أشكال الشرعية ومسار الهيمنة في الفكر السياسي لماكس فيبر

محمد بن علي الكمزاري

يفند الكاتب عبدالواحد العلمي في مقاله (مصادر الشرعية وأنواعها في السوسيولوجيا السياسية لماكس فيبر) مفهوم الشرعية ويرصد مصادرها وأنواعها كما وردت في فكر ماكس فيبر. ومما تجدر الإشارة إليه أن لسوسيولوجيا السياسة مكانة متميزة في أعمال ماكس فيبر وهي ما فتئت تثير النقاش والسجال بين دارسي فكره والمستلهمين لأطروحاته السوسيولوجية والفلسفية والسياسية، بل لا نبالغ إذا قلنا إن مدار سوسيولوجيا السياسة المعاصرة يكاد لا يغادر المواضيع والإشكالات التي اشتغل عليها فيبر مثل ماهية الدولة المعاصرة وعلاقتها بالاقتصاد الرأسمالي؟ وأنماط الإدارة البيروقراطية، ورصده لأشكال السياسة الانتخابية، وأنماط السلطة، وأشكال الشرعية، كما لا نبالغ إذا قلنا إنّ أكبر المشاريع السوسيولوجية والفلسفية أيضا كان لا بد لها -لبناء صروح مشاريعها- من المرور عبر بوابة السوسيولوجيا الفيبريية إن استلهاما أو نقدا.

وما سوف نسترسل في رصده من خلال هذا المقال هو مفهوم الهيمنة الشرعية الذي لاقى مكانة مركزية في السوسيولوجيا السياسية لماكس فيبر، فقد وردت مصنفاته المشهورة في أكثر من خمسة مواقع في أعماله وفي سياقات مختلفة. جاءت النسخة الأكثر نضجا في كتابه الضخم الصادر بعد وفاته "الاقتصاد والمجتمع". في هذا السياق جاءت مصنفاته بمثابة مقدمة ومبدأ لتنظيم الفصول الأساسية التي تتناول بالتحليل وبالترتيب البيروقراطية والبطريركية والباتريمونيالية ثم الفيودالية وما يهم فيبر ليس معرفة ما إذا كان ادعاء ما بالشرعية ينجح أم لا في ديمومة الهيمنة، لكن ما يهمه هو (كيف) يسهم شكل هذا الادعاء في تشكيل وتنظيم العلاقات داخل هذه الهيمنة. وهذا ما يدفعه إلى تأسيس مصنفاته للهيمنة على ثلاثة أشكال مجردة يمكن للمطالبة بالشرعية أن تأخذها.

حيث ينطلق فيبر أولا من اعتبار الهيمنة ظاهرة ذات وجود واقعي وليس اعتبارا مثاليا، فهي لا تستنج عقديا أو قانونيا من قيمة ما أو معيار معين لكنها توجد فعلا وواقعا: فهي توجد كلما كانت هناك سلطة زاعمة لإصدار أوامر محددة تتبع فعلا على نطاق واسع. وقد فند فيبر ثلاثة أشكال للشرعية كالتالي:

- الشرعية المستندة على سلطة العادات والتقاليد: وتسمى أيضا بالشرعية التاريخية التقليدية، ويمارسها الأب الأكبر أو شيخ القبيلة مثلا. "تستند الهيمنة التقليدية على الإيمان المستمر بالطابع المقدس للتقاليد المحفورة في الذاكرة والعادة المرسخة في الإنسان على احترامها".

- الشرعية القائمة على المزايا الشخصية: أو ما يسمى أيضا بالشرعية الكاريزمية، وفيها يدعي صاحب السلطة امتلاكه مزايا نادرة وبطولات متميزة تجعل منه زعيما ملهما. ويكون فيها الخاضعون يعتقدون في الفضائل البطولية أو الدينية أو الخطابية والاستثنائية لشخص ما ويظهرون تفانيا مطلقا يحركه حماس ودوافع عاطفية.

- المشروعية المؤسسية: القائمة على قواعد حكم عقلانية، وكفاءة إيجابية أساسها التزام السلطة والمجتمع بواجبات وحقوق محددة قانونيا، كما أنّ الهيمنة المرتبطة بهذه الشرعية تتسم بالطابع المؤسساتي القوي وكذلك بالبيروقراطية التي هي خاصية أساسية للسلطة السياسية المبنية على العقلانية. فالقواعد العامة واللاشخصية تأخذ مكان الامتياز والحظوة، والتوظيف السياسي يتم على أساس الكفاءة وليس على أساس القرابة والمحسوبية وتلك هي سمة المشروعية الحديثة.

ويرى ماكس فيبر أن هذه الشرعيات الثلاث نادرا ما تكون منفردة. كما أنه ليس هناك اكتفاء ذاتي لشكل من الأشكال الثلاثة للشرعية، ففي ظل الهيمنة التقليدية يزعم المهيمن أنه يمثل مبدأ تنبع مصداقيته من أقدميته، بينما يزعم المهيمن كاريزميا أنّ مبدأ جديدا يقطع مع الماضي ينبع من شخصه الاستثنائي هو، وأخيرا إن الهيمنة العقلانية المعتمدة على مجموعة من القواعد المقبولة من طرف الجميع تدعي أنها فوق كل الأشخاص.

وفي الواقع كان فيبر ميالا إلى ديمقراطية برلمانية يحكمها رئيس قوي ذو حظوة كاريزمية تمكنه من التخفيف من غلواء الخصومات البرلمانية، إذ إن فيبر كان معاديا للنظام البرلماني الخالص الممثل آنذاك بالجمهورية الثالثة، فكان يأمل بذلك أن يكون هناك (رئيس يستند إلى الشرعية الثورية للانتخابات الشعبية) فكان ميالا إلى ما يسميه بالديمقراطية الاستفتائية حيث الرئيس بكاريزميته المطلوبة له هيمنة وسلطة تعلو على سلطة البرلمان. وربما لو قدر لفيبر أن يعيش إلى حدود سنة 1933م لكان أدرك واقعيا المآلات البعيدة والدرامية لهيمنة النموذج الرئاسي الكاريزمي الذي طالما تطلع إليه. والسبب في ذلك يعود إلى أن الديمقراطية كانت تحتوي في جوفها الرغبة في الهيمنة، والنزوع نحو التسلط على الفضاء العمومي بلغة الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس، وهي تدّعي ظاهريا أنها منظومة معرفية منغرسة في منبت الحرية، جاءت لكي تقضي عليها.

وما يهمنا في هذا المقام هو موقع هذه الأفكار من الشرعية السياسية في مجتمعاتنا العربية وتحت أي شكل من أشكال الشرعية التي طرحها ماكس فيبر تندرج؟ وللإجابة على هذا التساؤل نستعرض ما طرحه، الباحث الجزائري لهواري عدي، من خلال تقديمه للإشكالية السياسية في التجربة العربية بطابع اجتماعي، حيث وضح من خلال أطروحته أن التجربة العربية ما زالت أسيرة المرحلة الكاريزماتية، المشبعة بالروح التقليدية، ولم تستطع أن تبرح هاتين المرحلتين، وتبنت حداثة مزيفة تحوي جميع المتطلبات الحداثية، من جمعيات وأحزاب ومنظمات وتشريعات قانونية معصرنة؛ أي على درجة عالية من التحديث الفوقي، إلا أنّ العمق الحقيقي للتجربة العربية لم يتغير، من حيث جوهرها التقليدي، فهي تريد أن تكون حداثية، لكنها تعيش نكوصًا داخليًا يحول بينها وبين مبتغاها الحداثي ولذلك بقيت حبيسة المرحلة التقليدية، تمزجها في بعض الأحيان بمسحة كاريزماتية، تستمدها من التاريخ.

ويبقى السؤال هل يستطيع المجتمع العربي أن ينتقل من المرحلة التقليدية إلى المرحلة العقلانية القانونية؟

 

 

أخبار ذات صلة