أحمد المكتومي
إنَّ الظروفَ التي مرَّت بها الأمة الإسلامية منذ أن رَحَل عنها النبي -صلى الله عليه وسلم- جرتها إلى قاع الهلاك؛ حيث انتشرتْ الفتنُ والأفكارُ التي تُبِعد البشرية عن ماهية الإسلام الحقيقة التي تهدف للتلاحم والمودة، بل كانتْ هناك تيَّارات مُتشددة تسعى لتمزيق الأمة وإدراجها في قائمة الإرهاب والتعصب والجهل. مُحمَّد حلمي عبدالوهاب بحث في إشكالية الخروج على الحاكم وارتباط الخروج بالفتنة في مقاله الأنيق بمجلة التسامح "الفتنة وسياقاتها المعرفية لدى تيارات التشدد". الجميل في مقاله أنه ربط الأحداث والتجارب السابقة بالأوضاع القائمة في الساحة المعاصرة؛ باحثا بذلك عن الأسباب التي دفعتْ الفقهاء وأصحاب الرأي إلى تحريم الخروج على الحاكم حتى لو كان جائرا، واعتبار ذلك من الإجماع.
في بداية الأمر، دَعُونا نبحث عن إجابة لبعض التساؤلات؛ مثل: من الذي نهى عن الخروج على الحاكم؟ هل هم الحكام أم الفقهاء؟ هل استغل الدين والقرآن في مصالح تخدم الحكام وتم تخدير العامة بالنصوص التي وردت في القرآن والسنة؟ أم أن من نهى عن الخروج كان يهدف إلى ردء الفتنة من الوجود، واعتبر أنَّ الفتنة هي خروج على الحاكم؛ مُستندا في ذلك إلى مفهوم الفتنة تاريخيا؟ هل أصبح السياسي فقيها وعالم دين يستطيع أن يُحرِّم ويُحل الخروج على الحاكم، أم أنَّ الفقية تضامن مع الحاكم كي يحمي عرشه من السقوط حتى وإن كان جائرا.
- ما هي الفتنة؟!
يقول الله تعالى في سورة الأنفال: "وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ"، وقوله تعالى في سورة القمر: "إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ".. لقد وردت لفظ الفتنة في الآيتين السابقتين لتعني الاختبار والابتلاء الإلهي، وقد جاء هذا المعنى في أكثر من أربيعين موضعا. إذن؛ الفتنة هي المحنة، وتعني الشدة التي يتعرض لها المرء في هذه الحياة الدنيا، ولكن عندما نقف عند العلماء والجماعات الدينة، فإنها تعني الاضطهاد الذي يتعرض له المرء من قبل ذوي النفوذ والسلطان بغض النظر عن مقدار هذا الاضطهاد.
هناك معنى آخر للفتنة وهو الانقسام الداخلي الذي يمزق أحشاء الجماعة والأمة، أو يمكن القول بأنَّها الحرب الأهلية، وقد جاء ذلك في قوله تعالى في سورة البقرة: "وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ"، وقوله تعالى في سورة التوبة: "أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا"، وقد جاء هذا المعنى في سبعة أو ثمانية مواضع فقط. ولكن لو انتقلنا إلى الأحاديث والآثار الواردة لوجدناها رجحت كفة المعنى الثاني؛ حيث جاءتْ الأحاديث مُحذِّرة من الانشقاق والحروب الأهلية.
بعد مقتل عُمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وإعلان عثمان بن عفان ثالثَ الخلفاء الراشدين، لم يكن هذا الإعلان ليسُر الجميع؛ في تلك الأثناء بدأت الفتنة تستوي على نار هادئه حتى أعلنت جماعة من المسلمين الخروج على عثمان وقتله، وهذا ما حصل فعلا. من هنا، كان الانشقاق في الأمة الإسلامية، وكما قال الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان يصف مقتل عثمان بأنَّه حبل الله الذي انقطع؛ استنادا لقوله تعالى: "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا". كانت هذه الفتنة الأولى في الأمة الاسلامية؛ حيث اشتملتْ هذه الفتنة على العديد من المعارك، والتي راح ضحيتها أربعة من خيرة الصحابة؛ هم: عثمان وعلي وطلحة والزبير. ثم تلتها الفتنة الثانية وهي مقتل الإمام الحسين -رضي الله عنه- ثم الفتنة الثالثة وهي انفصال العراق عن الشام، حتى آخر فتنة وهي بعد مقتل الوليد بن يزيد عام 125 هجري وسقوط الأمويين وقيام الدولة العباسية.
وتعكسُ لنا الأحداث التاريخية الموقف العام من الخروج على الحاكم؛ حيث بدأت الفتن من الخروج على عثمان، ثم علي، ثم الوليد بن يزيد، ولم تستقم حال الأمة بعد هذا الخروج، فهل فعلا الخروج على الحاكم فتنة؟ وهل أصاب الفقهاء والعلماء في النهي عن الخروج على الحاكم؟ إنَّ الأحاديث الورادة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- جاءت تارة تنهى عن الخروج على الحاكم، كما قال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ أَطَاعَ الْإِمَامَ فَقَدْ أَطَاعَنِي"، وتارة أخرى تؤيد الخروج كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ". إذن؛ الأحاديث النبوية تعكس لنا موقفيْن مختلفين من السلطة؛ مما خلق حيرة في أذهان العلماء والفقهاء، حتى استقروا إلى عدم تأييد فكرة الخروج على الحاكم مُستندين بذلك إلى الأحداث التاريخية؛ فهل النهي عن الخروج جاء قرارا سياسيا أم فقهيا؟ وهل تجاوزت الفتنة حدودَ الفقه لتصبح في دائرة الأحكام السلطانية؟ وهل مفهوم الطاعة هو ديني أم سياسي؟ وما موقفها من الحاكم الجائر؟ بغض النظر عن الانقلاب على الحاكم أو الخنوع له، كيف يُمكن للأمة وصف الحرية في ظل هذا القرار؟!
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في كتابه "منهاج السنة": إنَّ الخروج على أئمة الجور كان مذهبا قديما لأهل السنة، ثم استقر الإجماع على المنع منه. ألم يكن المذهب القديم إجماعا؟! في المقابل، لا يجوز الخروج عنه. وهل فعلا تم التقيُّد من قبل أهل السنة في تطبيق هذ الحكم في الوضع الحالي؟ تؤكد وثيقة ترشيد العمل الجهادي أنه لا يجوز الخروج على الحاكم إلا في حالة واحدة وهي كفر السلطان آخذين بذلك بعض الأدلة المرفوعة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن عبادة بن الصامت: ماذا لو كان الحاكم كافرا، وقد أعطى الأمة الحرية في الجانب الروحي والاجتماعي والسياسي، هل يجب على الأمة الخروج عليه؟ وما علاقة العلمانية بالخروج على الحاكم؟ محمد حلمي عرض موقفا وسطا من الخروج؛ آخذا بذلك آليات الخروج في عين الاعتبار؛ بحيث أنَّه من حقِّ الأمة الخروج على الشرعية وفق ضوابط ودوائر تحول دون الفتنة من خلال التأكيد على ضرورة احترام الشرعية الدستورية؛ في إطار العمل السياسي والاجتماعي العام. وبهذه المنهجية، يُمكن حقن الفتنة في حيز مغلق في المقابل يضمن حق الرعية دون الوقوع في الفتنة.
... إنَّ حديثَ العلماء والأدباء حول حالة الضعف التي تعصفُ بالأمة الإسلامية كان جليًّا في الكثير من الكتب؛ ومنها كتاب أبي الحسن الندوي "ماذا خسر العالم من انحطاط المسلمين؟!"، وغيره الكثير مما كان عاملاً حافزاً لضرورة العمل الجهادي؛ وهو ما أدى إلى ظهور الحركات الإسلامية والتي تسعى في بداية حركتها إلى نشر العلوم الاسلامية وتأصيلها، ومن ثم تتحوَّل إلى حركة سياسية طامحة لسلطلة منادية بأن العقيدة والمنهاج القويم هي العقيدة الإسلامية، وفي الحقيقة تخفي في عباءتها العنف والهمجية. كما قال شهيد الإسلام سيد قطب إنَّ كلَّ الحركات السياسية جاهلة ما دام هدفهم هو تعبيد الناس لربهم؛ استنادا لقوله تعالى: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ".
فما هو مستقبل الحركات الجهادية في الوضع الحالي؟ وهل أعطت وثيقة الترشيد الجهادي مساحة من الحرية لممارسة هذه الحركات الدور السياسي السلمي في ضوء الشرعية الجهادية، أم أنَّ الحركات الجهادية عادت للوراء لتمارس مجالها الأصلي وهو المجال الدعوي؟ لماذا كان رد الرجل الثاني في القاعدة أيمن الظواهري ردًّا قويًّا على وثيقة الترشيد الجهادي؟ وهل كان هدف الوثيقة تشكيك الجهاديين في منهجهم؟
... إنَّ نظرة أيمن الظواهري التي كان يَرَى بها وثيقة الترشيد الجهادي كانت كفيلة لإعادة صفوف المجاهدين بعد أن طرح ثلاثة أسئلة تتعلق بالسياقات التي صاحبت الإعلان عن الوثيقة؛ وهي: لماذا خرجت الآن؟ ولصالح من وُزِّعت؟ وكيف كتبت هذه الوثيقة؟ حيث يُؤكِّد أنَّ هذه الوثيقة ما هي إلا محاولة فاشلة للتصدي لموجة الصحوة الجهادية التي هزَّت كيانَ العالم الإسلامي. يُلخِّص الظواهري قوله بأنَّ الوثيقة لا تمُت لمصلحة مصر والعالم الإسلامي بصلة، خاصة في نظام الحكم الحالي، وهنا ينتقل الظواهري من لغة الدين إلى لغة السياسة، ويتساءل عن موقع الأخلاق، ثم يسأل العالم إلى أين تسير مصر؟ إلى قيادة العالم الإسلامي أم إلى التبعية والدونية؟!
