هند الحضرمية
الديمقراطية..! شغل هذا المصطلح منذ أن ظهر إلى اليوم كل المجتمعات؛ إذ سعت جميع الدول إلى ترسيخ المبادئ التي يتضمنها في نسقها الاجتماعي بمختلف قطاعاته، فما من دولة اليوم إلا وتدّعي أنها تستند على سياسة ديموقراطية عادلة. ويعود بنا السؤال يطرح نفسه مجددا "ما الديمقراطية؟" وما واقعها في الدول "الحديثة"؟ هذا ما حاول شفيق محسن عرضه في مقاله المعنون بـ "المواطنية والحريات العامة في الدول الحديثة".
قبل كل شيء لابد أن نقف على مفهوم الديمقراطية التي - وكما أشار محسن – اكتسبت معاني مختلفة نوعا ما بحسب العصور؛ لتتحول في نهاية المطاف وفقا لاتجاهات الفكر السياسي المعاصر إلى غاية سياسية، فهي كما عرفها ابراهام لنكولن "حكم الشعب من قبل الشعب ومن أجل الشعب ويمكن اعتبارها التجسيد العملي للحرية بشكل عام ولجانبها السياسي بشكل خاص، هدفها الارتقاء دائما وأبدا باتجاه هدفها الأرقى ألا وهو الإنسان، وهي بذلك تشكل غاية ووسيلة معا." ففي المجتمع الديموقراطي تخضع مراكز المسؤولية في الدولة لمراقبة الشعب، ويخضع فيها المسؤولون الكبار في السلطة – التشريعية والتنفيذية – للاقتراع العام.
وقد أشار محسن إلى أن اقتصاد السوق الحرة ملازم للنظام الديمقراطي إذ "يتشكل اقتصاد السوق بالتدريج من خلال المنافسة الحرة وبالاعتماد على احترام الملكية الخاصة للمواطنين ويبين التاريخ الأوربي أنّه إذا لم تكن حقوق الملكية الخاصة للمواطنين محترمة ولم تكن هناك رقابة على السلطة المطلقة للملوك فإن اقتصاد السوق لا يمكن أن يتأسس لذلك فإنّ الحقوق الديمقراطيّة هي شرط مسبق لاقتصاد سوق حقيقي".
ثمّ استعرض شفيق محسن عنصرًا مهمًا من عناصر الدولة الحديثة والذي هو أيضًا في المقابل عنصر أساسي من عناصر الديمقراطية ألا وهو "التعددية" تعددية الأفراد والجماعات والقوى الاقتصادية والاجتماعية ومن اتحاد الطوائف ذات الطابع السياسي مع بقية الطوائف (الدينية والاقتصادية والاجتماعية) نتجت لنا الدولة الحديثة وهذا التعدد في البناء الاجتماعي للمجتمعات أدى إلى ظهور المجتمع المدني ليكون معينا للدولة للوصول لمختلف الشرائح الاجتماعية داخلها ويأتي دور الديمقراطية في تنظيم العمل بين مؤسسات المجتمع المدني والدولة.
وقد أشار محسن في مقاله إلى أركان الديموقراطية في الدولة الحديثة موضحا أنّها ترتكز على أربعة أفكار متمثلة في: (الأساس الشعبي للحكم: ووفقا لهذا يكون الحاكم ممثلا طبيعيا لشعبه تخدم سلطته الصالح العام وضد أي مصالح فردية، العقد الاجتماعي: الذي هو مثلما أوضح روسو أساس بناء الدولة وهو عقد يتحد بموجبه الكل مع الكل، وينبثق عن هذه الإرادة الجماعية السلطان أو السيادة العامة، رفعة القانون: وجود القانون مطلب مهم لتنظيم الحياة السياسية ويعود سنه إلى الشعب بأكمله أو إلى الشخص العام الذي يتحمل تبعة الشعب، التمثيل: وهو كما أوضح شفيق محسن الإخراج السياسي للتعددية حيث تتحول الدولة إلى ساحة لتمثيل المجتمع المدني ولا شرعية للحكام إلا الشرعية التمثيلية التي تنجم عن الانتخاب).
ولأنّ واقع التعددية الديمقراطية في الدول الحديثة يقتضي تحويل المعتقدات والانتماءات إلى هويات هذا يقودنا إلى تساؤل عن واقع "الانتماءات الدينية" أو لنقل المجال الديني بشكل عام في الدولة الحديثة على اعتبار أنّ اختزال المؤسسة الدينية إلى مجرد واحدة من القوى الاجتماعية أمر مستحيل، وهنا يأتي دور الديمقراطية في رفع شأن الديانات وإلى تمييزها عن باقي السلطات الأخلاقية والروحية.
وقد تحدث ميشيل كيلو حول هذا موضحا أن "العلاقة بين الدين والدولة تعتبر واحدة من أكثر علاقات المجال السياسي تعقيداً ذلك ّأن الدين والدولة ينتميان إلى حقلين مختلفين، لكنهما متداخلان بقوة حتى ليصعب تصور أي فصل بينهما يقوم على احتجاز متبادل تقف الدولة فيه على جانب بينما يكون الدين في جانب آخر، بحيث ينتفي منه تأثير أحدهما على الآخر ويقدر كل منهما أن يوجد بمعزل عن سواه... ومع أن الدولة الحديثة تكوين غير ديني، يعمل بوسائل لا يستمدها من المجال الديني ويسعى إلى تحقيق أهداف دنيوية لا تتصل بحقل الأخلاق بل بحقل المصالح، فإن من المحال فصل الحياة العامة، حياة التفاعل والتعاقد بين مواطني الدولة، عن الدين، الذي يقدم معايير وضوابط أخلاقية كثيراً ما تلعب دورا مهما في استمرار وتوطد الدولة كتكوين زمني "دنيوي" مصالحي، خاصة في أزمنة الحروب والأزمات".
وقد تبع شفيق حديثه عن العامل الديني في الدولة الحديثة بالحياد الديمقراطي لها، وهذا الحياد الديمقراطي يكون ما بين "العلمنة المطلقة ومنظومات القيم المؤسسة على الدين" الأمر الذي ينتج عنه انصهار الدين في الديمقراطية، موضحا أن هذا الأمر سيدفع بعدد كبير من المتدينين الذين يطمحون إلى أن يكونوا مواطنين صالحين مع بقائهم مؤمنين مخلصين إلى الالتحاق بالركب الديمقراطي.
وإذا كان العامل الديني من الأهمية بمكان فلابد في المقابل ونحن نتحدث عن الدولة الحديثة أن نذكر القطاع الاقتصادي، الذي يعد هو الآخر نسقا مهما داخل النسق الكلي. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى وكما تطرق لها شفيق وهي "التقارب الكبير بين الشأن السياسي والاقتصادي" ولأن الاقتصاد الوطني كما عرفه فرناند بروديل ما هو إلا "مساحة سياسية حولتها الدولة بسبب ضرورات وإبداعات الحياة المادية إلى مساحة اقتصادية متجانسة موحّدة، حيث تستطيع النشاطات أن تمضي سوية إلى الاتجاه نفسه".
وقد بين شفيق في هذا الشأن أن اقتصاد السوق والرأسمالية نميا بالتوازي جنبا إلى جنب بل إن مصطلح " اقتصاد السوق" حل اليوم محل مصطلح "الرأسمالية" ، ورغم أنّ المجتمعات الرأسمالية لم تلغِ الطبقات الاجتماعية، بل إنّها أبرزت وجود الأغنياء الذين يملكون الرأسمال مقابل الفقراء الذين لا يملكون، والسلطة التي يمتلكها الأغنياء مقابل تبعية الفقراء، ولكن وبفعل تأثير الديمقراطية بدأت الأنظمة الرأسمالية تتغير لتتوافق مع قيم الديمقراطية، فأصبحت الرأسمالية كما ذكر شفيق أقل ظلما وأكثر تحررا وأكثر احتراما للكرامة الإنسانية.
فإذا كانت الديمقراطية قد لعبت دور العنصر المؤثر فيما سبق فإنّها وبفعل الموجة الليبرالية - التي اجتاحت العالم بأفكارها والقيم التي تضمنتها- تغيرت بشكل كبير "فقد ابتعدت عن كونها المعبر عن الإرادة الموحدة لمجموع المواطنين إلى الاهتمام بحقوق الفرد وبدأ الاهتمام يتزايد بحماية الأقليات أكثر من الاهتمام بوسائل حكم الأغلبية".
وبعد كل ما سبق تبادرت في ذهني أسئلة كثيرة حول واقع مجتمعاتنا العربية ومدى إمكانية وصولها إلى ما وصلت إليه "الدول الحديثة" إذ ما يزال مفهوم الحريات ضبابيا غير واضح المعالم، والواقع المتأزم في معظم الدول العربية يشي بأننا سنحتاج إلى فترة زمنية – قد تطول – إلى أن نفعّل المفهوم الصحيح للديمقراطية.
