فينان نبيل
كاتبة وباحثة مصرية
لا يحصل القادة عادة على اهتمام كبير من علماء العلاقات الدولية، الذين يميلون إلى تفضيل النماذج المجردة لتجارب صناع القرار، بينما يقدم مؤلفو كتاب"( لماذا يحارب القادة) بشكل حاذق مشكلة صعبة يتقاطع عندها العلوم السياسية والتاريخ وعلم النفس، وهي : كيف تؤثر سمات الزعماء والقادة الشخصية على تشكيل قراراتهم، ومواقفهم في مواجهة المخاطر؟ يلعب القادة السياسيون دورًا رئيسًا في تشكيل مصائر بلدانهم؛ فالقائد هو المسؤول عن اتخاذ القرارات التي تتعلق بالسلم والحرب فضلاً عن صياغة التوجهات الداخلية والخارجية لسياسات بلاده وأسلوب التعامل مع مستجدات الأحداث علي مختلف الأصعدة؛ لذلك فإنّ الكتاب يكتسب أهمية كبرى إذا إنّه يعيد القادة إلى بؤرة اهتمام علم العلاقات الدولية، حيث يحاول المؤلفون البحث عن أسباب اتخاذ القائد السياسي قرار الحرب، وذلك باستخدام إطار منهجي يدمج بين التاريخ والعلوم الاجتماعية الحديثة ونظريات العلاقات الدولية، متلمسين الإجابة في البحث عن كيفية تشكل معتقدات القادة، ورؤيتهم للعالم والحرب، وفي البحث عن مدى تأثير خبرات حياتهم الخاصة على قراراتهم السياسية في الحرب والسلام. يمكن القول إن كتاب (لماذا يحارب القادة ) - الذي كتبه ثلاثة من المتخصصين في علم العلاقات الدولية بالجامعات الأمريكية - يسد فجوة عميقة بين الدارسة الأكاديمية التي تقوم على نظريات مجردة، وواقع عملي يستند إلى أحداث حقيقية شكلت مصائر الشعوب من خلال فحص دقيق لمعلومات وفيرة عن الحياة الشخصية لأكثر من 2400 قائد سياسي حكموا العالم خلال الثلاثة قرون الماضية .
يبدأ الكتاب بمُقدمة تبحث عن أسباب استمرار زعيم بارجواي "سولانو لوبيز" في حربه التي بدأت عام 1864م ضد تحالف يضم ثلاث دول هي البرازيل والأرجنتين وأورجواي رغم إلحاقهم به هزيمة ساحقة أدت إلى خسائر بشرية تجاوزت 60% من سكان بارجواي، فضلاً عن تدمير البنية التحتية لبلاده، ورغم إتاحة أكثر من فرصة لحقن دماء أبناء وطنه من خلال جولات مفاوضات متقطعة أفشلها تمسك لوبيز باستمرار الحرب حتى قُتِل في نهاية ست سنوات من القتال الدامي منهياً حرباً تعد الأكبر في خسائرها منذ توقيع معاهدة وستفاليا حتى الآن .
ويستنتج الكُتّاب أن لوبيز – كمثال للقائد الذي شكلت رؤيته الشخصية مصير بلاده – اتَّجه لاتخاذ قرار الحرب تحت تأثير التربية الاستبدادية التي تلقاها على يد والده دكتاتور بارجواي الأسبق، إضافة إلى التربية العسكرية التي تلقاها خلال فترة المراهقة دون خوض لحروب حقيقية والأوهام التي روجها المحيطون به حول تمتعه بعبقرية عسكرية فذة سيطرت على أفكاره ومثلت قيودًا منعته من التفكير الاستراتيجي السليم فمال إلى البحث عن مجد شخصي زائف من خلال تحقيق نصر عسكري، وحينما ألحقت به هزيمة عسكرية نكراء أصر على استمرار الحرب رافضًا ما أسماه عار الهزيمة ومحافظًا على معنى الشرف العسكري طبقا لمعتقداته ومفاهيمه الشخصية مهما كان لاستمرار الحرب من آثار مدمرة لبلاده وشعبها .
يستمر المؤلفون في تحليل قرارات عدد من القادة السياسيين الذين لعبوا أدوارا رئيسة في خوض بلادهم الحرب مثل الرئيس الأمريكي السابق "جورج دبليو بوش" الذي يعد المحرك الأساسي للحرب الأمريكية على العراق، فيرى المؤلفون أنه في ضوء أحداث الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية فإنّ أي رئيس أمريكي – مهما كانت توجهاته الشخصية – كان سيتخذ قرار الحرب على أفغانستان عام 2001، بينما الحرب على العراق عام 2003 لها شأن مختلف؛ فلو أن المرشح الديمقراطي (آل جور) الذي نافس بوش الابن على مقعد الرئاسة الأمريكي هو الفائز بالانتخابات لاختار تشديد العقوبات الاقتصادية على الرئيس العراقي صدام حسين بدلاً من خوض الحرب ضده، كما أشار المؤلفون إلى أنَّ التفضيلات الشخصية للرئيس الروسي "فلاديمير بوتين " هي المُحرك الأساسي لبدء العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا وشبه جزيرة القرم.
يذهب المؤلفون من خلال ست فصول يتضمنها كتاب (لماذا يحارب القادة) إلى ذكر عدد من العوامل التي تفسر سلوك القادة السياسيين ومدى تأثيرها على قراراتهم في دخول الحروب من بينها:
طبيعة السلطة: يؤكد المؤلفون أنَّ القادة الذين يتمتعون بسلطات مطلقة في اتخاذ القرار يكونون أكثر عرضة للدخول في صراعات مسلحة مثل "جوزيف ستالين" الذي كان سبباً في تورط الاتحاد السوفيتي السابق في عدد من الصراعات المسلحة، فيما يواجه القادة الديمقراطيون قيودا محلية وعالمية تحد من إراداتهم الشخصية في اتخاذ القرارات المصيرية مثل الرئيس الأمريكي روزفلت الذي فشل في تنفيذ سياساته لزيادة حجم الجيش الأمريكي خلال حقبة الأربعينيات من القرن الماضي.
- الخبرة القتالية السابقة إذ يعد القادة العسكريون الذين واجهوا الموت في حروب سابقة أقل رغبة في خوض غمار الحروب مجددا من القادة العسكريين الذين لا يملكون خبرة قتالية سابقة، فعلى سبيل المثال كانت الخبرة القتالية السابقة للرئيس الفرنسي "جاك شيراك" في الجزائر دافعاً لعدم اندفاعه نحو المخاطرة والمشاركة في الحرب الأمريكية على العراق عام 2003 ، فيما كانت الخبرة العسكرية للرئيس الأمريكي "جورج بوش الابن" وخدمته في الحرس الوطني الأمريكي دون خوض معارك قتالية حقيقية عاملاً أساسياً في توجهه نحو اتخاذ قرار الحرب، غير أن هذه الفرضية ليست صحيحة على إطلاقها؛ فالرئيس الأمريكي الأسبق "جيمي كارتر" خدم في سلاح الغواصات بالبحرية الأمريكية وله خبرات قتالية معروفة لكنه كان أقل رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية ميلا لتورط بلاده في الحروب.
-خبرة القادة في الحركات الثورية: كما يذهب المؤلفون إلى أن خبرة القادة في الحركات الثورية من الأسباب التي تجعلهم أكثر إيمانا بضرورة امتلاك بلادهم لنظم تسليح متطورة في مقدمتها الأسلحة النووية بهدف حماية بلادهم من الغزو، وهو ما يفسر – من وجهة نظر مؤلفي الكتاب - سعي الرئيس العراقي "صدام حسين" والرئيس الكوبي "فيدل كاسترو" ، والإسرائيلي" بن جوريون" للحصول على أسلحة نووية، وكذلك الصين خلال فترة حكم" ماو تسي تونج" كمثال يربط بين وصول الزعيم الثوري للحكم وانتشار الأسلحة النووية. كما أن الاشتراك في انقلابات عسكرية ، أو حركات تمردية، ثم الوصول للسلطة يعزز من استخدام القادة للعنف، فهم من هذا المنطلق أكثر ميلا لتوريط بلادهم في صراعات مسلحة بعد وصولهم للحكم مباشرة.
- معايشة القادة أحداثا مريرة ومؤلمة في الطفولة : يؤكد مؤلفو كتاب (لماذا يحارب القادة) أن معايشة القادة أحداثا مريرة ومؤلمة في الطفولة من أهم العوامل التي تشكل شخصياتهم وتوجهاتهم في اتخاذ القرارات المصيرية، فبعضهم يحاول تجنب تكرار هذه الأحداث ويتلافى اللجوء إلى العنف، فيما يتجه البعض الآخر إلى استخدام العنف كوسيلة لحل الصراعات السياسية، ويفترض المؤلفون علاقة طردية بين العيش في طفولة مضطربة وانخراط القادة فيما بعد في سلوك عدواني.
- عمر القائد : أورد مؤلفو الكتاب عوامل أخرى كالعمر من ضمن العوامل التي تؤثر على اتخاذ القرار، فقد ذهبوا إلى أن القادة الشباب أقل احتمالية للدخول في صراعات عن القادة كبار السن، فالقادة الشباب يميلون إلى الطرق السلمية في تسوية الخلافات، أما القادة كبار السن – من وجهة نظر المؤلفين – فيميلون أكثر إلى جر بلادهم لصراعات مسلحة تستهدف تحقيق أمجاد شخصية تخلد ذكراهم .
-النوع : بالرغم من الاعتقاد السائد بأن النساء قد يكنّ قائدات أقل تشددا من الرجال، توصل المؤلفون إلى أن النوع ليس مؤثرا بشكل كبير في الدخول في الحروب. ويخصص الكتاب جزءًا لخمسة من القيادات النسائية في دول مختلفة ، في الفلبين "كورازون أكينو"، و"بنازير بوتو" في باكستان، و" كيم كامبل" في كندا، و"غولدا مائير" في إسرائيل، و"مارغريت تاتشر" في بريطانيا العظمى ، وتعد " مارغريت تاتشر" مثالا جيدا على خلفية من شخصيتها القوية، فقد واجهت تاتشر بقوة هجوم الأرجنتين على جزر فوكلاند في عام 1982.
- الثروة والتعليم ومجال العمل :استمر مؤلفو الكتاب في رصد عدد من العوامل الأكثر حسما والتي من شأنها تفسير سلوك القادة السياسيين تجاه اتخاذ القرارات المصيرية مثل الثروة والتعليم ومجال العمل قبيل الوصول إلى السلطة فضلا عن البيئة الاجتماعية والأسرية التي نشأ من خلالها وهو ما يفسر تركيز وسائل الإعلام على خلفية المرشحين وتناولها بالفحص الدقيق في محاولة لفهم قراراتهم عند وصولهم للحكم،على سبيل المثال في الانتخابات الأمريكية الحالية لخبرة المرشح الجمهوري "دونالد ترامب" في مجال الاقتصاد، وتاريخ المرشحة الديمقراطية "هيلاري كلينتون" في الكونجرس وكوزيرة للخارجية الأمريكية،وتركيز الإعلام فيما مضى على تناول تجربة طفولة أوباما ومدى تأثير انفصال والديه على توجهاته في اتخاذ القرارات السياسية .
ويمكن القول إن مؤلفي الكتاب حاولوا فهم كيفية اتخاذ القادة السياسيين لقرارات الدخول في حرب استنادا إلى معرفة الخلفيات التاريخية والاجتماعية والنفسية لهؤلاء القادة ومدى تأثيرها على سلوكياتهم المستقبلية فيما يعد أداة مفيدة للمواطنين والباحثين الأكاديميين لمعرفة أي من هؤلاء أكثر ميلا للانخراط في سلوك عدواني، فضلا عن كشف اتجاه قراراتهم حال وصولهم للسلطة .
هذا كتاب حول زعماء العالم وكيف كانت تجاربهم قبل توليهم الحكم وهو يقدم مجموعة البيانات الأكثر اكتمالا عن التجارب السابقة لأكثر من عشرين قائدا، تشمل مرحلة الطفولة، والخدمة العسكرية إلى مرحلة الزواج، لكل زعيم منهم منذ عام1875 إلى عام2004.
وضع المؤلفون إطارا عاما للسياسات والبحوث المستقبلية مؤكدين أن العامل الأكثر أهمية في عمل الدول واتخاذ قرارتها هو القيود الهيكيلية والمؤسسية، وأنواع الحكومات، وتوصلوا إلى أن الدول الاستبدادية والأنظمة ذات الخلفية الثورية أكثر نزوعا لخوض الحروب.
وقد كتب " إيزايا برلين " المفكر السياسي البريطاني ذات مرة أن الأكثر أهمية في فهم عوامل إصدار الأحكام السياسية هو أن نتلمس التفاعل بين البشر والقوى غير الشخصية وأن نتفهم كل حالة في تفردها الكامل، والأحداث والمخاطر، والآمال والمخاوف التي تحكم القرار في مكان معين في وقت معين.
مايكل – سي- هورويتز يعمل أستاذًا للعلوم السياسية بجامعة بنسلفانيا، وآلان سي ستام يعمل أستاذا مساعدا للعلوم السياسية بجامعة ميتشيجان، وكالي .ام. أليس يعمل باحثاً بمركز الدراسات الدولية التابع لجامعة شمال كاليفورنيا.
------------------------------------------------------------------
الكتاب: لماذا يحارب القادة؟
المؤلفون: مايكل – سي- هورويتز، وآلان سي ستام، وكالي أم إليس
الناشر: جامعة كامبريدج، 2015.
اللغة: الإنجليزية
Michael C.Horowitz, Allanc. Stamm; Cali M. Ellis -"Why Leaders Fight" - (New York: Cambridge University Press, 2015)
