الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين تشريف الدين وتجويف السياسة

أم كلثوم الفارسي

يكشف لنا الدكتور علي مبروك في مقاله "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين القرآن والأنظمة الكلامية" عن فريضة من أساسيات الدين الإسلامي بل هي الفريضة التي على أساسها جعلت أمة الإسلام خير أمة أخرجت للناس حيث وصفها الإمام الغزالي بأنّها (القطب الأعظم في الدين، وهي المهمة التي ابتعث الله لها النبيين أجمعين، ولو طوي بساطها وأهمل علمها وعملها، لتعطلت النبوة واضمحلت الديانة، وعمت الفتنة، وفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد، واتسع الخرق، وخربت البلاد، وهلك العباد)، كما يقول ابن تيمية: "وكل بشر على وجه الأرض لا بد له من أمر ونهي، ولا بد أن يأمر وينهى، حتى لو أنه وحده لكان يأمر نفسه وينهاها إما بمعروف أو بمنكر"، ويقول ابن العربي: "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصل في الدين، وعمد من عمدة المسلمين وخلافة رب العالمين، والمقصود الأكبر من بعث النبيين، وهو فرض على جميع الناس مثنى وفرادى بشرط القدرة عليه".

فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مبدأ عقلاني أخلاقي، قبل أن يكون دينيًا، تمارسه كل المجتمعات الإنسانية وفق منظوماتها القيمية، التي تمثل معيارًا لها في تعريف معنى المعروف والمنكر، حتى تلك المجتمعات التي توصف بالمنفتحة والليبرالية، هي أيضًا -عبر قوانينها وأنظمتها وخطابها الثقافي- تأمر بما تعتقد أنّه في إطار الحق والخير، وتنهى عما تعتقد أنه مناقض لذلك، بغض النظر عن الأسس الفلسفية التي ينطلقون منها في تحديد تلك المعاني، أكانت نظرية اللذة الأبيقورية، أم نظرية السعادة الرواقية، أم نظرية الواجب الكانطية، يبقى أنّهم يمارسون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحسب معروفهم ومنكرهم!

 لذلك سأتجاوز مسألة التأكيد على "فريضة" الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الشريعة الإسلاميّة، فالنصوص القرآنية والأحاديث النبوية صريحة ومستفيضة في تأكيد أهمية هذه الشعيرة وفضلها ودورها في إصلاح المجتمعات فقد تحدث القرآن عن أهل الكتاب، وذكر أنّ منهم من كان يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر، ومنهم من تقاعس عنه وتركه حيث قال تعالى في سورة المائدة (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (78) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (79)).

كما سأتجاوز مسألة التأكيد على أهمية هذا المبدأ، وسأفترض أنه مسلّمة، أخلاقية عقلانية ولكن الإشكالية تقع في تفريغ هذا المبدأ من أي حمولة سياسية، وإكسابه دلالة أخلاقية تتمكن معها السلطات من استخدامه في تطويع الأفراد وترويضهم، وبذلك يعطل دور هذه الفريضة التي يمكننا من خلالها العبور إلى المواطنة المعاصرة بمعنى أحقية الجميع في المشاركة في تحقيق الخير العام أو إصلاح المجتمع وتغييره فحين خاطب أبوبكر مبايعيه: "إن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوِّموني"، فإنه كان يكشف عن تصوره للسلطة (الحاكمة) كشأنٍ أرضي لابد أن يخضع لرقابة المجتمع (المحكوم) ومحاسبته؛ وهو التصور الذى يمكن القول، مع التجاوز، إنه قد ساد على مدى حقبة الخلافة الراشدة. ولعل انفجار ما عُرِفَ- بعد ذلك- بالفتنة ليكشف عن "مجتمع" يرى لنفسه حقاً في مراقبة ومحاسبة "سلطة" شاءت أن تنتزع منه هذا الحق ولكن الشاهد في الأمر أن السلطة التي سيطرت على هذا المبدأ بعد أحداث الفتنة في عهد سيدنا عثمان رضي الله عنه إلى يومنا هذا قد عمدت – كجزء من امتلاكها له وتوظيفه لصالحها- إلى جعل مبدأ الأمر المعروف والنهي عن المنكر مقتصرا على المسائل الأخلاقية وإلغاء دوره في الإصلاح السياسي معتبرين ذلك الأساس في تطبيق هذا المبدأ. والضحية في نهاية المطاف هو مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقيمته الأخلاقية ودوره الحضاري في المجتمعات من جهة، وحريات الناس وخياراتهم الشخصية المشروعة في مجالهم العام من جهة أخرى، والتي أصبحت كذلك ورقة للمساومات السياسية! ومن حسن الحظ أن التداول القرآني لهذا المبدأ يتكشف عن انطوائه على تلك الحمولة السياسية التي يمكن عبر استعادتها أن ينفتح الباب أمام المجتمع لاسترجاع دوره في الفضاء السياسي الذي طال تاريخ استبعاده وطرده منه.

وحين نتحدث عن مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنّنا نعني بذلك الإقبال على الإسهام الإيجابي للوصول إلى شراكةٍ مؤثرةٍ تُخْرج المسلمين من الاستضعاف وضآلة الفعالية في عالم الأفكار، كما في عالم السياسات. حيث يُحدّد القرآنُ الكريم مهمةَ المؤمنين تُجاه أنفسِهم وتُجاه العالم بأنها: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وأساسُها الإيمانُ بالله: (تأمرون بالمعروف وتنهَون عن المنكر وتؤمنون بالله). والمعروفُ أخلاقٌ وممارساتٌ، وكذلك المنكر المنهيُّ عنه أخلاقياًّ وأعمالا لا يقتصر على مراقبة سلوكيات الناس وتقويمها وإنما يتعدى ذلك إلى الرقابة والمحاسبة حتى للأمراء والملوك. وهذا معنى الفكرة الكبرى التي تحملُها الأُمَمُ في المراحل الحاسمة من التاريخ، فتتحدد من خلالها مواقعُها الحاضرةُ والمستقبلية. والواقعُ أنّ تعطيل هذا الدور للمسلم ، يؤدي إلى الوقوع في شِبَاكِ المنكَر دينياًّ وبشَرياًّ.

واستنادا على كل ذلك فإنه يمكن لمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون واحدا من روافع الأزمة العربية الراهنة وأعني من حيث أنه يصلح مدخلا للإنسان من جهة لكي يستعيد "إرادته وقدرته" ودوره –بالتالي- كفاعل مؤثر في العالم ومن جهة أخرى، فإنه يمهد للمجتمع طريق استرداد حقه المسلوب في الرقابة والحساب. ومن نافلة القول إنّ هذين المطلبين هما الأكثر إلحاحا في هذه الفترة العربية الحرجة. فنحن بحاجة إلى فهم واسع غير مؤطر لهذه الفريضة المغيبة؛ ليكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حياة، وإحياء، وإعمارًا للأرض والإنسان، ويصبح الإصلاح مدنية، ونشاطًا إنسانيًا سامي الغاية والوسيلة.

 

 

أخبار ذات صلة