لأرنست فولف
عماد بن جاسم البحراني
صدر مؤخرًا عن سلسلة عالم المعرفة التي يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت، كتاب مُترجم بعنوان صندوق النَّقد الدولي قوة عظمى في الساحة العالمية للكاتب الألماني أرنست وولف، المؤلف يعمل أستاذاً للفلسفة في جامعة بريتوريا بجنوب أفريقيا، وقد ترجم الكتاب المترجم العراقي عدنان عبَّاس علي.
يحتوي الكتاب على 22 فصلاً، استعرض فيه المؤلف تاريخ الصندوق ابتداءً من مؤتمر بريتون وودز عام 1944م، حتى عام 2013، ويتميز الكتاب بانتقاده اللاذع لسياسات صندوق النقد الدولي الذي وصفه المؤلف بأنّه يُحارب الفقراء وليس الفقر. وأدان المؤلف سياسية صندوق النقد الدولي لأنّه من وجهة نظره قد حرم شعوب أفريقيا وآسيا وجنوب أمريكا من الالتحاق بالمدارس. يقول المؤلف في مستهل كتابه: "لقد كانت الإجراءات المدعومة من قبل الصندوق عاملاً جوهريًا في بلوغ اللاعدالة الاجتماعية، في العالم أجمع، مستويات لا مثيل لها في تاريخ البشرية".
كيف كان هذا؟ وبأيّ وجه يحق لمؤسسة أن تتسبب في تعريض بني البشر لمصائب لا توصف ورزايا لا نهاية لها، أن تواصل نشاطها بلا عقوبة، وأن تحظى مستقبلاً أيضًا بمُساندة قوى صاحبة السلطان في زمننا الراهن؟ ولمصلحة من يا ترى يعمل صندوق النقد الدولي؟ ومن هو الطرف المُستفيد من إجراءاته؟
إنّ إعطاء الجواب الشافي عن هذه الأسئلة هو الهدف الذي يسعى الكتاب لتحقيقه".
قسم المؤلف تاريخ صندوق النقد الدولي إلى أربع مراحل رئيسة:
- المرحلة الأولى: فترة الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، اتِّسمت هذه المرحلة بتركيز الصندوق جهوده على تمكين الدولار الأمريكي من أن يكون العملة القيادية في العالم أجمع، وسعيه إلى فرض وصايته على الدول المستقلة حديثًا، خصوصاً الدول الإفريقية، وذلك من خلال منح هذه الدول القروض المالية والتي كانت بأمس الحاجة إليها، بعد ما نهبت الدول الاستعمارية خيراتها ومقوماتها الاقتصادية لعدة عقود.
- المرحلة الثانية: حينما أطاحت حركة انقلابية بالحكومة الشرعية في تشيلي، حيث تعاون الصندوق مع الدكتاتور بينوشيه ومع المؤمنين بالمبادئ التي تُنادي بها مدرسة شيكاغو الاقتصادية بقيادة ميلتون فريدمان، فتبنى الصندوق مبادئ الليبرالية الحديثة، جاعلاً منها المنارة التي يهتدى بها ويصوغ بحسبها سياساته المنفذة حتى اليوم. وقد مهدت هذه السياسات الطريق أمام المصارف والشركات العملاقة الأمريكية حصراً للوصول إلى أقصى ربوع المعمورة، فيما أسفرت في الدول النامية إلى حدوث مجاعات وفقر مدقع وتدهور كبير في النظامين التعليمي والصحي وغيرها من مستلزمات الرعاية الاجتماعية.
- المرحلة الثالثة: مرحلة انهيار الاتحاد السوفييتي وتفككك الكتلة الشرقية؛ حيث انتهز الصندوق هذه الفرصة التاريخية، لتمكين رأس المال الغربي من ولوج أسواق كانت موصدة الأبواب في وجهه آنذاك. وساهم في تعميق التفاوت الاجتماعي، وفي نشأة ثلة أوليغاركية صغيرة تمتلك ثروات لا قدرة للمرء على الإحاطة بحجمها، وفي تفاقم الفقر في صفوف غالبية مواطني الاتحاد السوفييتي.
- المرحلة الرابعة: هي المرحلة التي تعيشها البشرية الآن، والتي تسببت في اندلاع أزمة القروض العقارية الأمريكية مرتفعة المخاطر، هذه الأزمة التي ضربت النظام المالي العالمي في أسسه. وقد تدخل الصندوق في هذه الأزمة من أجل إصلاح وضع الموازنات الحكومية من خلال حفز الحكومات المعنية على انتهاج سياسة تقشف مالي تناسب العجز المالي الناشئ بسبب مضاربات قام بها مستثمرون يغامرون بمئات المليارات من الدولارات أو اليورو، لعلمهم أن الدولة لن تتركهم يفلسون. وأدت سياسة التقشف هذه إلى حدوث كوارث اجتماعية، تمثلت في زيادة نسبة البطالة وتقويض أسس الرعاية الاجتماعية وتعرض كثير من المواطنين لأبشع صنوف الفقر.
جدير بالذكر أنّ صندوق النقد الدولي برز للوجود بصفة رسمية في 27 ديسمبر 1945 بعد توقيع 29 دولة على ميثاق الصندوق في مؤتمر بريتون وودز بالولايات المتحدة الأمريكية في الفترة من 1-22 يوليو1944، وبدأ ممارسة أعماله في الأول من مارس 1947، ويبلغ عدد أعضائه حالياً 188 دولة موزعة على خمس قارات.
ويختص الصندوق بتقديم القروض إلى الدول الأعضاء لمعالجة العجز المؤقت في موازين مدفوعاتها، وبذلك يعمل على استقرار أسعار الصرف. ويجب على الدول المقترضة أن تستشيره بشأن الخطوات التي تتخذها لتحسين وضع ميزان مدفوعاتها.
ومن الناحية الرسمية، تكمن وظيفة الصندوق الأساسية في العمل على استقرار النظام المالي، وتخليص البلدان المأزومة من مشكلاتها الاقتصادية، إلا أن المؤلف يصف الصندوق بأنّه ينتهك سيادة الدول ويجبرها على تنفيذ إجراءات ترفضها الأغلبية العظمى من المواطنين، ووصف تدخلات الصندوق بأنها أشبه بما تكون بغزوات جيوش متحاربة.
ويضيف أن الصندوق لم يستخدم في تدخلاته تلك، أسلحة أو جنودا، بل كان سلاحه الوحيد والبسيط هي عمليات التمويل وهي واحدة من آليات النظام الرأسمالي.
ونظرا لكون الصندوق الملاذ الأخير للحصول على السيولة النقدية، فلا مفر أمام حكومات الدول المأزومة، غير قبول عرض الصندوق وتنفيذ شروطه وإن ترتب على ذلك السقوط في فخ المديونية. وبدورها تحمل حكومات هذه الدول، الجماهير العاملة والفقراء من مواطنيها تبعات برامج التقشف المالي، وبالتالي تتسبب برامج صندوق النقد الدولي في خسارة ملايين العمال فرص عملهم، وحرمانهم من الحصول على رعاية صحية فعالة، ونظام تعليمي مناسب، ومسكن يراعي كرامتهم الإنسانية.
ويحمل المؤلف صندوق النقد مسألة اتساع رقعة التفاوت الاجتماعي في جميع البلدان الخاضعة لتدخلاته، حيث يقول:" إن الحقيقة التي لا خلاف عليها هي أن سياسة الصندوق مكنت حفنة من الأغنياء من تراكم ثرواتهم بلا انقطاع، حتى في أزمنة الأزمات".
ويضيف أن الصندوق يقدم المساعدات منذ عقود، وفي بعض البلدان للمرة الثانية أو الثالثة، ولكن بلا أي زيادة في النمو أو الرخاء في الدول التي لجأت إليه باعتباره الملاذ الأخير للتزود بالسيولة، فالعكس هو الصحيح: فمديونية هذه الدول ازدادت تفاقماً من يوم إلى آخر، والفقر تتسع دائرته بلا انقطاع.
ويعتبر فولف أنَّ صندوق النقد الدولي كان أوّل خطوات الهيمنة الأمريكية على العالم بعد انتصارها في الحرب العالمية الثانية، وأن الهدف من تأسيس هذا الصندوق هو تعزيز هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية على النظام العالمي الجديد، وفرض سيطرتها على مقدراته.
فقد أصبحت الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، أكبر دائن دولي، وتمكنت من السيطرة على ما يقرب من ثلثي احتياطيات الذهب في العالم، كما أنها تتحكم في نصف الإنتاج العالمي، ولم تكن لديها الرغبة في الاضطلاع بدور الدائن الرئيسي، كما كانت تريد التحكم في التدفقات المالية الدولية.
ويواجه الدور الأمريكي في صندوق النَّقد الدولي انتقادات وتساؤلات عديدة كان أهمها تحكم الولايات المتحدة الأمريكية في معظم القرارات لا سيما القروض، كما أنّها تستخدم الصندوق في ممارسة الضغوطات على الدول المدينة لتغيير سياستها لتتلاءم مع المصالح والتوجهات الأمريكية.
ويرى فولف أنَّ أخطر منعطف في تاريخ صندوق النقد الدولي كان في عهد مديره الثاني وهو السويدي إيفار رووت، حيث ربط الصندوق التمويل بشروط مجحفة، كانت بمثابة الضمان للتدخل في شؤون البلد المستدين، وكآلية للتدخل الخارجي في قواعد الحكم في البلدان المتأزمة.
في هذه الفترة ركز صندوق النقد الدولي اهتمامه على الدول الإفريقية التي نهب الاستعمار خيراتها، وكانت تتطلع لمكانته بين الأمم، وتبحث عن السيولة النقدية اللازمة للقيام بعملية التنمية والنهوض الاقتصادي والاجتماعي، فانضمت حوالي 40 دولة إفريقية إلى عضوية الصندوق بين عامي 1957- 1969م، بينها مصر وجنوب أفريقيا وأثيوبيا، لكن الذي حدث -حسب وصف المؤلف- أن هذه الدول خرجت من فخ الاستعمار إلى فخ صندوق النقد.
يرصد المؤلف بعد ذلك الأزمات العالمية التي يقف وراءها صندوق النقد الدولي عبر تاريخه من التجربة التشيلية في السبعينيات إلى أزمة الديون في أمريكا اللاتينية، التي تحول فيها الصندوق إلى لاعب دولي في إدارة الأزمات، مروراً بسعي الصندوق إلى دمقرطة الاتحاد السوفييتي قبيل سقوطه، ومن تمهيد الصندوق للحرب في يوغسلافيا إلى الأزمة الآسيوية، ومن الأزمة المالية العالمية عامي 2007 و2008م إلى إفلاس اليونان.
حيث دلل المؤلف على السياسات غير الأخلاقية التي يتبعها صندوق النقد من خلال الاستشهاد بالأزمة اليوغسلافية، فهو حسب رأيه-أي الصندوق – ساهم بهمة وعزيمة في تفكيك يوغسلافيا، وذلك من خلال تعليق دفع المساعدات المالية لها في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين. وبهذا الإجراء شارك الصندوق في دفع شعب تعداده 24 مليون نسمة إلى حياة البؤس والحرمان والتهلكة، وإلى إشعال فتيل صراعات دامية على أرض دولة متعددة الأعراق والأجناس مما أدى إلى تفكيكها في نهاية الأمر.
فقد كان تعليق المساعدات المالية المخصصة لميزانيات الأقاليم والولايات أخطر إجراء قام به الصندوق في يوغسلافيا. حيث أدى هذا القرار إلى منع تخصيص الأموال لأقاليم البلاد المختلفة، وتوجب استخدام تلك الأموال في سداد ديون البلاد لدى نادي باريس ونادي لندن، مما أدى إلى قطع الصلات المالية بين العاصمة بلغراد والأقاليم المختلفة، فقد علقت كرواتيا وسلوفينيا تسديد ما في ذمتهما من التزامات مالية حيال الصندوق والمخصصة لمساعدة الأقاليم الضعيفة اقتصادياً.
ويرى المؤلف أنَّ هذا الإجراء كان بمنزلة الفتيل الذي أشعل لهيب الصراعات القومية والحرب الأهلية، التي تذرع بها لاحقًا حلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي للتدخل العسكري في يوغسلافيا، وأدى إلى انقسامها إلى دويلات.
وقد سعى المؤلف إلى تحليل الدوافع والأسباب التي تدفع صندوق النقد الدولي إلى التحرك بهذا النحو غير الأخلاقي؛ وخلص إلى نتيجة مفادها أنَّ الصندوق ليس مؤسسة معرضة للصواب والخطأ حالها في ذلك حال بني البشر، أو أنه مؤسسة تقودها مجموعة تفتقر إلى الكفاءة. إن التعلل بهذه الحجة لا يؤيدها الواقع بتاتا، والأقرب إلى الحقيقة برأيه أن الصندوق يتحرك انسجامًا مع تطور النظام المالي العالمي، هذا النظام الذي تعرض منذ سبعينيات القرن العشرين لعملية تحرير متصاعدة، وتطور بخطوات سريعة، بحيث إنه صار يتفوق في حجمه على القطاع الحقيقي، أي القطاع الإنتاجي.
وفي ختام كتابه يتنبأ المؤلف بمستقبل لا دور فيه لمُنظمات من قبيل صندوق النقد الدولي، حيث يقول: " لو نجحت الجماهير العاملة، على الرغم من كل الظروف المعاكسة، في اكتشاف أكاذيب وسائل الإعلام والسياسيين، ولو أفلحوا في تحرير أنفسهم من فخ الأحزاب والمنظمات التقليدية، وطوروا تنظيمات وأساليب كفاح حديثة تتماشى مع متطلبات الزمن الحاضر، فلا مراء في أن هذه الجماهير ستكون لديها فرصة تاريخية: إذ سيكون بوسعها – انطلاقاً من المستويات التقنية والعلمية المتحققة في العصر الراهن- إقامة مجتمع لا تسيطر فيه أقلية جشعة، لا يشبع نهمها للربح وتراكم الثروات، بل تسيطر عليها الرغبة في تلبية الحاجات الاجتماعية المهمة بالنسبة إلى أكثرية أبناء الشعب".
لكن المؤلف في ذات الوقت يؤكد أنّه لا يُمكن التكهن بالهيئة التي سيكون عليها هذا المجتمع مستقبلاً في حال حدوث هذه التطورات التي يتنبأ بها.
---------------------------------------------------------------------------------------
الكتاب: صندوق النقد الدولي قوة عظمى في الساحة العالمية
المؤلف: أرنست فولف
ترجمة : د. عدنان عباس علي
سلسلة : عالم المعرفة
الطبعة : أبريل 2016 م
الناشر : المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب - الكويت
عدد الصفحات : 266 صفحة
