«زمن بيبليوسكوب: الحداثة في مرآة ثقافة الكتاب»

الغلاف.jpg

ليوليا شيربينينا

فيكتوريا زاريتوفسكايا *

حسب مقولة شهيرة للناقد والفيلسوف والروائي الإيطالي "إمبرتو إيكو"، استشهدت بها الباحثة الروسية يوليا شيربينينا في كتابها الجديد "زمن بيبليوسكوب.. الحداثة في مرآة ثقافة الكتاب"، فإنَّ: "كل أنواع الكتب، فيما يخص تكوينها المادي الملموس، لم يطرأ عليها تبدل، لا في وظيفتها ولا في تركيبتها؛ وذلك طوال أكثر من خمسة قرون. إنَّ الكتاب، مثله مثل الملعقة والمطرقة أو العجلة والمقص، اللائي، وبعد أن استُحدثت أول مرة، لم يُصنع شيئا من طينتها أفضل منها. إنكم لن تخترعوا ملعقة أفضل من الملعقة". (من كتاب "لا تأملوا في التخلص من الكتب"، إيكو، 2009م). 

 يوليا شيربينينا، باحثة روسية مختصة في دراسات التواصل الاجتماعي ودراسات الكتاب. حائزة على عدة جوائز في مجالها، وينافس كتابها -الذي نحن بصدد عرضه هنا- على الجائزة الروسية "التنويري" الخاصة بالكتب غير الأدبية التي تُسهم في نشر العلم.

وبأسلوب يتَّسم بعُمق الرؤية، تفتح شيربينينا أمام القارئ موضوعا جديرا بالنقاش، بل ومحفزا إليه وداعيا إلى التساؤل حوله. موضوع قديم نسبيا ولكنه يتمظهر كل مرة في لبوسٍ جديدة ومتغيرة. موضوعها هو الكتاب باعتباره مرآة العصور ومصفاة لحياة الأجيال التي اتخذته وثيقة حفظت لها صورتها، وأسهمت في تطوير نظرتها ومنظورها تجاه الزمن والحضارة.

ويرتبط البحث -الذي بين أيدينا- بالعمليات الاجتماعية الراهنة المتعلقة بثقافة الكتاب: الأشكال الحديثة التي يصدر بها الكتاب، والتيارات الأدبية المستجدة، والتجارب الإبداعية، والإستراتيجيات القرائية، وطرق العلاج بالقراءة. كما يتطرق البحث إلى الشغف بالكتب، واستبداد النقاد، ومرض إدمان الكتابة، واختلاس النصوص، ومسألة إعادة كتابة النصوص بأسماء جديدة كنوع من القرصنة التي تدور رحاها فيما يعرف بالعالم الافتراضي؛ هذا العالم الذي ما برح يتعاظم ويفرض سطوته على الواقع المُعاش.

تُشاطرنا الباحثة استدلالاتها وملاحظاتها عن كيفية بناء العلاقة بين الناشر والكاتب والقارئ في راهن أيامنا؛ وما الذي تعنيه المكتبات ضمن الواقع الالكتروني المضطرد. مع ذلك -من جهة أخرى- فالناس، حتى يومنا الراهن، وبمجرد ظنهم السوء بالكتاب، يعمدون إلى حرقه، وفي اعتقادهم أنهم ينفذون حكم الإعدام عليه ويقومون بقتل الفكرة التي يحملها. وإن كنا نستهجن مثل هذا السلوك سابقا ونصفه بالبربرية وانتفاء حسه الحضاري، يحلو لنا اليوم رؤيته من زاوية أخرى ترمز إلى القوة الثقافية والاجتماعية التي مازال  الكتاب يتمتع بها.

وفي فصول الكتاب الاثنين والعشرين، تبحث الكاتبة عن سبيل يخلصها من حالة الاستنكار المصحوبة بالغم والشعور بخيبة الأمل من طبيعة الثقافة الحديثة، ولكن بلا جدوى. ترى بأن الفرد المعاصر لا يبذل أدنى مجهود لاكتساب معرفة حقيقية، كقراءة الكتب والنصوص التي تضيء له الطريق لمعرفة النفس واستنباط الحياة والكون.

تُطلق الباحثة على القارئ في الثقافة الحديثة كلمة "بيبليوسكوب" (الكلمة اليوناية التي تضمنها عنوان الكتاب) وأقرب ترجمة لها كلمة "فرجة" بمفهومها الاصطلاحي الدارج. وحسب منطق الباحثة وشرحها، فالجيل الذي يتعامل مع الكتب في الوقت الراهن، ويعود إليها بين الحين والآخر، يفعل ذلك لا من أجل قراءتها وإنما ليتفرج عليها ويمني نفسه باليوم الذي سيلبي فيه نداء القراءة ويغرف من مكنونات الكتب... ولكن ذلك اليوم لا يأتي أبدا.

وكما تلاحظ الباحثة، فإنَّ السمة الرئيسة للقارئ الحديث ترتكز على أنه لا يحتاج إلى الجديد بقدر ما يهمه التعرف على الأشياء الغريبة والمختلفة والمنفلتة من التقاليد والمعايير القارة. كما تخضع متطلباته ورغباته للموجات السريعة والمتغيرة وللنزوات الومضية البراقة، أو ما يسمى بالموضة والصرعة. تقول في هذا الصدد: "إن مجتمع الموجات المتغيرة، على العكس من مجتمعات التقاليد المتجذرة، لا تقبل بإستراتيجية التحفظ، وإنما ديدنها هو التحول اللانهائي للأشياء، ولا نهائية التحولات. إنه عصر ما بعد الجمال. ليس بمعنى سيطرة الشكل على المضمون وإنما، وبالأساس، الاعتراف بأن الثانوي يمتلك قيمة اعتبارية أكبر من الأصيل. نرى أن العبارات المقتبسة من الكتب تمتلك قوة تأثيرية كبيرة حين نقرؤها على الجدران والأسوار، وأكبر من قراءتها في الكتب التي اقتبست منها. نجد أن كتابا بشكل دراجة يثير إعجاب المتسوقين أكثر من الكتاب التقليدي" (ص:80). 

وترسم لنا يوليا شيربينينا صورة متكاملة عن ثقافة الكتاب في الماضي، مقارنة إياها بصورتها في يومنا الحاضر. تخبرنا عن القطع التكميلية للكتاب مثل الأدوات المستخدمة لتناول الكتب من الرفوف، والعجلة التي يستعان بها لحمل الكتب، والكراسي المخصصة للقراءة، وغيرها من الأجهزة وقطع الأثاث المساعدة.

وتحدِّد شيربينينا ماهية الكتاب وطرق تسويقه في وقتنا الراهن. فأفكار المهندسين والمصممين والرسامين منصبة على مظهر الكتاب وكيفية تغييره باستمرار. كل الإمكانيات الإبداعية موجهة إلى الجانب البراني للكتاب ولا صلة لها بجوانبه الجوانية وبالإسنادات الأخرى التي تتيح للقارئ وقتا مريحا مع كتابه.

والحال هكذا، وبعد أن انقضى زمن على الكتاب وبدأ زمن آخر: زمن يقدم المظهر قبل الجوهر ويُعلي الشكل على المتن، تكون الحاجة ملحة لتثبيت مكانة الكتاب الحقيقي وتدعيم وضعه وقيمته الثقافية. تقول المؤلفة: "اليوم، في ظل حركة النشر النشطة، وتحت وقع المنافسة الضارية في سوق الكتب، وأمام عملية تسليع الكتاب، لا تدخر دور النشر جهدا أو حيلة لاستمالة عين المستهلك إلى أغلفة الكتب، واستدراج يده للمسها، وأحيانا إثارة أنفه لشمها. إن الإصدار الذي يُعرض اليوم شبيه بعروس مزوقة: ألوانها براقة وتطريزها جذاب. وفي حين كان الناشر سابقا مهتما بوضع صيغة توفيقية بين شكل الكتاب ومضونه، نراه اليوم يعمل على الإدهاش لاستمالة المستهلك. فما الذي لم يُصنع بعد في هذا النمط من التسويق؟ وهل من عجب -في هذا السياق- لو جيء لنا بكتاب نستدل إلى موضوعه وقيمته المعرفية عن طريق رائحة تصدر عنه؟" (ص:36). 

تسوق المؤلفة أمثلة لما يمكن أن نسميه جنون الكتاب، مبينة في أمثلتها طبيعة المنافسة في سوق الكتاب والإجراءآت التي توصلت إليها دور النشر لترويج بضاعتها. ففي روسيا صدر كتاب للأطفال وصل وزنه إلى 492 كيلوجراما وحجمه من 3 إلى 6 أمتار. وفي كرواتيا اخترعت إحدى دور النشر كتابا في الطبخ لا يفصح عن وصفاته قبل أن يتم تحميره في الفرن. أو الكتاب الأرجنتيني الذي حمل عنوان "الكتاب الذي لا يمكنه أن ينتظر" فما إن تفتح صفحة من صفحاته حتى يبدأ العد التنازلي للانتهاء من قراءة الصفحة، وإن لم يدركك الوقت، فإن القراءة ستفوتك، لأن الحروف ستختفي من أمام ناظريك.

 يعرض الكتاب التغيرات التي طرأت على حياتنا الثقافية خلال العقود القليلة الماضية، على صعد مختلفة وليس فقط فيما يتعلق بثقافة الكتب والقراءة. من أبرز تلك التغيرات ما يمكن تسميته بربط الميادين الثقافية أو خلطها ببعض. نجد -على سبيل المثال- أن مكتبات اليوم تتخذ لنفسها وظائف لم تكن لها في السابق. هناك أمسيات الموسيقى والغناء التي تقيمها في أروقتها بين رفوف الكتب، مترجية من ذلك جذب اهتمام الجمهور إلى الكتب التي تروج لبيعها. ثمة أيضا المقاهي التي تعرض الأفلام، والمطاعم التي تفتح دروسا لتعليم اللغات، وحفلات الزواج في حدائق الحيوانات. كل هذه التغيرات وغيرها إنما هي مظاهر لثقافة جديدة تتسم بالحركية وعدم الثبات. وإن كان لهذا الجانب ميزته في الترويج للثقافة عموما وإشاعتها في المجتمع بطرق مستحدثة، إلا أن المحرك المادي الذي تتبناه والقاعدة الربحية التي تقف عليها يجعلها رهينة لتقلبات السوق ولمزاجية رجال الأعمال.

وفي الفصل الذي كرسته للمجازات الأدبية، وباعتبارها عالمة لغوية، نجحت المؤلفة في وضع مقاربة ظريفة لتركيبات لغوية في اللغة الروسية، تجمع بين مفاهيم الكتب والطعام. من بين ذلك قولنا بالروسية: كتاب لذيذ أو نص حار. رواية غير مهضومة. طريقة تحضير القصة. لقد شعرت بمذاق غريب بعد قراءتي القصة. وجبات سريعة في معرض الكتاب...وغيرها من التراكيب. ثمة تشابه آخر بين الإبداع والولادة فنقول: الفكرة حبلى بالمعاني. مخاض الإبداع. كتاب مثل طفل محبوب. ثمة كذلك مقاربات لغوية بين الكتاب والدواء وبين القراءة والعلاج. 

لم يفت الكاتبة التطرُّق إلى تأثير الإنترنت على ثقافة القراءة، أكان التأثير سلبا أو إيجابا. فمسألة تقييم الكتب ونقدها في شبكة الانترنت متاحة للجميع، للعالم وللجاهل، ومقياس النجاح مرهون لنقاط الإعجاب المتحصلة. ولكن، وبالمقابل، فشراء الكتب في الشبكة العنكبوتية أو الحصول المجاني عليها يتم بسرعة قياسية، كما أن الأبواب مشرعة للإصدارات الذاتية وتصميم الأغلفة.

وتقدم الباحثة تقييمها العلمي والأخلاقي للظواهر الثقافية المطروحة، وتناقش الفوائد المرجوة منها والأضرار المترتبة عليها. فالقراءة ليست نفسها مثلما كانت منذ مئة عام وتجاذباتها مختلفة. الغلاف اليوم يلعب دورا في سوق الكتب، والوفرة المجانية للمعلومات تقودنا إلى أقصر الطرق للحصول على ما نريده من كتب، ولكنها -في الوقت نفسه- قد تدفعنا إلى متاهات لا لزوم لها ولسنا بحاجة إليها. في هذا السياق تطرح المؤلفة أسئلتها الخاصة عن النتائج التي ستخلص إليها الأجيال القادمة في ظل التشكلات الثقافية الراهنة. 

 سعت الباحثة الروسية يوليا شيربينينا في كتابها الجديد "زمن بيبليوسكوب.. الحداثة في مرآة ثقافة الكتاب"، وبنهج علمي تحليلي عميق، إلى فهم الحقائق الثقافية في عالم الكتاب، متأملة موضوعها من زوايا مختلفة وعبر حقب تاريخية متعددة. كما أنها، وإن كانت غير متفائلة كثيرا بالحالة الصحية للمظاهر الثقافية الجديدة، إلا أنها وبتتبعها التاريخي للظواهر، واستبياناتها مختلفة الجوانب، ترسم لنا الداء وبجانبه تضع وصفة العلاج.

إنَّ مظاهر من قبيل مكتبة المقاهي، والعلاج بالقراءة، والكاتب الصغير، والعناوين التجارية المستفزة، والصرعات الطباعية، كل هذا كان موجودا في السابق، بيد أنه كان استثناء وخروجا عن القاعدة. ما يحدث اليوم شبيه بانقلاب على القواعد القديمة للقراءة، حيث الاستثناء أصبح قاعدة والغريب غدا منهجا.

ومن أجل وصف تقريبي لراهن الحالة الثقافية المتعلقة بالكتاب، تأتي الباحثة باستشهاد من السينما العالمية، وتذكرنا بفيلم الرعب "ذي شينينج" للمخرج الأمريكي الشهير ستانلي كوبريك. في الفيلم يرتحل البطل، وهو كاتب روائي، إلى منطقة نائية ويسكن فندقا يهجره النزلاء في فصل الشتاء. في ذلك المكان المعزول والمهجور يشرع البطل بكتابة روايته الجديدة، أو هكذا يبدو أنه يفعل. بيد أن الحقيقة المرعبة هو أنه، طيلة الفيلم، وبعد الصراعات المريرة التي مر بها، لم يكن يفعل شيئا سوى تكرار عبارة واحدة: "أنا أكتب رواية.. أنا أكتب رواية.. أنا أكتب رواية". لقد سيطرت عليه قوى الظلام الخفية وحولت فعله إلى مجرد مضيعة للوقت وإفساد للورق.

لا شكَّ أنَّ الكاتبة عالجت واحدا من أهم المواضيع الثقافية الراهنة؛ موضوع القراءة؛ باعتبارها سبيلا إلى اكتساب المعرفة، وموضوع الكتاب، الحامل المادي لهذه المعرفة، والذي ما برح يتعرض لشتى أنواع التحريف والتشيؤ، وذلك تماشيا مع غلواء الناشرين وجماح السوق. مع ذلك، وبعد كل شيء، فالوقت ما زال مبكرا لرصد المصير الحتمي الذي يحمله لنا الكتاب بشكله الجديد، وتقييم أي الكفتين سترجح: كفة الشكل الفضائية المسطحة أم كفة المتن الأرضية المعمقة!

----------------------

الكتاب: "زمن بيبيليوسكوب.. الحداثة في مرآة الكتاب".

- المؤلف: يوليا شيربينينا.

- الناشر: دار "فورورم" للنشر، موسكو 2016، باللغة الروسية.

- عدد الصفحات: 416 صفحة.

 

 

* أكاديمية ومستعربة روسية

أخبار ذات صلة