جيورجيو أغامبن
محمد الشيخ
"النسيان"، "التهميش": ذانك هما الوصفان اللذان يترددان تحت أقلام من يسعى اليوم من مفكري وفلاسفة السياسة والحق والحرب إلى أن يفكر في ظاهرة "الحرب الأهلية". وقد جرى الوصف الأول بقلم إحدى أهم الباحثات الفرنسيات في الحروب الأهلية ـ نينون غرانجي ـ حتى أنها كتبت في شأنه كتابا عنونته بالعنوان المتسائل: "نسيان الحرب الأهلية؟" (2015)، أما الوصف الثاني، فقد ورد على لسان الفيلسوف الإيطالي المعاصر جيورجيو أغامبن ( 1942- ) ـ الذي لا يكاد يوجد له كتاب مترجم إلى العربية اللهم باستثناء كتاب واحد هو "حالة الاستثناء" (2015) ـ وذلك في كتابه "الحرب الأهلية" الصادر بالإيطالية (2015) والمترجم إلى الفرنسية (2015).
والكتاب في الأصل عبارة عن محاضرتين كانتا قد ألقيتا بجامعة برينستون. وهما تتضمنان أطروحتين أساسيتين: تقول الأولى بأن ماهية الحرب الأهلية تكمن في كونها "عتبة" تسييس الغرب، وهي الحرب التي تنقله من دائرة "الأسرة" الضيقة ـ دائرة اللا سياسة ـ إلى دائرة المدينة بمعناها الإغريقي [الدولة] ـ دارة السياسة. وتقول الأطروحة الثانية: غياب الشعب هو العنصر المكون للدولة الحديثة. وإذ يقر الفيلسوف الإيطالي بأنه ما يفتأ يقتنع على مر السنين بهاتين الأطروحتين الأساسيتين اللتين وردتا في هذا الكتاب، فإنه يتساءل ـ وهو يشرك القارئ في هذا التساؤل ـ عما إذا ما كان أمسى ما يسمى "الحرب الأهلية العالمية" ـ التي صارت اليوم مقترنة بظاهرة الإرهاب العالمية ـ قد غيرت من جوهر هاتين الأطروحتين أم لا.
المحاضرة الأولى: الحرب الأهلية في التصور الكلاسيكي الإغريقي
يفتتح أغامبن محاضرته الأولى هذه بالتأكيد، لا فحسب على أن الفكر والفلسفة السياسيين لازالا اليوم يفتقدان إلى نظرية في الحرب الأهلية، وإنما ما يشغله في هذا الأمر هو عدم التنبه إلى هذا الغياب، إذ هو من جنس الغياب غير المبالى به أو المأبوه له. وقد سبق للمنظر السياسي والحقوقي الألماني رومان شنور أن شخَّص هذا الوضع منذ عام 1980، مسجلا ترافق غياب الاهتمام بالتفكير في الحرب الأهلية بتطور "الحرب الأهلية العالمية". وإذ يزكي أغامبن ملاحظة شنور، فإنه يؤكد على أن أنموذج "التوافق" الذي يسيطر اليوم على الممارسة والنظرية السياسيين لا يشجع على دراسة جديدة لظاهرة قديمة على الأقل قدم الديمقراطية الغربية: ظاهرة الحرب الأهلية (ص. 9).
وإذ يقر أغامبن أنه توجد ثمة في ساحة الفلسفة السياسية والحقوقية وفي علميهما نظرية في النزاع Polémologie ـ أو نظرية في الحرب ـ كما توجد نظرية في السلم Irénologie ، فإنه يؤكد، مع ذلك، على أنه ليست توجد بالقطع نظرية في الحرب الأهلية Stasiologie (ص. 10). ويعود ليزكي رأي شنور في الربط بين هذا الغياب وتنامي ما يدعوه "الحرب الأهلية العالمية". ويرجع بنا إلى أصل هذا الاصطلاح الأخير الذي يجده لدى الفيلسوفة حنة آرندت (1906-1975) في كتابها "في الثورة" (1963) والذي نحثثه لتدل به على "ضرب من الحرب الأهلية التي تشعل الأرض برمتها"، كما استعمله في السنة ذاتها المفكر السياسي كارل شميت (1888-1985) ليصف به عمل من يسميه "المتحزب" ذي النزوع الإرهابي. ومهما كان التاريخ الذي يعود إليه هذا الاصطلاح، فإنه يشي بنهاية المعنى التقليدي للحرب، حتى حرب الخليج جرت من غير ما أن يعلن المتنازعون حالة الحرب، وبخلق حالة من الفوضى عارمة دعت بعض المفكرين السياسيين إلى تسميها "الحروب اللا أهلية". على أن التفكر في حروب زماننا هذا ما انتهى بالمنظرين السياسيين إلى التفكر في الحرب الأهلية، وإنما أدى بهم فحسب إلى بناء مذهب في تدبير النزاعات الداخلية وتسييرها وتوجيهها.
ويرى الفيلسوف أن من أسباب عدم العناية بالتفكير في الحروب الأهلية تلك الشعبية التي تنامت لمفهوم "الثورة"، حد أنه بدا أكثر جدارة بالاحترام من مفهوم "الحرب الأهلية"، بما ساهم في تهميش هذا المفهوم.
وينبهنا المؤلف ـ بداية ـ إلى أنه لا يطمح في هذا الكتاب إلى بناء نظرية عامة في الحرب الأهلية، وبالبدل يعلن أنه سوف يكتفي ـ بالأوْلى ـ بفحص كيف تحضر الحرب الأهلية في الفكر السياسي الغربي، وذلك في لحظتين من تاريخه: في شهادات الفلاسفة والمؤرخين الإغريق القدامى، من جهة، وفي الفكر السياسي الحديث من خلال الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز (1588-1679)، من جهة أخرى. ويخبرنا بأن هذين النموذجين لم يؤخذا عفو الخاطر، وإنما يمثلان، في عرف المؤلف، وجهي عملة واحدة للأنموذج السياسي عينه الذي يتجلى، من ناحية، في التأكيد على أنه لا مفر من الحروب الأهلية، وفي الدعوة، من ناحية أخرى، إلى ضرورة استبعادها. ولئن هو كان لهذا الأنموذج ذي الوجهين أن يكون أنموذجا واحدا في الواقع لا مثنوية فيه، فلأن هذا يعني أن الحتميتان ـ ضرورة الحرب الأهلية وضرورة العمل على تفاديها معا ـ ترتبطان في ما بينهما البين برباط يسميه المؤلف "تضامنا سريا خفيا"، وهو "تضامن سري" يدعونا الفيلسوف إلى المبادرة بضرورة فهمه.
ويخصص الباحث هذه المحاضرة الأولى إلى تحليل مسألة الحرب الأهلية ـ أو باللفظ الإغريقي القديم Stasis ـ في تصور فلاسفة (أفلاطون، أرسطو) ومؤرخي (ثوقيديدس ...) ومسرحيي (يوربيدس...) اليونان القدامى. ونهجه في هذا التحليل قائم على قولا "نعم" و"لا" لتحاليل إحدى أشهر الباحثات في الحرب عند الإغريق ـ الباحثة الفرنسية نيكول لورو (1943-2003). والذي جعله يعود إلى هذه الباحثة ويستأنف العمل من حيث ما انتهت إليه أنها هي الباحثة التي طرحت السؤال الأساس حول "قيمومة" الحروب الأهلية: أين تقوم؟ والذي عندها جوابا عن هذا السؤال أنها تقوم في الأسرة أو في الأهل. فالحرب الأهلية صراع دموي تخاض رحاه في إطار قرابة الدم: شؤون القرابة شؤون الحرابة، وإنما القرابة مكمن الحرابة. لكن القرابة داء ودواء ـ ترياق ـ هي منبع الحرب الأهلية باستثارتها، وهي علاج للحرب الأهلية بإخمادها، وذلك بواسطة من تبادل النساء: القرابة بالزواج. إذ يتصالح الأهل بالتزاوج بين المتعاديين. ومن ثمة تستنج لورو أن الصراع ينشأ من الداخل وليس يستورد من الخارج، ومن هنا ضرورة التفكير في الحرب الأهلية من داخل الأسرة. فإذا ما نحن وضعنا الأهل بوصفهم القرابة، فإنه ينتج عن ذلك أن الحرب الأهلية هي العلامة الدالة على ذلك وشرارته. ذلك أنه عندما نجعل من "المدينة" "بيتا" لنا، سرعان ما تلوح الحرب الأهلية في الأفق، وسرعان ما ينظم حفل للتصالح. هنا تقف نيكول لورو ليستأنف جيورجيو أغامبن التحليل: من اللافت للنظر تركيز الباحثة في تحاليلها على "البيت" Oikos ـ أو "الأهل" ـ وعلى القرابة الدموية Phylon، وبقاء مفهوم "الحرب الأهلية" Stasis عندها مخفيا في الظل مركونا (ص. 18). ولذلك يدعو الفيلسوف إلى كشف أمر الحرب الأهلية ببيان ما يتضمنه تحليل المؤرخة من "بذور تطوير ممكنة". وهو "يطور" نظرية نيكول لورو ببيان أوجه اشتكالها: حسب تلك الأطروحة، تقوم الحرب الأهلية أصلا في "الأهل". الأهل أصل دمار المدينة. لكن في الوقت نفسه الأهل هم من يعيد توحيد فُرقة المدينة. كيف نفسر هذا التناقض؟ كيف يكون سبب اندلاع الحرب في الوقت نفسه داعي علاجها وتصالحها؟ لهذا يرى الفيلسوف أن أطروحة لورو تحتاج إلى مراجعة من خلال إعادة طرح السؤال: أين "تقوم" الحرب الأهلية؟ وهنا يعود أغامبن إلى النصوص عينها التي قرأتها لورو لكي "يعيد" قراءتها، فيزحزح [وهو يستلهم مفهوم "الزحزحة" هذا من الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا] مكان قيمومة الحرب الأهلية من "الأهل" إلى "البين" ـ إلى ما بين بين ـ أي إلى "العتبة" الفاصلة بين "البيت" و"المدينة"، بين قرابة الدم وبين المواطنة؛ بمعنى إلى تخوم هذين الموطنين. ذلك أن من شأن السياسة أن تدخل إلى البيت ـ موطن اللا سياسة بامتياز ـ فيعد الأخ أخاه غريبا، وسرعان ما يقتتلا (ص. 22). وبهذا يمكننا الجواب عن السؤال: أين "تقوم" الحرب الأهلية؟ ذلك أنه لا تقوم الحرب الأهلية لا في "البيت" ولا في "المدينة"، لا في "الأهل" ـ الأسرة ـ ولا في "الدولة ـ المدينة"، وإنما تشكل منطقة عازلة بين فضاء الأسرة غير السياسي وفضاء المدينة السياسي. وبتخطي هذه "العتبة" يتسيس الأهل (الأخ يقتل أخاه)، وبالعكس تخرج المدينة من السياسة (يؤاخي المواطن المواطن) لتصير أخوية أهلية. فالحرب الأهلية بهذا إنما هي "عتبة" بين "التَسَيُّس" و"عدم التَسَيُّس". وتعد المشاركة السياسية فيصل التفرقة بين "السياسة" ـ المدينة ـ و"الطبيعة" ـ الأسرة. وقد كان لاحظ المفكر والفيلسوف السياسي الألماني كرستيان مايير أنه حدث في القرن الخامس قبل الميلاد تحول دستوري مهم في اليونان: تَسَيُّس مفهوم المواطنة، بحيث أمست المواطنة ـ وليس المنزلة الاجتماعية لا ولا الحقوق والواجبات ـ هي المعيار السياسي للهوية الاجتماعية. وهو ما شكل إرثا مشتركا لكل تاريخ الغرب السياسي. هذا مع العلم أن التَّسَيُّس يجب أن يقع ـ حسب منظور أغامبن ـ في حقل التوتر بين "البيت" و"المدينة"، وقد تحدد بتقاطب ثنائي: التسيس/عدم التسيس (ص. 26). وفي هذا الحقل من التوترات، تشكل الحرب الأهلية "عتبة" من خلالها يتسيس الانتماء إلى الأهل (البيت) فيتخذ شكل مواطنة، وبالعكس لا تتسيس المواطنة، فتتخذ شكل تضامن أسري دموي.
والحال أن هذه الرابطة الجوهرية بين الحرب الأهلية والسياسة هي ما تشهد لصالحها مؤسسة العفو العام عن المتقاتلين. وعلى خلاف المحدثين، يراد في العفو العام نسيان الحرب الأهلية وعدم استخدام الذاكرة إيجابا في استعادتها من حيث هي ذكرى ممضة، وليس، كما يميل إلى ذلك المحدثون، حفظ ذكراها ومطاردة مرتكبي الجرائم في الحروب الأهلية. وفي هذا اختلف أهل القدامة وأهل الحداثة في تصور "الحرب الأهلية".
على أن ما يدعو إلى التأمل هو أن هذا "المحل" الذي وجد فيه التوتر لوقت معين كان دائما محل توازن هش. فخلال التاريخ الغربي اللاحق، تم النزوع إلى نزع السياسة عن المدينة بتحويل المدينة إلى بيت أو أسرة ـ مصالح اقتصادية ـ على نحو ما فعله "البيت الأوربي" الذي أصبح أشبه شيء يكون بأسرة لا بمجموعة دول سياسية؛ مما أدى إلى تغير شكل "الحرب الأهلية" إلى "حرب أهلية عالمية"؛ أي إلى إرهاب يقوم على سياسة "منح الموت"؛ أي على ما سماه الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو (1926-1984) "البيوبولتيكا" ـ سياسة التحكم في حيوات ووفيات الساكنة. فعندما تستحيل "المدينة" "بيتا" اقتصاديا ـ العولمة الاقتصادية ـ تصير الحرب الأهلية هي أنموذج كل نزاع أو تدخل وقد اكتسى صورة ترعيب وترهيب. إنما الإرهاب ـ توزيع التقتيل ـ هو "الحرب الأهلية العالمية" الذي يجتاح في كل مرة هذه المنطقة من العالم أو تلك (ص. 31).
المحاضرة الثانية: الحرب الأهلية في الفكر السياسي الحديث (هوبز نموذجا)
اختلفت منهجية قراءة جيورجيو أغامبن لفكرة "الحرب الأهلية" في العصر الحديث عن قراءته لنفس الفكرة في العصر القديم، وذلك بحيث أن محاضرته الثانية أشبه شيء تكون بتعليق طويل النفس على "لوحة" غلاف الطبعة الأولى من كتاب توماس هوبز (1588-1679) "اللفياتان" ـ التنين (1651) والتي يستكنه المؤلف كنهها كأنه ضابط شرطة يحقق في أمارات جريمة. والذي يجده عند هوبز أنه في البدء تكون "الجموع" أو "الحشود"، تلك الجموع التي سرعان ما تلغي نفسها ـ وقد ملت حياة حالة الطبيعة الخطرة التي تجري تحت طائل الخوف من الموت الأحمر [العنيف] ـ في صورة "شعب" أجمع على تعيين ملك أو هيئة سياسية لضمان "السلم" و"الأمان". وهنا يحل "الشعب" ـ وقد انعقد لفترة ـ نفسه ويعود إلى "جمع منحل"، بينما الملك/ أو الهيئة هي "الشعب"، ولا شعب "خارجها". وإذا ما أرادت هذه الجموع المتحللة أن تعين ملكا آخر أو هيئة بديلة، فاعلم أن ذاك مؤذن بالحرب الأهلية. والجموع والحشود في عرف هوبز "غير سياسية". ولا تستحيل "سياسية" ـ شعبا بالمعنى السياسي الحقيقي ـ إلا لحظة تعيين الحاكم. وهي تلغي نفسها لتؤسس المدينة [= السياسة]. وإنما الشعب ما أن يُعَيِّنَ مَلِكا [= وقد أمسى هو الشعب] حتى يلغي نفسه بنفسه وينحل إلى "جموع" متحللة متفسخة. والجموع [غير السياسية] داخل المدينة [السياسية] أشبه ما تكون بالحيوانات المطعونة [من الطاعون] تحتاج إلى أن تُعالَج وإلى أن تُساس. وما كان الطاعون إلا استعارة للانقسام والفرقة والتحلل. فإذن، من شأن دولة هوبز ـ التي هي رمز الدولة الحديثة ـ أنها دولة تعيش "بلا شعب"؛ أي تعيش تحت طائل ما يسميه جيورجيو أغامبن "الأديميا" Adémie؛ بمعنى "غياب الشعب". وما "ذات" أو "رعية" أو "حاضنة" الحرب الأهلية سوى هذه الحشود المنحلة والجموع المتحللة. وإذا هي لم تكن الجموع المتحللة التي تعيش داخل المدينة "شعبا"، وإذا ما كانت هي "ذات" الحرب الأهلية و"حاضنتها"، فإن معنى هذا أن الحرب الأهلية تظل دوما أمرا واردا (ص. 57). وهذا هو ما ينتهي إليه هوبز بلا مواربة في الفصل التاسع والعشرين من كتاب "التنين" الذي يتناول فيه أمر "ما يضعف الدولة أو يجنح بها نحو التحلل".
لا تقوم الحرب الأهلية إذن ما دام رمز الجموع المتحللةـ الثور التوارثي الأسطوري الضخم الذي صَوَّرَه الإله للنبي أيوب ـ ورمز السلطان ـ التنين الضخم الذي صَوَّرَه الإله لأيوب وذكر صراعه مع الثور الجامح ـ يتعايشان تعايش الحشود المنحلة مع صاحب السيادة. لكن حين تثور الحشود، فإننا نعود آنها بالدولة إلى "حال الطبيعة" ونرجع بالحشود المنحلة إلى الحشود غير المتحدة التي كانت في البدء تعيش على هذه الحال. وهذا يعني أنه ليس من شأن الحرب الأهلية والدولة وحال الطبيعة أن تتلاقى، لكن من شأنها أن تجتمع في علاقة معقدة. ذلك أن حال الطبيعة، كما يظهرها هوبز في كتابه "المواطن" (1642)، هي ما يظهر من جديد عندما تتحلل المدينة؛ أي عندما تعيش حربا أهلية؛ بمعنى آخر: حال الطبيعة هي إسقاط أسطوري لحالة الحرب الأهلية على الماضي، والحرب الأهلية هي إسقاط لحالة الطبيعة على المدينة، فهي ما يظهر عندما نعتبر المدينة من وجهة نظر حالة الطبيعة (ص. 58). إنما حال الطبيعة حرب أهلية في الماضي، وإنما الحرب الأهلية حال طبيعة في الحاضر.
أخيرا، لا شك عندي أن جيروجيو أغامبن فيلسوف متوسطي المزاج [نسبة إلى البحر الأبيض المتوسط]، بحيث أن حديثة لا يكاد يُمَلُّ، وكيف يُمَلُّ وهو حديث لا هو فيه برودة حديث فلاسفة الألمان في السياسة، ولا هو فيه تفاصيل وتفانين حديث المنظرين الأنجلوسكسون؟ والواقع أنه كلما قرأ المرء الفلاسفة الإيطاليين إلا ويشعر بحرارة الحوار الذي يجرونه من خلف ما يكتبون مع القارئ، فيُخيَّلُ إليه أن المفكر الإيطالي ـ على شاكلة أمبرتو إيكو وجياني فاتيمو ـ لا يكتفي بأن يكتب له، بل يشعر بأنه يخرج من كتابه لكي يحضنه، وهو ما قد لا يفعله لا الألماني ولا الأنجلوسكوني ـ سادة النظرية والفلسفة السياسيتين في زماننا هذا.
ولا مهرب عندي من أن أقر بأن المرء إذ يقرأ ما يقرؤه مما يكتبه مفكرو الغرب عن "الحروب الأهلية"، فإن عينه تبقى شاخصة إلى ما يحدث في العالم العربي والإسلامي من "حروب أهلية"، وعما إذا كان بمكنة مثل هذه التحليلات والمفاهيم أن تسعفه في فهم ما يجري في هذا العالم. وقد يدفعه هذا إلى التساؤل عمّا إذا كانت دول عربية شأن سوريا واليمن والعراق والصومال وجنوب السودان ليست تعيش بالفعل ما سماه هوبز "حال الطبيعة"؟
--------------------------------------------------------
عنوان الكتاب: الحرب الأهلية
المؤلف: جيورجيو أغامبن
سنة صدور الكتاب: 2015
دار النشر: Editions Points
لغة الكتاب: الفرنسية
عدد الصفحات: 80
