«دمشق في القرون الوسطى: التعدد والتنوع في مكتبة عربية»

الغلاف.jpg

لكونراد هيرشلير

محمود حدَّاد *

يقول النقاد إنَّه يُمكننا استخلاص الكثير عن الناس من معرفة ما يقرأون، كما يُمكن للمؤرخين استخدام طريقة مماثلة للتحقيق في طبيعة المجتمعات المتعلمة القديمة. ومن الأمثلة البارزة العالم الإسلامي في العصور الوسطى. كان المجتمع الحضري الإسلامي بين القرنين الثاني عشر والخامس عشر الأكثر تعلماً في عصره: كانت معدلات معرفة القراءة والكتابة لديهم أعلى بكثير مما كانت عليه في أوروبا في العصور الوسطى، وقد عبَّر المسلمون عن تقديرهم للكتب في مواقع عديدة؛ مثل: بيت الشعر للمتنبي الذي يقول "خير جليس في الزمان كتاب". ومن أجل فهم حقيقي للمسلمين في العصور الوسطى، نريد أن نعرف عن الكتب التي كانوا يقرؤونها، وفي ذلك يقدم كتاب "دمشق في القرون الوسطى" للكاتب كونراد هيرشلر نظرة فريدة من نوعها.

والكتاب عبارة عن دراسة ممتعة وإن كانت ذات مصدر واسع، أو ما يسمى بدراسة تعتمد على مصدر واحد أو ما يسمى "تاريخاً جزئياً" واضحا: بطله مكتبة دمشقية من القرون الوسطى تسمى "مكتبة الأشرفية"، يستكشفها كونراد هيرشلر من خلال فهرس مقتنياتها، كما كُتبت من قبل القائم على المكتبة مجهول الهوية، ربما في أواخر القرن الثالث عشر. كان ذلك العصر عصر صلاح الدين الأيوبي وفتوحات الصليبيين والمغول، لذلك قد تبدو كتابة دراسة من 500 صفحة عن مكتبة واحدة (لم تعد موجودة الآن، إضافة إلى كونها مكتبة متواضعة) غريبة بعض الشيء. ولكن الأهمية الفائقة للكتب بالنسبة للدمشقيين في القرون للوسطى، إضافة إلى الفكر الثاقب لهيرشلير ساعد في جلاء الغموض عن الموضوع حين يستنبط مراجع قيمة من التفاصيل حول المجتمع الإسلامي في القرون الوسطى.

يحتوي فهرس مكتبة الأشرفية الذي كتب في 670هـ/1270م. على حوالي 2200 كتاباً مقدماً من حاكم دمشق المملوكي الملك الأشرف، الذي ترك المكتبة كإرث بعد موته في 1237 من أجل الاستخدام العام واقتراض الكتب في ناحية علمية من نواحي دمشق ما بين القلعة والجامع الأموي. والفهرس مميز جداً بسبب بقائه حتى اليو؛، إذ من بين المئات من المكتبات القديمة في دمشق والقاهرة وبغداد وأماكن أخرى لم يبق سوى فهرسين اثنين للكتب. ويعتبر فهرس كتب "مكتبة الأشرفية" الأقدم والوحيد المتوفر للفترة ما قبل الفترة العثمانية، ويتوفر الفهرس الثاني في مكتبة جامع القيروان في تونس، والذي يشمل 125 كتابا فقط ومؤرخاً في 693هـ/1293-1294م.

ومن خلال الترجمة الدقيقة للجدول والمؤشرات الهندسية والأدلة النصية من التاريخ المعاصر، وبمساعدة أربعة رسوم توضيحية غامضة لمكتبات من القرون الوسطى في مخطوطات عربية مزخرفة أخرى، يأخذنا كتاب هيرشلير خطوة إلى الوراء من حدود الصليبيين والمغول إلى الهدوء في باحة مكتبة الأشرفية؛ حيث الكتب المنظمة على رفوفها بطريقة مبتكرة. تكشف الجهود التي بذلها هيرشلير في هذا الكتاب نطاق المجموعة التي تحتويها المكتبة والتنوع الكبير في الأنواع الأدبية والعلمية الموجودة فيها والنظام الذي استخدمه القائم على المكتبة في تنظيم العناوين المتعددة لتسهيل إيجادها.

إنَّ مجموع النتائج التي توصل إليها هيرشلير تفتح الباب على مجموعة واسعة من الأسئلة. ماذا كانت وظيفة العقيدة والتعليم والمدرسة؟ ماذا كان يعني أن تكون حاكماً وإماماً ومفكراً أو مجرد قارئ في دمشق في زمن كانت فيه مركزاً ثقافياً بارزاً؟ وماذا كانت تعني بالنسبة لهؤلاء الدمشقيين المعرفة و"الكلاسيكيات" والأسس الفكرية لحضارتهم الإسلامية في القرون الوسطى؟ تتجنب مقاربة هيرشلير التاريخية الدقيقة الوصول إلى استنتاجات واسعة لصالح التركيز على المكتبة قيد الدراسة. كما أن هذا الكتاب ليس مقدمة عامة للحضارة الإسلامية في عصر الصليبيين. بل إن هدفه اختبار التعميمات التقليدية والتشكيك بالروايات المنقولة، مستكشفاً آفاقاً جديدة بإعطاء الأهمية لجدول المكتبة الذي يشكل وثيقة خالية من القصص السردي ومن التحيز ومن أجندة التاريخ التقليدي.

ويُقدِّم العرض الشامل للشعر ما قبل الإسلام في المكتبة وجهات نظر أخرى لفهم تقدير الشعر: فهل كانت الأشعار مجمعة لأسباب فيولوجية متعلقة بفقه اللغة؟ وهل كانت متعلقة بالتعليم الديني؟ وهل كان المسلمون الحضر يقدرون تقاليد ما قبل الإسلام بشكل أوسع مما كان يُعتقد؟ تضيف مقتنيات المكتبة من الكتب الدينية إلى جانب العناوين المختلفة الأخرى دفعاً متجدداً لتعديل النماذج القديمة التي تقول بأن الفقهاء الدينيين "التقليديين" كانوا بعيدين جدًّا عن الأدباء الآخرين. وتظهر البيانات أيضاً إنتاجاً موضعياً جدًّا للمعرفة محفزة أسئلة جديدة حول العمل الفعلي للمجتمع الثقافي العربي العام.

ويُنصح هؤلاء الذين يسعون للتعرف على الثقافة الأدبية الإسلامية في القرون الوسطى للبدء بكتاب هيرشلير السابق "الكلمة المكتوبة في الأراضي العربية في القرون الوسطى" (2011م). وسيصرف علماء الأدب العربي وقتاً طويلاً في تحليل كتاب "دمشق في العصور الوسطى". أما من وجهة نظر أوسع، فإن هذ الكتاب سيسمح لنا أخيراً بمعرفة أنواع الناس الذين كانوا يعتبرون دمشق مدينتهم لأن مكتباتها كانت موزعة توزيعاً جغرافياً متباعداً. 

 

جدول (1)

نسبة الكتب المحفوظة في المكتبة الأشرفية بحسب مواضيعها

التسلسل الكتاب عدد النسخ النسبة

1 العلوم النقلية خاصة القرآن والحديث 115 11.5%

2 العلوم النقلية خاصة الحديث والخطب الدينية 78 7.5 %

3 العلوم النقلية خاصة الفقه 39 4 %

4 العلوم اللغوية خاصة قواعد اللغة 67 6.5 %

5 العلوم اللغوية خاصة التاريخ 37 43.5 %

6 الشعر خاصة الجاهلي والأدب الإسلامي المبكر 112 11 %

7 الأدب 46 4.5 %

8 الأدب 97 9.5 %

9 العلوم العقلية خاصة الفلك وتفسير الأحلام 47 4.5 %

10 العلوم العقلية خاصة الطب والصيدلة 78 7.5 %

11 الشعر خاصة العباسي المتأخر وما تلاه 18 2 %

12 الشعر خاصة (العباسي المتأخر وما تلاه) والصلاة 83 8 %

13 الشعر خاصة المقتطفات 87 8.5 %

14 الأدب (في فهرس المبنى الملحق بالمكتبة) 03 0.3 %

15 الأدب، الشعر وشرح الشعر 112 11 %

 

 

جدول (2)

أكثر الكتب قراءة بحسب عدد نسخها

التسلسل المؤلف الموضوع التاريخ عدد النسخ

1 الشعر سلامة بن جندل شعر جاهلي ؟ 15

2 مقامات الحريري أدب 516/1122 15

3 ديوان أبو نواس شعر 200/815 12

4 الموج بن الزيمان شعر ؟ 12

5 فقه اللغة للثعالبي علم المعاجم 422/1038 12

6 تقاويم الصحة لابن بطلان الطب 458/1066 11

7 ديوان ابن حيوس شعر 473/1081 10

8 الحماسة لأبو تمام شعر 231/845 10

9 ديوان ابن هاني شعر 362/973 10

10 ديوان مهيار شعر 428/1037 9

11 ديوان البحتري شعر 284/897 9

12 سقط الزند للمعرِّي شعر 449/1058 8

13 صحيح مسلم حديث 261/875 8

14 منهاج البيان لابن جزلة علم الصيدلة 493/1100 8

15 ديوان المتنبي شعر 354/955 8

16 مجمل ابن فارس علم المعاجم 395/1004 7

17 شعر المتلمس شعر جاهلي ؟ 7

18 تتمة اليتيمة للثعالبي شعر/أدب 429/1038 6

19 نهج البلاغة للشريف الرضي أقوال علي بن أبي طالب 406/1016 6

20 غزال للشريف الرضي شعر 406/1016 6

21 ديوان كُشاجم شعر 350/961 6

22 الصادح والباغم ابن هبارية شعر/أدب 509/1115 6

23 ديوان ساردار شعر 465/1074 6

 

جدول (3 )

أكثر المؤلفين شعبية وقراءة

المؤلف التاريخ عدد الكتب الموجودة بالمكتبة

الثعالبي 429/1038 46

الجاحظ 255/868-9 31

الغزالي 505/1111 30

ابن دريد 321/933 24

ابن الجوزي 597/1200 23

أبو العلاء المعرّي 449/1058 20

الرازي 313/925 18

الشريف الرضي 406/1016 13

أبو الفتح ابن جني 392/1002 13

الأصمعي 213/828 12

ابن سينا 428/1037 11

أبو تمام 231/845 11

أبو حيان التوحيدي 414/1023 11

الكاتب التبريزي 502/1109 10

الحاتمي 388/998 10

المتنبي 354/955 10

أبو الفرج الأصفهاني 356/967 9

عبد الله ابن المعتز 296/908 9

إبراهيم بن هلال الصابي 384/994 9

ابن قتيبة 321/933 9

 

وبحسب التاريخ الهجري، فإن القرن الرابع للهجرة (العاشر الميلادي تقريباً) كان أكثر القرون إنتاجاً، يليه القرن الخامس ثم الثالث ثم السادس أي أنّ القرون التي تمتد من القرن الثالث حتّى القرن السادس الهجري (من التاسع حتى الثاني عشر ميلادي) كانت أكثر الفترات إنتاجاً مكتوباً في العالم الإسلامي.

وبالمقارنة مع بعض المكتبات الإنجليزية في العصر الوسيط خاصة القرنين الحادي عشر والثاني عشر ميلادي، فإننا نجد أن مكتبة الأشرفية كانت تتفوق في نسبة الكتب العلمية والتاريخية والأدبية مع أن نسبة كتب العلوم الدينية كانت مرتفعة في الحالتين، إلّا أنها مثلت نسبة أعلى في المكتبات الإنكليزية في تلك الفترة. وهذا يعني أن مكتبة الأشرفية كانت تحوي نسبة أعلى من الكتب الأدبية والعلمية في ذلك العصر.

 

جدول (4 )

نسبة الكتب المحفوظة بمكتبة بيتربورا وسط إنجلترا في العصر الوسيط

اللاهوت 73

قواعد اللغة والمنطق 4.3

الفلسفة 2.6

القانون (المدني والكنسي) 4.5

الكلاسيكيات 5.5

العلوم والطب 6.8

التاريخ 3.3

ولا شكّ أنَّ إحدى السمات الرئيسة لمكتبة الأشرفية كونها مكتبة تعليمية تختلف عن المكتبات الخاصة التي كانت موجودة في المنازل (والتي كانت وظيفتها تنحصر في اهتمامات صاحبها)؛ لهذا يمكن وصفها بأنها كانت مكتبة عامة. لذلك يجب النظر إليها من ضمن الصورة الأوسع لثقافة دمشق. وهذا يعني أنه من الضروري عدم تقييمها كجزء من اهتمامات طبقة علماء الدين حصراً، بل كمكتبة تعكس اهتمامات القرّاء الواسعة في مدينة كدمشق. ومن الطبيعي أن مستخدمي المكتبة كانوا من "العلماء" إلّا أنّ النقطة المهمة أنها وُجدت في مرحلة كانت فيها الكلمة المكتوبة تشهد توسعاً سريعاً حيث أن مجموعات إضافية من السكان كانوا يستخدمونها أيضاً. لذلك من الخطأ النظر إلى مكتبة الأشرفية باعتبارها مكتبة مؤسسة تعليمية محدودة القراء لأن نسبة القراءة والكتابة كانت عالية نسبياً في العالم الإسلامي الحضري وخاصة في مدينة كدمشق.

----------------------

الكتاب: "دمشق في القرون الوسطى: التعدد والتنوع في مكتبة عربية".

- المؤلف: كونراد هيرشلير.

- الناشر: جامعة أدنبرة، 2016، باللغة الإنجليزية.

 

* كاتب لبناني 

أخبار ذات صلة