عاطفة المسكريَّة
على مدى قرون طويلة شهد العالم العديد من الإنجازات في شتى المجالات، والتي دائماً ما يتردد ذكرها في تاريخ البشرية لكونها ساهمت في تقدمه. ومعظم الاكتشافات التي أضيفت لمختلف العلوم ساعدت على فهم أفضل للكون والبشرية جمعاء. حيث تنقسم هذه العلوم سواء العربية منها أم الغربية لتصنف حسب المواضيع التي تسلط الضوء عليها وتناقشها ليسهل فهمها وتدارسها لاحقاً. في هذا السياق من الجدير ذكر علم الاجتماع كأحد هذه العلوم التي شكلت فارقاً في مجال العلوم الإنسانية والتي أسهم فيها عالم يعد من أبرز العلماء الذين يعود إليهم الفضل في فهم العديد من القضايا التي تتعلق بالبشرية والحياة الاجتماعية، العالم عبد الرحمن بن خلدون؛ حيث تتعرض مختلف هذه العلوم على اختلاف أزمنتها لمحاولات التمحيص والنقد الذي يهدف لاستنباط ما يتوافق مع التطورات الفكرية والحضارية من شتى الأصعدة.
وتُستخدم أغراض كالمقارنة بين ما هو سالف وما هو مستحدث لتحقيق الأهداف المنشودة، ويتضح ذلك كمثال في ما تناوله الدكتور فالح عبدالجبار الرفاعي في مقالته حول "سيسيولوجيا البداوة والمجتمع العراقي بين علي الوردي وابن خلدون" حيث تتم المقارنة بين ما ورد في السيسيولوجيا الحديثة من آراء من قبل علماء الاجتماع الذين تأثروا بمنهج ابن خلدون أمثال علي الوردي وبين المنهج أو المنطق الذي كان يسير عليه ابن خلدون تفصيلاً.
ناقش ابن خلدون العديد من النظريات، ولكن مما ركز عليه الكاتب في مقالته بعض التغييرات التي أوضحها عالم الاجتماع العراقي علي الوردي فيما يتعلَّق بدورة الصراع الخلدوني على الرغم من تبنيه نفس نقطة الانطلاق حول هذا الصراع. قبل كل شيء تتلخص هذه الدورة المغلقة في مراحل بدءًا بالعصبية التي تتملك روح البداوة وتكون في أوج قوتها أولاً حيث يتضح ذلك من خلال قوة التلاحم والتماسك فيما بينهم، انتقالا إلى مرحلة انفراد زعيم العصبية بالحكم بعد وصوله للملك. بالمقابل تضعف المقاومة في المدينة لضعف عوامل التكوين المبنية على العنف فينجح زعيم العصبية باستئثار الحكم في المدينة مولداً نوعاً من فقدان خصائص البداوة وشيئًا من القوة كذلك ومن هنا تبدأ الصراعات في الداخل. ولاحقاً بعد تحقيق شيء من الاستقرار والانغماس في حياة الترف والرفاهية تسود المظاهر على حساب القوة والتماسك والتلاحم فتهرم الدولة وتنهار وتتكرر نفس الدورة على يد فاعل آخر. حيث يقر ابن خلدون في دورته هذه على وجود تلك العلاقة العكسية بين البدو والحضر وهذا التضاد يجعل من البداوة عنصراً فاعلاً باستيلائه على المدينة وانتقال العصبية إلى الملك ومن ثم إلى الثراء والترف الذي يؤدي إلى ضياع العصبية وبالتالي ضياع المُلك. نستخلص من هذه الدورة الخلدونية عدم توافق شروط الحضارة بشروط التلاحم القبلي والعصبية وفقاً للدورة الخلدونية. بينما نجد شيئًا مماثلا عند عالم الاجتماع العراقي الدكتور علي الوردي في انتقائه لنقطة البداية فقط في دراساته مع اختلافات لاحقة مُدعمة بأدلة تاريخية سيرد ذكرها لاحقاً. حيث يُركز في حديثه عن المجتمع العراقي تحديداً و تأكيده وجود الصراع بين البداوة والحضارة. إلا أنّه يصر لاحقًا على أن هناك هيمنة أحادية تتشكل في سيادة روح البداوة حتى مع الانتقال إلى المدينة. وتظهر على هيئة أفعال تعود جذورها لروح البداوة التي لم ولن يتجرد منها الأفراد حتى مع تغير عوامل البيئة المُحيطة بهم. أبرز هذه الأفعال المتأصلة من روح البداوة غسل العار مثلاً! ومن الملاحظ أنّه لا يزال يظهر على استحياء بين الفينة والأخرى حتى في أكثر المجتمعات العربية تقدمًا. وعلى الرغم من ذلك، ينفي علي الوردي امتداد هذه الأفكار لقرون طويلة بينما يتضح عكس ذلك ولو كان بشكل بسيط حتى يومنا هذا. كذلك ركز على ربط النزاع الطائفي بين السنة والشيعة بالمد البدوي الذي حدث في العهد العثماني والذي أدى لتوالي الفتوحات الإسلامية. وذلك يتناسب طرديًا مع ضعف القوة المركزية على فترات قصيرة بسبب فقدان عوامل الاستقرار وحالة الحرب الدائمة التي كانوا يخوضونها بشكل متوالٍ. فكانت النتيجة البحث أو خلق تكتلات قبلية، عرقية، طائفية..إلخ لتوفير عوامل الاستقرار والحماية الجماعية التي تتطلبها التركيبة الذاتية للبشر. هنا تأكيد لطريقة معالجة علي الوردي لهذه القضية على أن المشكلة لا تكمن في وجود اختلاف بين التلاحم البدوي والحضري مثلما ورد في الدائرة الخلدونية، إنما تعد العصبية القبلية فطرة تلاحق الجماعات حيثما وجدوا فيشرح التلاحم الحضري (الطائفي) تحديدا كنتيجة لوجود مخاطر خارجية، إلا أنه من الملاحظ أن الأحداث الحالية تشير إلى غير ذلك من وجود أهداف سياسية واقتصادية لهذا النوع من الانسجام حتى أنّه لم توجد مخاطر تحيط بهم.
... إنَّ النظريات في العلوم الإنسانية تؤصلها المجتمعات والأحداث التاريخية عبر الزمان، ويُقاس عليها مدى صحة وواقعية ما تم التوصل إليه من قبل العلماء في مختلف المجالات الاجتماعية. ومما تمَّ التطرق إليه في هذا السياق نموذج فيه خرق جزئي للقاعدة الخلدونية المغلقة المتمثلة في مراحل أساسية تطرقنا إليها في السابق من انتقال البداوة إلى الحضارة عن طريق الاستيلاء على الملك انتهاء بانهيار الدولة. أبْرَز هذه النماذج ما ورد ذكره في مقالة الدكتور عن كون الدولة العثمانية أول من خرق هذه القواعد؛ حيث لم تتحقق كل المراحل بشكل يُطابق أو يؤكد فاعلية النظرية الخلدونية بشكل مُطلق ينعكس على كل الأحداث التاريخية قابلة القياس. تحققت المراحل الأولى من الاستيلاء على الملك وتحققت المراحل التي تلتها في الدورة الخلدونية، إلا أنَّ الفارق كان امتداداً لهذه المراحل لفترات أطول من النماذج المعتادة لتصل إلى أربعة أضعاف ما كان يجب أن تكون عليه وفقاً لنظرية عبد الرحمن بن خلدون. إضافة لكونها لم تسقط في يد فاعل آخر "عصبية أخرى" عوضًا عن ذلك انتهت في يد قوى أوروبية. وأيضًا ذكر عالم الاجتماع علي الوردي ذلك أثناء تطبيق هذه المراحل على المجتمع العراقي وتحديدًا في بغداد حيث حدث الصراع بين البدو والحضر إلا أنهم لم يتمكنوا من تحقيق النجاح حتى في أولى المراحل عبر التأثير على السلطة المركزية منذ سنين لأسباب الاستبداد المترسخ بشيء من العمق فيها. خاصة إذا ما جئنا نتدارس الشخصية العراقية نجد ذلك مثبتاً من خلال بعض التحاليل للشخصية العراقية التي وردت في كتب لأمثال الدكتور علي الوردي على الرغم من صعوبة التحليل الفعلي لأيّ شخصية والتوصل إلى النسق الحياتي والنمط السائد فيها لكونها ليست مادة قابلة لذلك بشكل واقعي.
النظرة الجزئية تأثيرها قسري بشكل كبير في مختلف الاكتشافات المضافة لشتى العلوم لكونها متأصلة يصعب فصلها عن الطبيعة البشرية. حيث لا يوجد ما يضمن دقة القراءة من قبل الباحثين إلا أنّ نسبة الموضوعية قابلة للزيادة من وجهة نظر الدكتور علي الوردي في المجتمعات المفتوحة. والمنطق يؤكد ذلك ولأنّه كلما ابتعد الإنسان عن المؤثرات المحيطة به استطاع النظر بموضوعية أكبر ومن عدة زوايا. على كل، فالاختلاف يعد عنصرًا صحيًا خاصة في مجال العلوم الإنسانية غير الثابتة، ويتجلى ذلك بوضوح بين العلماء حتى وإن كانت هناك نقاط مشتركة بينهم. حيث اهتم ابن خلدون بعوامل الالتحام البدوي التي تذوب في الحواضر بينما يرى دوركايم مؤسس علم الاجتماع الحديث أنّ عوامل الالتحام الحديثة أقوى من التقليدية، منطلقين من نقاط مشتركة ألا وهي توفير الحماية الجماعية للأفراد والذي نراه يتمثل في الجماعات حتى يومنا هذا تحت أصعب الظروف واللحظات لاسيما خوض الحروب في مختلف الدول العربية.
