لإد يونغ
محمد السماك
يتفكر القارئ المسلم للقرآن الكريم في الآية 21 من سورة الذاريات التي تقول :" وفي أنفسكم أفلا تبصرون" .
ويقوده تفكره إلى التساؤل: هل المقصود بذلك هو بصمة العين التي تختلف من إنسان إلى آخر؟ والتي يمكن من خلالها – من خلال العين- أن يسبر الطب غور بعض الأمراض الداخلية قبل استفحالها؟
أم المقصود هو بصمة الإصبع التي يتميز بها كل إنسان عن كل النّاس؟
أم المقصود هو الدماغ الذي يتمتع بقدرات هائلة لم يستطع العلم حتى اليوم تحديدها أو حصرها؟.. أم المقصود بذلك، الجهاز العصبي للإنسان الذي، كما يقول العلماء، لو ربطت أطراف شبكة الأعصاب في جسم إنسان واحد على شكل حبل مترابط، لكان بإمكانها أن تلف الكرة الأرضية كاملة .. وربما أكثر من مرة واحدة.
أم المقصود بذلك هو كل هذه الأمور مجتمعة؟
غير أنَّ الكتاب الجديد عن الميكروبات والجراثيم والطفيليات التي تعيش فينا وتعيش معنا، يُقدم بعداً آخر أو إجابة جديدة للدعوة القرآنية إلى التفكر في النفس، ليقدم حقائق علمية جديدة أو غير معروفة لدى عامة الناس، وحتى من كثير من العلماء والخبراء والاختصاصيين.
وكما قال المؤلف لقارئ كتابه إنّه وهو يقرؤه، (ونقول أيضاً لقارئ هذه المجلة وهو يقرأها الآن)، إنك أثناء قراءتك هذا النص، ومن حيث لا تدري، فإنّ مليارات من الميكروبات وتريليونات من الجراثيم المجهرية تتكاثر وتتضاعف في وجهك، وفي يديك وفي أحشائك الداخلية، وإنك مع كل عملية تنفس ومع كل حركة تقوم بها، تطلق إلى الهواء ما يُعادل 37 مليون جرثومة في الساعة.
ويقول المؤلف أيضاً إنه مع كل غرام واحد من الطعام الذي تتناوله، فإنك تتناول معه أكثر من مليون جرثومة. فتصوّر إذا أكلت كيلوغراماً واحداً فقط من الطعام، كم مليار جرثومة مجهرية تتناول معه؟.
ويقدم المؤلف الإحصائية العلمية المذهلة التالية؛ وهي أنّ ما يقارب نصف خلايا الإنسان ليست خلايا إنسانية!! وهذه الحقيقة تطرح فلسفياً السؤال التالي: من نحن إذن؟ وهل الأنا .. أنا؟ .. أي أين يبدأ الأنا وأين ينتهي؟..
تتكون الخلايا الإنسانية من تلاقح بويضة واحدة مع دي.أن.أيه من الأب والأم. وتبدأ الجراثيم المجهرية بالاختلاط مع هذه الخلايا الإنسانية حتى قبل أن يبدأ الجنين بالتنفس، وقبل أن تطبع الأم قبلتها الأولى على وجه جنينها، وقبل أن يتذوق الجنين طعم حليب أمه.
ويُؤكد المؤلف بعد ذلك الحقيقة المذهلة التالية، وهي أنَّ خلايا الإنسان لا تستطيع أن تبني جسماً سليماً وصحياً من دون مساعدة وثيقة من كل هذه التريليونات من الميكروبات المهاجرة التي تشكل نصفنا الثاني !!
من هنا السؤال الكبير مرة ثانية: ما معنى الأنا؟
تقول الأدبيات الطبية المتداولة أن جهاز المناعة يتولى حماية الإنسان من خلال تحديد مواقع ومكافحة أيّ عناصر دخيلة متسللة إلى جسم الإنسان، غير أنّ الحقيقة العلمية تؤكد أن قسماً من جهاز المناعة يتشكل هو ذاته أيضاً من الميكروبات، وأن هذه الميكروبات تقوم بإدارة عمله ولو جزئياً.
حتى عندما يكون الواحد منِّا منفرداً بنفسه، فإنِّه لا يكون وحيداً أبداً. فنحن عندما نأكل، تأكل الميكروبات معنا، وعندما نسافر، تسافر معنا، ولكن عندما نموت تقوم الميكروبات بالتهامنا!!
هذه الحقائق في الذات الإنسانية من شأنها أن تُعيد تعريفنا لذاتنا، وفهمنا لأنفسنا وللكون من حولنا. ولذلك فإنِّها تقدم جواباً جديداً على الدعوة القرآنية إلى التفكر في النفس وما فيها من كوامن الأسرار التي خلقها الله سبحانه وتعالى فينا.
إنِّ الانفتاح على هذا الأفق العلمي الجديد يُغير من نظرتنا إلى أجسامنا وفهمنا له، كما يُغير من نظرتنا إلى الكائنات الأخرى، وإلى الطيور في الفضاء، وإلى الأشجار في الأرض، بما يستجيب إلى الدعوة القرآنية إلى التفكر في أنفسنا وفي ما خلق الله من كائنات نرى بعضها ولا نرى أكثرها!! ولكننا نعرف أنها موجودة لنا، وموجودة فينا .
في الكتاب الذي يتضمن حتى في حواشيه الموسعة معلومات جديدة ومذهلة عن هذا العالم غير المرئي الذي يشكل أساساً في وجودنا وفي حياتنا، يقول المؤلف أد يونغ إنّ علم دراسة الجراثيم بدأ مع العالِم الهولندي أنتون فان ليونهوك الذي كان أول من اكتشف هذه الجراثيم وسماها "الحيوانات المجهرية" . وقد وجدها في كل مكان: على بشرة الإنسان، على الخشب، وعلى الفراء وحتى داخل العيون. وفي عام 1783 استخرج يونغ قطعة صغيرة من ترسبات على أسنانه وتفحصها تحت المجهر، ووجد فيها أعداداً هائلة من الكائنات الحية، تتحرك بانتظام!!
يومها كان تقدير العالم الهولندي – وقد ثبت فيما بعد أن تقديره كان صحيحاً – هو أنه توجد كائنات مجهرية (جراثيم) تسبح وتحلق في فمه أكثر عدداً من سكان هولندا! غير أنّ دراسته في ذلك الوقت لم تأخذ حقها بالاهتمام لأن رؤية هذه الكائنات المجهرية لم تكن متوفرة لبقية الناس.
لقد انتظر العالم مائة سنة أخرى، أي حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كما يقول المؤلف، حتى يدخل العلم مرحلة جديدة ومثيرة أيضاً في علم الجراثيم، وذلك عندما ربط علماء مثل لويس باستير، وروبرت كوش وجوزف ليستر، بين الجراثيم وبعض الأمراض التي تصيب الإنسان، وبقدرة الجراثيم على التَّسبب في الأمراض الوبائية المعدية. وهكذا تكونت "نظرية الجراثيم" وأصبحت العدسة التي ينظر العالم من خلالها إلى الإنسان: صحته ومرضه، بل وإلى حقيقته المادية!.
تقوم النظرية الصحية العامة على أساس مكافحة البكتيريا –الجراثيم الميكروبية- ولكن هذه الميكروبات كامنة فينا؛ فنحن لا نعيش من دونها، ولا يمكن لنا أن نتخلص منها، بل ليس من مصلحتنا أن نتخلص منها. صحيح أن قليلاً من هذه الكائنات يسبب لنا الأمراض، غير أنّ الصحيح أيضاً هو أن حفظها ضروري وأساسي لحياتنا، بل إنها أساسية حتى نكون نحن من نكون.
ومع تطور الأجهزة الإلكترونية في القرن العشرين، توسع العلم في سبر غور أسرار هذه الكائنات الكامنة فينا. ومن العلماء الذين برعوا في ذلك، كما يقول المؤلف، نورمان بيس الذي فتح أبواب البحث العلمي في أسرار الكائنات المجهرية على مصراعيها.
ففي عام 1999 جدد عالم الجراثيم دافيد ريلمان تجربة العالم الهولندي أنتون ليونهوك، فأخذ قطعة من الترسب حول أسنانه ودرسها تحت المجهر الإلكتروني المتطور هذه المرة، ليكتشف وجود كائنات جديدة لم يُشاهدها سلفه. وفي عام 2005 اكتشف العالم ريلمان أيضاً 400 فصيل جديد من البكتيريا في أحشاء الإنسان لم تكن معروفة من قبل.
ووجد أنَّ الكائنات المجهرية التي تعيش في الأمعاء الدقيقة هي غير تلك التي تعيش في نهاية الأمعاء الغليظة. حتى في يدي الإنسان، فإنّ سدس الكائنات المجهرية فقط التي تعيش في كف اليد اليمنى تشبه تلك التي تعيش في كف اليد اليسرى من الإنسان نفسه!!
وفي الطبيعة فإنّ الكائنات الجرثومية التي تعشعش في حقول العنب –الكرمة- مثلاً في مزرعة ما، تختلف عن تلك التي تعشعش في مزرعة متاخمة لها وذلك لاختلاف التربة في هذه المزرعة عن تلك في المزرعة المقابلة، تماماً مثل اختلاف الكف الأيمن عن الكف الأيسر.
وتؤكد دراسة الدكتور يونغ، وهو نفسه عالِم جراثيم، أنّ الخلايا الإنسانية والخلايا الجرثومية تعتمد على بعضها بشكل مذهل وإلى حد التكامل. ويفسر ذلك بقوله إنَّ الإنسان وهذه الكائنات الحية تطورا معاً، فنحن نوفر لها المأوى، وهي تقوم بالعمل، بل بالإدارة، على حد قوله.
إنّ الجينوم الإنساني يتألف من 25 ألف وحدة. أما مجموع وحدات جينوم الكائنات المجهرية الموجودة داخل جسم الإنسان فتبلغ 500 مرة أكثر، أي ما يعادل 12 مليون ونصف المليون وحدة!! فهل يفسر ذلك ولو بعض الإجابة على الدعوة القرآنية للتفكّر في النفس؟.
من أجل ذلك يؤكد المؤلف في كتابه على حقيقة مذهلة أخرى، وهي " أن أجسامنا تتكون، ويُعاد تكوينها باستمرار من خلال البكتيريا الموجودة فينا"، حتى أنّه يذهب إلى حد القول "أنا لا احتوي على كائنات مجهرية؛ إنني كائن من مجموع هذه الكائنات المجهرية".
ولكن ليست كل هذه الميكروبات والجراثيم المجهرية صديقة للإنسان ومتكاملة معه. لقد تمكنت فصائل عديدة منها من الاستقواء على المضادات التي أنتجها الطب حتى الآن. وقد أثارت هذه الظاهرة قلق منظمة الأمم المتحدة التي قررت ربما للمرة الثانية في تاريخها، أن تضع هذه القضية الطبية في مُقدمة أولوياتها نظراً لانعكاساتها الخطيرة على الإنسانية جمعاء. وتؤكد الإحصاءات العلمية أنّ الأمراض التي تسببها البكتيريا، تقضي سنوياً على حياة 700 ألف إنسان. وتتوقع الدراسات العلمية أن يرتفع عدد ضحايا البكتيريا من بني الإنسان في عام 2050، إلى 10 ملايين شخص سنوياً.
من هنا كان التركيز العلمي على السؤالين الكبيرين: السؤال الأول هو كيف تمكنت البكتيريا من الاستقواء على المضادات التي أنتجها الإنسان؟ وكيف قامت بتوريث الجيل الجديد من البكتيريا المناعة الذاتية ضد هذه المضادات؟.
أما السؤال الثاني والمترتب على الأول، فهو: ما هي أخطار النتائج المترتبة على هذه التحولات في قدرات البكتيريا ومقاومتها للمضادات؟ وكيف سيتعامل الإنسان (والطب تحديداً) معها؟.
للإجابة على هذين السؤالين، توجه العلماء إلى دراسة بكتيريا الغابات والحقول للبحث عن مضادات جديدة؛ ذلك أنّه من دون هذه المضادات (الجديدة) فإنّ أيّ عملية جراحية، أو حتى عملية ولادة، يمكن أن تعرض الإنسان لخطر الإصابة بالتهابات قاتلة !!.
صحيح أنَّ المضادات الحيوية تغير من طبيعة انتشار وعمل الميكروبات في جسم الإنسان، وعلى جسم الإنسان، وحول جسم الإنسان، وإذا كانت مهمة هذه المضادات القضاء على البكتيريا المُسببة للمرض، فإنِّها في الوقت ذاته تحفز هذه الحيوانات المجهرية على تطوير جهاز المناعة لديها بما يؤدي إلى إنتاج بكتيريا متفوقة على المضادات ومعطلة لدورها ولفعاليتها. وهنا مصدر الخطر على الحياة الإنسانية. وهو اليوم يحتل موقع الصدارة في الاهتمامات الطبية الجرثومية.
وأملاً في الوصول إلى آلية إنسانية جديدة تتفوق على آلية المقاومة الجرثومية، فإنّ العلماء يلجؤون إلى دراسة البكتيريا في الطبيعة (أي خارج الدائرة البشرية المباشرة) لعلهم يجدون ضالتهم المنشودة، فهل يتوفقون؟ إن مستقبل صحة الإنسان يتوقف إلى حدٍ بعيدٍ على الجواب على هذا السؤال!!
إنّ البكتيريا المقاومة للمضادات تفتك سنوياً بأكثر من 700 ألف إنسان. وفي عام 2050 قد يرتفع عدد الضحايا حسب دراسات منظمة الصحة العالمية إلى 10 ملايين إنسان إذا لم يتمكن العلم من الكشف عن مضادات فعالة جديدة .
ولقد أكدت الدراسات العالمية التي أجريت في عام 2014 أن 60 بالمائة من البكتيريا "الجديدة" التي عثر عليها في أحشاء المرضى، غير قابلة للعلاج بواسطة البنسلين، وأن 25 بالمائة منها على الأقل تتمتع بقدرة على مقاومة كل أنواع المضادات المعروفة .
ويعتقد العلماء أن السبب الرئيس وراء ذلك هو الإفراط في استخدام المضادات الحيوية على الإنسان وعلى الحيوانات التي تؤكل لحومها فيما بعد .
فقد تضاعفت 50 بالمائة نسبة تناول المضادات الحيوية بين عامي 2000 و2014 . وفي تقديرات البنك الدولي التي نشرت في شهر سبتمبر – أيلول 2016 فإن الالتهابات الجرثومية التي تصيب الإنسان قد ترتفع تكاليفها إلى ما بين 1،1 بالمائة و 3،8 بالمائة من الدخل العالمي.
وتشير هذه الأرقام إلى حجم القضية التي بدأت تحتل سلّم الأولويات في الاهتمامات العالمية .
قديماً قال الفيلسوف سقراط " اعرف نفسك" . يومها لم يكن سقراط يعرف شيئاً عن الميكروبات والجراثيم والفيروسات وسائر الكائنات المجهرية الأخرى . كان يتحدث عن النفس الإنسانية. أما هذا الكتاب فإنّه يتحدث عن الجسم الإنساني. أما علاقة الجسم بالنفس فذلك موضوع آخر.
----------------------------------------------------------------------
الكتاب : المحتوى المتعدد: الجراثيم في داخلنا ونظرة أوسع للحياة
Contain Multitude : The Microbes within us and a Grander view of life
اسم المؤلف : إد يونغ Ed Young
تاريخ النشر : 2016
عدد الصفحات : 335
اللغة: الإنجليزية
