أبو حيان التوحيدي بين المنهجيَّة والرؤية العلميَّة في الأخلاق

أمجد سعيد

في مقال بحثي للأكاديمي السوري محمد الجبر، والمعنون بـ"الفكر الأخلاقي عند أبي حيان التوحيدي"، نجد أنَّ غيابَ الدراسة الأكاديمية المتخصصة في الأخلاق، لم يُثن عزم أبي حيان عن التقدم في المنهجية التأملية والربط العلمي التحليلي؛ ففي صُلب الموضوعية يبدأ التوحيدي بخلق علاقات ما بين الفلسفة والدين والعمل ليستنتج ماهية علاقة الأخلاق بكل هذه الممارسات الروتينية التي يتحلَّى بها الفرد، وما هي عوامل نسبية هذه الممارسات -بناءً على ارتباطها الوثيق بالأخلاق- في الفرد الواحد.

فالتهميش الذي قابل الفلسفة الأخلاقية في الفكر الفلسفي الإسلامي كان هو الزناد الذي أطلق رصاصة التوحيدي في البدء في هذا الجانب الشائك من صنوف الفلسفة الإسلامية المختلفة؛ فالتوحيدي يُقر بصعوبة هذا المدخل لما يترتب عليه من فهم مسبق للذات البشرية ولهيئة الفرد السلوكية والبيئية في آن، وما يدلنا على أن التوحيدي جاد كل الجد في مسعاه هو رغبته في كتابة كتابه الذي لم يكتب بعد -توفي قبل البدء فيه- رسالة في الأخلاق"، ولسوء الحال فإنه كان من الممكن أن يكون بين يدينا مصدر مهم في الفلسفة الأخلاقية والأخلاق بشكل عام.

يكون هذا المصدر هو الجامع لكل الآراء والأفكار الأخلاقية؛ منها: الاستهلالية، والمكملة للفكر الأخلاقي. ومنابت الصعوبة في تفنيد الأخلاق وتصنيفها تكمُن في أنَّ الأخلاق تشكل لحمة واحدة برفقة الدين والعلم والعمل والفلسفة، هذه المحاور الأساسية التي كان لابد على التوحيدي أن يخوض فيها لكي يصل إلى مبتغاه لأنها متداخلة جد في بعضها البعض.

وفي كلِّ مُؤلفات التوحيدي -من بينها: "مثالب الوزيرين"- يشير إلى الصاحب بن عباد وابن العميد، ويستخدمهما قالبيْن بطريقة غير مباشرة ليستعرض مفاهيمه وآراءه الأخلاقية من خلال نقد الشخصيتين وتحليلهما تحليلا فنياً، وبما أنَّ الذكر آت على مثالب الوزيرين، فلابد لنا من ذكر المبادئ الأخلاقية التي بثها واستعرضها التوحيدي في كتابه:

- أولا: إمكانية نقد الآخر من زاوبة أخلاقية.

- ثانيا: أنَّ الثلب -معنى الثلب في اللغة هو النقد واللوم- دينيا وأخلاقيا لابد من تشريعه حتى يصب في المصلحة العامة لعوام الناس وخاصتهم.

أمَّا في جانب العقل والعقلانية؛ فالتوحيدي يُكِيل التقدير الجزيل والمكانة المهمة والرفيعة للعقل وأهميته للأخلاق؛ فهو الركيزة الأساسية التي يبني عليه المرء أخلاقه، ويستدل على ذلك بأنَّ من سقط عنه العقل سقط عنه التكليف المنوط به، والتكليف مجرد غطاء لأفكار أخلاقية ودينية عملية، والمواقف الأخلاقية خير دليل على ذلك؛ فالتوحيدي لديه اهتمام جزيل بالمواقف الأخلاقية. ويرجع الموقف الأخلاقي إلى عوامل عديدة؛ منها: طبع الإنسان وخلقه، وفي الجانب الآخر هنالك عوامل وظروف أخرى تُسهم في تشكل المواقف الأخلاقية؛ منها: عوامل اقتصادية وسياسية واجتماعية، كالفقر الذي لا يؤثر على خلق الرجل بل على دينه أيضا وموضوعيته واستقامته أثناء ممارسته ليومياته.

أمَّا من جانب التأثر المنهجي، فنرى أنَّ التوحيدي فيه من بعض الأفلاطونيات في التقسيم ما بين الأخلاق وقوى النفس، فيرجع التوحيدي إلى أنَّ الإنسان له ثلاث قوى نفسية؛ هي: النفس الناطقة، والنفس الغاضبة، والنفس الشهوانية. والمماثلة الأفلاطونية تكمن في أن أفلاطون قد ردَّد في كتابه "الجمهورية" أنَّ الأفعال ترجع إلى ثلاثة عناصر؛ هي: الإدراك، والغضب، والشهوة. ويجب على الإنسان أن يعي أنَّ هنالك جزءاً غير ناطق في النفس وجزءًا ناطقا آخر، وأنَّ الصراع الحقيقي بين قوى النفس هو كامن بين الغضب والشهوة؛ مما يُفضِي إلى أن القوتين تحتاجان لتأطير أخلاقي قبل التعامل الخارجي معهما.

والمفهوم الخاص لدى التوحيدي في أنَّ الخُلق والخلق شيئان لا يمكن الفصل بينهما؛ فهنالك علاقة تكاملية بين خلقة الإنسان وأخلاقه، ويفند الناس أخلاقيا حسب أمزجتهم وأحوالهم؛ فعلى حسب المزاج أو البيئة التي ينشأ فيها الإنسان تكون أخلاقه مرتطبة بتلك البيئة، ولكن تدارك هذا المسار الزلق أتى سريعا من التوحيدي فصححه، وبين أنه يجب على المرء أن يبتعد عن المذموم ويقرب المحمود وذلك حسب أهوائه. ولا شك أنَّ التوحيدي سلَّم بأنَّ الإنسان جامع لكل أنواع الأخلاق حميدها وذميمها، وهذه المحامد والمذام متفاوتة نسبيا في الإنسان عامة، ولكن الذي يثير اهتمام التوحيدي هو أي الصفات التي سوف تغلب في الإنسان وما هي تلك العوامل المؤثرة في هذه الغلبة؟

أبو حيان التوحيدي سَلَك المسلك الشائك في علم الأخلاق؛ فقد غابت عنه الأكاديمية، ولكنه سلك المنهج، واتخذ العلم طريقا في هذا المسعى، ولو أنَّ الجميع ممن عايشوه في حقبته أقروا بقرآنيته، ولو أن لديه بعض المسالك الأفلاطونية وهو شأن جميع علماء المسلمين، إلا أنَّ ذلك لا يقلل من مسعى التوحيدي في هذا الشأن العظيم الذي سوف يمهد الطريق لمن بعده ليقفوا على أكتافه مكملين فقط ما بدأه الفيلسوف الكبير.

أخبار ذات صلة