وتهميش تدخل الدولة في حياة الأفراد. وكذلك في قوله "الليبرالية المتوحشة" التي وصف بها التطبيق العملي لليبرالية المتطرفة والتي شهدتها مرحلة مارجريت تاتشر في بريطانيا ورونالد ريجان في أمريكا. من المهم الوقوف هنا قليلاً لتوضيح أنَّ المفاهيم الليبرالية ليست بطبعها شريرة أو متطرفة أو حتى وحشية، ولكن تطبيقها العملي مرتبط ومرهون بأوضاع الدولة وحالتها والقائمين على شؤونها؛ فمارجريت تاتشر التي ذكرها الكاتب بأنها صاحبة الليبرالية المتوحشة لم تكن من الحزب الليبرالي أساسا، وإنما من المحافظين! إلا أن ليبرالية نظام الدولة هي التي أتاحت لها الوصول للسلطة، وهي كذلك التي أتاحت لها اتخاذ قرارات قاسية سميت في وقتها (Tatcherism) نسبة لها. وكانت ممارستها لها في إفساح المجال للسوق وللشعب دون تدخل الحكومة، "بل إنَّ وظيفة الحكومة هي في الابتعاد قدر الإمكان عن طريقهم".

وفي الختام، يستعرض الكاتب آراء المفكر رولز، التي تتفق فيها الحرية ومبدأ العدالة وذلك بقبول الناس بحتمية الفروقات بينهم، شرط أن تكون هذه الفروقات أداة لمنفعة، وأن تتساوى الفرص للجميع. ويرى الكاتب أن هذه النظرية تحد من الليبرالية المتوحشة. غير أنَّ التوحش الذي يُكرِّره الكاتب كان توحش سلطة السوق الرأسمالي والقائمين عليه، ولم تكن الليبرالية لدى الغرب محل اتهام؛ فهم يدركون تأثرها كغيرها بقوة الرأسمالية ولغة المصالح. وترديها بسببهما لا يعني شيطنتها أبداً؛ ففي النهاية ليست الليبرالية سوى فكرة بشرية تطورت مع الزمن وستتطور مع الزمن لتصون الحرية وتحقق العدالة.

أخبار ذات صلة